المدن وزمنها

2013-04-10
أوراق قديمة

ليس المكان مكانا حتى نتعرف عليه وليست المدينة مدينة حتى نقيم فيها، المدن بالنسبة للسائحين صور تتطابق مع فكرتهم عنها، أو مع رغبتهم فيما يمكن أن تكونه، صور تتغير بتغير الأشخاص.

رأيت مدنا كثيرة، لكني لم أعرف سوى القليل منها، المدينة الأرسخ في الزمان وفي الذاكرة هي مدينة الطفولة، أما المدينة التي سأتحدث عنها فهي المدينة التي عشت فيها طفولتي الثانية، مدينة طفولة أخرى، جعلت منها طفولتي الثانية، فحين يكون للمرء طفل لا يستعيد طفولته إلا أنه يعيش طفولة ثانية فيتعلم أن يرى العالم بدهشة كان قد نسيها وبعين لم تكدر حدتها غشاوة الاعتياد.

يطرق جارنا الباب كلما أشرقت الشمس، ما أقل ما تشرق الشمس في صيف لايبزك، فنخرج للنزهة، نقطع الممر الذي رسمته أقدام المارة بين الدغل الذي ينمو على حافة البحيرة والحقول التي تمتد يمينه، نمضي أحيانا أبعد من ذلك، فنقطع شارعا مرصوفا يشق حقول الذرة، يبحث جاري عن عرنوس ذرة مترع يقضمه ونحن نتابع السير على الطريق التي ترتفع ارتفاعا هينا وتقود إلى مستعمرة من حدائق يكون أصحابها قد غادروها في هذا الوقت من المساء إلى مساكنهم، ولا يسمع صوت هنا سوى أصواتنا، وبين حين وآخر تصفر قبرة على شجرة تفاح أو كرز، نعثر على طير كناري طار من قفصه، ينكمش على حافة الطريق مثل طفل ضائع، لن يستطيع أن يجد الطريق إلى بيته ثانية، ولن يستطيع أن يعيش في عراء الحقول. نمسك به فيستكين بعد مقاومة، نحمله إلى غرفة سكننا الوحيدة. لن يألف محمد هذا الضيف الذي ينطلق مثل سهم في فضاء الغرفة، يبحث عن مكان أكثر الفة من خزانة الملابس ورفوف الكتب. أهديه في اليوم التالي لإحدى عاملات التنظيف، ستشتري له قفصا ولها كتابا يعلمها العناية به.

لم تذكرني مدينة بموصلي كما ذكرتني لايبزك، فلم أعرف مكانا آخر يطرز الاقحوان حقوله على نفس النسق ويعبق بنفس العطر كما في المدينتين.

ما أكثر ما يأتي جارنا بعد منتصف الليل، يقرع بخفة على الباب، يريد رفيقا للحديث والنزهة، يذهب ف. معه، لم أشارك أنا في هذه النزهات الليلية، كنت أرعى نوم طفلي وأستريح من عناء النهار.

البحيرة الفضية تصنع من فضتها في الشتاء لوحا من زجاج براق تنطلق فوقه حشود من أطفال وشبان على أحذية التزلج، وأحيانا شيخ تجاوز الستين يمرق بنفس الخفة والرشاقة، ويبقى يتزلج في دوائر حتى يذهب الجميع. عندها لا نحتاج إلى قطع الطريق التي تدور حول البحيرة لنصل إلى الجهة الأخرى، فقد أصبحت الطريق سالكة وبقليل من الحذر يكون المضي في خط مستقيم فوق البحيرة إلى الجهة الأخرى أقصر الطرق. قبل ظهر أحد الأيام، وكان البرد قد اشتد حتى أن أحدا لم يخرج في مثل هذا الوقت، إنحدرنا أنا وطفلي فوجدنا أنفسنا في قعر إناء من خزف، نحاول التسلق للخروج منه ولا نكاد نبلغ حافته حتى ننزلق إلى القاع ثانية. ذعرت مثل طفل ارتكب خطأ ويريد إصلاحه قبل عودة أبويه، وجاهدت ببسالة لأعود بالطفل إلى الطريق التي اختفت ملامحها تحت الجليد.

قبل عامين، أم أنها ثلاثة؟ كنت في لايبزك وقد دعيت لإلقاء محاضرة عن أدب المنفى في ندوة نظمت في إطار معرض الكتاب الدولي، ليست الشوارع، ليست جميعها هي التي تغيرت. كان يوما ممطرا، ولم تستطع الأسواق المزهوة بتنوع بضائعها ولا محطة القطار في حلتها الجديدة أن تمنح المدينة بهاء، فالوجوه الغائمة، الوجوه المنغلقة المهمومة والخطوات المرسومة التي توثق لرتابة لا مفر منها هي التي تشكل صورة المدينة، لا طفل يفلت من يد أمه، لا امرأة تتعثر بكعب حذائها، ولا نظرة تلتقي بنظرتك.

وطني العلمي: "لا تنسي وطنك العلمي، ولا تقطعي الصلة به." قال عميد الجامعة بأبوة وقد ختم كلمته ومنحني اللقب العلمي.

لكني نسيت المدينة، ليس ثمة مكان إلا في زمانه، والأمكنة لا تتغير بتغير حجارتها وحدها ولكن بتغيير الأزمنة وبتغير نظرتنا إليها.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved