المرأة العربية بين الواقع والمأمول

2020-03-10

لا ريب ان المرأة من أكثر الطاقات تهميشاً في عملية التنمية في مجتمعاتنا العربية الشرقية . فهي مستلبة فكرياً، وأسيرة التقاليد والأعراف السائدة والمفاهيم الإستهلاكية البرجوازية والرأسمالية، التي جعلت منها متاعاً وسلعة في سوق الدعايات التجارية والأفلام الإباحية وصالونات التجميل، وأحياناً في سوق النخاسة . والمرأة العربية تعاني من رجعية في التعامل معها كعنصر فاعل في المجتمع، وتكابد الظلم والقهر المركب، وتتعرض للإضطهاد الطبقي والإجتماعي والإنساني .

 وبالرغم من أن المرأة خطت خطوات كبيرة على طريق تحررها الإجتماعي والسياسي والإقتصادي، وتمردت على التقاليد والنظم والقوانين الإجتماعية الجائرة، وخرجت من وراء الأسوار والأسلاك الشائكة والجدران المغلقة والأغلال الحديدية، التي تكبلها، لتتعلم وتعمل وتنتج وتساعد في حمل أعباء البيئة والأُسرة والأطفال، وتقود السيارة، وتجلس في المقاهي والمطاعم، وتدخن النرجيلة، وتشاهد الأفلام في دور السينما، لكن مع كل هذا فأن النظرة الذكورية والموقف الدوني السلبي تجاه المرأة لم يتغير وبقي على حاله .

 وهذا ان دل على شيء فيدل على الإزدواجية وانفصام الشخصية لدى ابناء مجتمعنا، والمثقفون منهم على وجه الخصوص، في تعاملهم وإهانتهم للمرأة . فمن جهة يؤمنون بحريتها ومساواتها وحقوقها، ولكن في التنفيذ والممارسة على أرض الواقع يتعاملون معها كماكنة تفريخ وأداة للمتعة وإشباع شبقهم وغريزتهم الجنسية .

 ولا جدال في أن مجتمعنا شهد تحولاً وتغيراً في المفاهيم والمنظومة القيمية والسلوك الإجتماعي، لكنه للأسف لا يزال يتشبث بالأفكار والمعتقدات والآراء والمواقف التقليدية المحافظة المشككة بقدرات المرأة وطاقاتها الإبداعية، وهي مفاهيم متغلغلة في عمق مجتمعنا . فكم من إمرأة قتلت بحجة الحفاظ على "شرف العائلة"، وكأن الشرف متعلق بها دون الرجل، وكم فتاة حرمت من الدراسة الجامعية بسبب الإختلاط بين الجنسين ؟! .

 والواقع أن المرأة نفسها تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية في استمرارية النظرة الدونية تجاهها، إذ أنها راضية بما غسل واقنع عقلها المنسجم مع تفكيرها السطحي، وعدم إيمانها بحقوقها ودورها الإجتماعي والسياسي،  وتعاملها مع نفسها جسداً وفراشاً وديكوراً ومكياجاً ولباساً وعطوراً وشكلا خارجياً وزينة وجمالاً تتباهي به في الأعراس والمناسبات الإجتماعية، وهمها في الحياة الدنيا الإرتباط بحبيب وشريك حياة على جواد أبيض وإنجاب الأطفال، ولا تسعى إلى إثبات مكانتها وتحقيق ذاتها ونيل حريتها وتحصيل حقوقها الإجتماعية ومساواتها مع الرجل .

 وبينما  التيارات الظلامية والأُصولية السلفية تساهم بقسط وافر بتكريس الثقافة الذكورية والنظرة السلبية تجاه المرأة، والتمسك بالرواسب الثقافية والإجتماعية، التي تضع المرأة في موضع القصور، وإشاعة الأفكارالرجعية التقليدية، إلّا أن الإسلام في حقيقته وجذوره وضع الأُسس والمرتكزات لتحرر المرأة وصيانة عفتها،  فكرمّها وأنصفها وأعلى من شأنها ومنحها حقوقها، واسترد جزءاً من كرامتها، وأمر بأن تعامل أحسن معاملة، وهذا الأمر يتجلى لنا في نصوص قرآنية كثيرة. لكن للأسف الشديد إن هنالك فرق بين النظرية والتطبيق، فما ورد في النص القرآني لا يطبق في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، التي انحرفت عن مبادئ وقيم واسس الدين المستقيم، وإنما تتحكم في ذلك العادات والتقاليد الجاهلية المتوارثة . وقد وجه الإسلام اهتمامه نحو المرأة منذ طفولتها ووهبها حق الحياة عندما قضى على أكبر جريمة ارتكبت بحق النساء في العصر الجاهلي، وهي عادة "وأد البنات" . كما إن الإسلام منح المرأة حقها في العلم والعمل والخروج والسفر وتقلد المناصب الإدارية العالية واستقبال الضيوف واختيار شريك الحياة وتنظيم النسل وطلب الطلاق في حالات معينة وكفل حقها في المهر والنفقة، وسنّ القوانين التي تصون كرامتها وتمنع استغلال جسدها واستلاب عقلها وترك لها حرية الخوض في مجالات الحياة،  ولكن المجتمع يصر على سلبها كل هذه الحقوق، ولا يكتفي بذلك بل يضطهدها ويقمعها ويستلبها .

 كذلك فأن الإسلام كرّم المرأة بأن جعل لها حقاَ شرعياً في الميراث، وهو حق ثابت منذ ان تكونت جنيناً في بطن أُمها، ويظل هذا الحق لها مهما كانت ظروفها المادية . لكن هذا الحق ضائع لدى اكثرية القبائل والأسر العائلات العربية، حيث تحرم المرأة من هذا الميراث او التركة، وغالباً ما يترتب على هذا الحرمان من نصيبها وحصتها  التهديد والوعيد والتنازل عن هذا الحق الشرعي والديني والأخلاقي والإنساني الطبيعي، عدا الشكاوى في المحاكم وانقطاع صلة الرحم بين الأُخوة والاخوات .

 غني عن القول، ان المرأة إنسان وحقوقها من حقوق الإنسان، وتحريرها مرهون بدرجة تحرر الرجل بالأساس، وأي اعتداء على كرامتها أو اضطهادها هو مس بالإنسان، فالمبدأ لا يتجزأ إنسانياً، ولذلك فان التعامل مع المرأة مجرد جسد أو وعاء جنسي وسط نسق من المفاهيم والقيم الثقافية والمجتمعية، فيه امتهان واحتقار لها ويسلبها شخصيتها وكينونتها وإنسانيتها .

 خلاصة القول، إن مجتمعاتنا العربية بحاجة إلى تطوير وترسيخ النظرة التقدمية الإنسانية العصرية والحضارية للمرأة، ومن الضروري أن تتخلص الأوساط المثقفة الطليعية، الفكرية والسياسية، من ازدواجيتها وعزلتها ومعاييرها، وتشديد النضال الدؤوب والمثابر لأجل التغيير ودعم المرأة ومساندتها والوقوف إلى جانبها في سبيل تحررها واعلاء مكانتها، ومحاربة كل الأفكار الرجعية الظلامية، التي ترى فيها ناقصة عقل ودين، ومجرد اداة للمتعة والجنس وتربية الأطفال، وتقف حجر عثرة أمام تقدمها ونهوضها الإجتماعي الحضاري، فالمعيار الأساسي لتقدم ونهضة المجتمع يقاس بالموقف من المرأة وحريتها، ولا تحرر لها إلّا في إطار الحركة السياسية والإجتماعية النهضوية، وقضية تحررها جزء لا يتجزأ من قضية التحول الديمقراطي المجتمعي العصري والحضاري والمدني .

 

 

 

 

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved