المتاجرة واستغلال أوجاع ضحايا النزاعات / اللاجئ أنموذجاً

2019-02-12
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/b9311af0-7b72-4ded-b831-9e27c798d25e.jpeg
ليس خافيا ان أعلى نسبة لاجئين في العالم هم من شرق أوسطنا المبتلي بساسة دكتاتوريين وأمراء حروب ومختلقي نزاعات نتج عنها هذا النزوح المدمر بحيث تحولت عدة أماكن وبقاع في أراضينا غير المأهولة وشبه الصحراوية الى ملاجئ عدة ، وليس سرّاً ان تكون تلك الملاجئ في المستقبل مستوطنات دائمة يعتادها اللاجئ سنة اثر أخرى لتكون موطنا وتوطينا مثلما كثرت في سوريا ولبنان والاردن واليمن والعراق وغيرها من الدول المبتلية بالتخلف الفكري والفوارق الطبقية والنزوع الطائفي نتيجة الاستهانة كبيرة بدولة المواطنة من خلال انتشار النرجسيات الدينية والتمايز العرقي والاثني بين ابناء الوطن الواحد ووصلت حالات الكراهية الى مستوى اهل الحي الواحد وهذا ما يريده ساسة التفريق والتمزيق لكي يزيدوا من بقائهم اعلى السلطة ويتحكموا بالملأ العريض المغلوب على أمره .
تتراءى صورة اللاجئ أمامي كيانا مفزوعا قلقا كارها للحياة التي أوصلته الى هذا المكان الجديد الغريب عليه ؛ فيَصل الى مثواه الجديد وكأنه مقبرة الحياة لا الموت ويتمنى من كلّ قلبه لو مات واتخذ القبر الحقيقي مغارة أبدية له ويرى خياما منصوبة فيدخل إحداها التي خصصت له وسيقضي ليلته منزعجا جدا لكن سلطان النوم والإنهاك يرغمه على ان يغطّ في غيبوبة سرعان ما تتخللها يقظة بسبب كابوس مرعب فينتفض هلعا لكنه يعاود الكرة لينام مجددا مرغما على استعادة نشاطه البدني .
وهكذا يقضي ايامه ولياليه منزعجا متذمرا بشكلٍ لايطاق وشيئا فشيئا يخفت هذا الانزعاج والتذمر ، وبعد ان تمر شهور عدة يتآلف مع المكان حتى تصبح تلك الخيمة سكنا ودودا وملاذا جميلا فيقع في حبّها ويعتاد عليها كما يعتاد الميت على قبره ويأنس اليه وهو صامت .
انقضت سنة وبدأ المعنيون من رعاة المجتمع المدني والمنظمات الانسانية الدولية بخليطهم البريء والمنتفع من ذوي النوايا الحسنة وغير الحسنة يقيمون مدرسة ابتدائية هنا ومركزا صحيا هناك لحاجة في نفس يعقوب وحاجة أخرى لملء الأرصدة والجيوب .
بدأت ملامح البهجة والسعادة ترتسم في وجهه وسيدخل اولاده ليتعلموا القراءة والحساب ، وتدريجيا ستمّحي فكرة حسن المآب الى مرتعه الاول وسينال شيئا يسيرا من الطبابة لتضمد أوجاعه الاولى تمهيدا لشفائها تماما ونسيان ما عانى طيلة فترة نزوحه وتركه بيته الاول ومحتده ومنبته وملاعب صباه وفتوته .
هنا ستتفتح قريحته ويطول لسانه مدحاً لا قذعاً ويكيل الشكر والثناء للساعين الى تحسين وضعه ويقف امام كاميرا الصحافة مزهوا مشيدا بالمساعي الحميدة التي وفرتها له هذه المنظمات من اجل استقراره في مقبرته الجديدة ويطيل لسانه اكثر ليطالب بمساكن بسيطة بدل الخيام التي أخذت تتهرأ وتتمزق بفعل الشمس الحارقة والرياح السموم صيفا ، وبالإمطار والوحول والرياح الباردة في الشتاء .
ها هو بدأ يتكيّف مع وضعه الجديد الذي كان يزدريه وصار يرضيه ، أليس الانسان اكثر مخلوقات الله تكيّفا في أشدّ الاحوال سواء  قرّاً ام صرّاً ، بقعةً غنّاء ام صحراء  تراه يتنفس الصعداء مثلما يأنس الغبراء فيوسع صدره نسائم عذاباً ويشهق ويزفر ترابا .
انت ايها اللاجئ لو ارتضيت مثواك الجديد وعملت على تحسينه عمرانا بسيطا واتخذت من الصبر ضمادا مطببا لجراحاتك وبلسما لأحزانك وتعلّم أولادك ورفيقة عمرك بلهجةِ : هذا ما كتب الله لنا  وتوصي جارك على التمسك  بالصبر كأنك تبني شاهدة قبرك بيديك وتعمّق حفرة قبرك بفأسك وزنبيلك وتنذر بوفاتك القريبة جدا وانت تعيش الحياة .
لاتهزج ولاتهلل فرحا لو زارك السياسي حتى اذا كان من ابناء جلدتك ممن تظن انه من مناصريك والمدافعين عنك ، فهذه الزيارة ترويج له على إعادة تدوير انتخابه مجددا في الدورة الانتخابية اللاحقة لانك أصبحت سلعة في سوق السياسة ويزايدون عليك ، فأنت الان قد صرت بضاعة رائجة وسُلّماً يرتقي على أوجاعك الباحثون عن المنصب والجاه والحظوة ويجعلون ظهرك مركبا سهلا للوصول الى غاياتهم .
 وقد تتفاجأ بوصول من تعتقدهم انهم متضامنون معك ومع صحبك اللاجئين فاعلم ايها اللاجئ المحزون انهم  يستغلون المناسبات الدينية والأعياد ليهبوا لك البخس من الأشياء غير النفيسة ليظهروا امام الشاشات انهم القدوة المحسنة وقد يبلعون الوفير منها في أحشائهم ويضعونها في أرصدتهم ولم تنل الا الفتات وفضلات المائدة  وبقايا الدراهم المعدودات من العملة النحاسية وربما الفضية في أسوأ الاحوال . 
اما حصة الاسد من المال الوفير والاوراق الخضر فجيوبها ليست لك فانك منخرق الجيب ومهلهل الثياب ، وأوصيك ان لاتعبأ بهم إطلاقا لانهم سيجعلونك احد شعاراتهم الانتخابية وهدفهم التقرّب من السلطة والنفوذ من خلالك فأنت السلّم الذي يرتقي بالواهنين الى الأعالي وأحذيتهم دائما تعلو رأسك ورأس صحبك المساكين .
تذكر ايضا  ان كثيرا من الوفود الزائرة من غير مواطنيك سيفاجئونك بزيارتهم من منظمات أجنبية لا حصر لها بدءاً مما يسمون انفسهم رعاة حقوق الانسان ليظهروا نرجسياتهم باعتبارهم من المدافعين عنك وعن رهطك المكدود المرهق وسفراء النوايا الحسنة لإثبات حسن جهدهم ونواياهم الطيبة وكذا الصحافة العالمية لتتصيد السبق الصحفي وأطباء بلا حدود كي تتباكى على أسقامكم وباحثون على الشهرة ليظهروا أنهم سوبرمانات في التعاطف ومصورون يريدون ان يلتقطوا صورا تذكارية قد تفوز إحدى لقطاتهم بجائزة دولية وينالون نصيبهم من آهاتكم ويملئون الصحافة والإعلام ضجيجا وتهريجا إدعاءً بأنهم النخبة الإنسانية المنتقاة التي تقطر نبلاً وتعاطفا .
إياك اياك ان تلتقط الصور المجانية مع الكاميراتيين النرجسيين بواسطة هواتفهم المحمولة وتُظهر أولادك الجائعين المرضى وهم في أسوأ حال بسبب سوءات الطقس والحياة البائسة سواء في الصيف او الشتاء ولا تُريهم طعامك المغطى بالتراب وخبزك المليء بالحصى ومياهك الداكنة من جراء الأطيان والمخالطة بالأوحال . 
صمَّ فمك عن الاستغاثة بذوي المروءة وأصحاب الشهامة والنخوة من أهليك العرب والمسلمين وابناء وطنك الامّ ، فقد صرت الان مادة دسمة للإثراء ووسيلة ناجحة لطلب الجاه والحظوة والمنصب وتحقيق السيادة والزعامة لغيرك ، فإنك الان قد مهّدت الطريق لمتعطشي المال والشهرة ليستخدموك لا ليخدموك .
ولتعلم ان العودة الى المنبت والمحتد والمسكن الاول هو الحل الأمثل والأجدى والأنجع والأسلم ، فالخيمة في مكانك هذا لابد ان تكون بائدة على مرّ الأيام ، ولا ينفع رتقها وإصلاحها بخيوط واهنة من منتجات ومشاغل القومية والاثنية والطائفية ، ولا ينجيك الا سقفك الأول فهو حماك ومرتعك الآمن ومربعك الحصين  .
ولا تنسَ ان رمضاء الوطن وهجير هوائه  ورياح السموم فيه أقلّ إيلاما مِن فيءِ الملجأ ، وهذا هو الفرق بين الوطن المسكن والتوطين والتسكين .

جواد غلوم
jawadghalom@yahoo.com

جواد غلوم

خريج كلية الآداب/جامعة بغداد / قسم اللغة العربية لعام 1974-1975. عمل في التدريس بعد التخرج لغاية العام/1990 وفي الصحافة وهو طالب في الجامعة ونشرت في معظم الصحف والمجلات وقتذاك. سافر إلى خارج العراق بسبب الاضطهاد وظروف الحصار وعمل خلالها أستاذا في الأدب العربي/ ليبيا. عاد للعراق سنة/2004 وينشر في العديد من الصحف الورقية والالكترونية. ولديه اربع مجموعات شعرية مطبوعة وكتابان بعنوان / مذكرات مثقف عراقي أوان الحصار، و قطاف من شجرتَي الادب والفن وهي مقالات في النقد الادبي .

jawadghalom@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved