الجمال هو الفن المتكامل .. والفن المتكامل هو الإبداع .. والإبداع يعني العقل المتجدد الذي يملك خيالا خصبا في رسم ذلك الجمال بشكل هندسي مبرمج يستوعبه المتلقي ويراه فن راقي متكامل . الجمال لا يكتمل إلا من خلال اكتمال النصاب الإبداعي فيشعر به المتلقي جسدا لا ينقصه أي طرف ، ونأخذ مثلا فن الشعر أو القصة أو أي نوع نثري .. فهو بحاجة إلى أجواء تساعده على تقديم صورة رائعة من الجمال تتمثل بالقاعة و الإنارة والصوت والموسيقى المرافقة .. الخ ، كذلك في الفن التشكيلي ، تضيف إلى اللوحة جمالا آخر عن الاهتمام بكمية الضوء الساقط على اللوحة وحجم قاعة العرض ولونها ونظافتها ونوع الفريم والقماش المستخدم ونوع الموسيقى المرافقة ...الخ .
إن المرافقة الموسيقية لهذه الفنون مهمة جدا تضيف الجمال وخلق الأجواء التي تساعد على شد المتلقي للعمل والاستمتاع به ، وهذا التلازم الموسيقي يسمى ( باكراوند ) أو الخلفية الموسيقية .
يطرح سؤالا نفسه .. ما هو الفرق بين الموسيقى المرافقة والموسيقى التصويرية ؟
إن الموسيقى المرافقة أو (الباكراوند) هي أبسط من حيث التركيب مع الشعر أو القصة أو اللوحة أو السيراميك ...الخ ، كونها لا تحتاج إلى الدقة في ترجمة تلك الثوابت الخالية من المشاهد الحركية .
أما الموسيقى التصويرية فهي عملية دقيقة وصعبة تحتاج إلى خبير موسيقي متخصص يستطيع ترجمة الصورة أو المشهد أو الفكرة إلى موسيقى أقرب إلى الحدث .
إن المشهد أو الصورة أو الحركة هي خالية من الحيوية ، فهي مجردة لا تترجم الحوار أو الفكرة إلا بعد دمجها مع الموسيقى فتصبح متكاملة الفهم ، فعند وضع الموسيقى لعمل معين لا بد من تقدير تلك التقلبات الأدائية منها ( الخوف ، الفرح ، الانتصار ، التفكير ، الخسارة ، ...الخ ) كلها متغيرات تحتاج إلى ترجمة صادقة في تقريب الجمالية للمشاهد .
هنا تتبين قدرات المؤلف التخيلية الجيدة في استخدام نوعية الآلات الموسيقية التي تتناسب مع متطلبات العمل ، كذلك المؤدي الجيد على هذه الآلات ، وأيضا الاستعانة بالمؤثرات الصوتية ، ليأخذ منها ما هو مناسب لاستخدامه ضمن مواقف معينة داخل العمل .
كيف يضع المؤلف موسيقاه في العمل المشهدي ؟
يحتاج المؤلف أن يكتب الثيمة الموسيقية الأساسية وهي مستوحاة من العنوان والمضمون العام من ناحية ، والانتقالات الحوارية والانفعالية من ناحية أخرى ،فهذه الجملة تعتبر بمثابة محور العمل كما هي البطولة في أدوار التمثيل .. ثم يقوم المؤلف بتطوير هذه الثيمة إلى مجموعة من الجمل في نفس الجو ، من خلال أدائها في درجات أو طبقات موسيقية أخرى أو تبديل سلمها الأساسي إلى سلالم أخرى ، وكذلك تغيير إيقاع سرعتها حسب طبيعة الحوار والمكان والموقف .
هناك العشرات من النماذج يمكن إجراء المقارنة بينها وإيجاد الثوابت منها والمتغير من ناحية الجمل التصويرية فيها ، على سبيل المثال نأخذ فلم ( الرسالة ) هو عمل كبير جدا من الجانب الأدائي و الإخراجي ، فكانت موسيقاه التصويرية واضحة في التميز وهي من تأليف الموسيقار الفرنسي (موريس جاك ) ، فهي مستوحاة من سلم الحجاز وتعتمد على ثيمة أساسية مأخوذة على نمطية طابع الأذان ، فنجدها فردية مع مجموعة من المشاهد مثلا مشهد نزول الوحي ، ونجدها ممزوجة بتنويعات إيقاعية عنيفة في مشاهد أخرى مثلا في مشهد الحرب وإعلان الرسالة ، ونجدها مؤداة من قبل أوركسترا ضخمة وكورال كبير في مشاهد كما هو في مشهد فتح مكة ، وغيرها .
وضع المؤلف موريس جاك هذه الجملة المتنوعة فصارت تترجم كل التحولات لمشاهد الفلم وملاصقة لكل الأحداث ، حتى الصمت فله وقع خاص على المتلقي موسيقيا عند مشهد استشهاد الحمزة متمثلا في ذلك الصمت المفاجئ ، هذا هو دور الموسيقى التصويرية في ترجمة أحداث الفلم .
ونأخذ نموذجا آخر كي نفهم أن الموسيقى التصويرية تترجم ماذا ؟
أنها القلق والخوف والإحساس بالمراقبة والسعادة بالنصر في مسلسل ( رأفت الهجان ) الذي وضع موسيقاه الفنان المبدع ملك الموسيقى التصويرية ( عمار الشريعي ) فهذا الفنان استطاع أن يضع أسلوبه التصويري في العشرات من الأفلام والمسلسلات كلها تترجم الأحداث بدقة وعناية لتوصيل المشهد بأداء تمثيلي موسيقي متجانس ، رأفت الهجان في ذهابه إلى إسرائيل نجده بنمطية الجملة الأساسية ففي هذا المشهد نسمعها بطيئة مليئة بالقلق ، وفي مشهد آخر ، عندما يلتقي ضابط المخابرات المصري نجد هذه الثيمة تحولت إلى سرعة جديدة في هذا المشهد نسمعها سريعة الضربات حماسية فيها شد للحوار والحركة والحنين للبلد ، كذلك تلك الصراعات المتنوعة وذلك الكابوس الملازم له وحبل المشنقة المتدلي أمامه ، كلها موسيقى تتحدث بلهجة تلك المتغيرات ، وضع الشريعي هذه الموسيقى في هذا المسلسل كي تبقى ملازمة في ذهن المتلقي لا تزول لأنها مؤثرة داخل المسلسل ، كأنها هي البطولة .
إن الموسيقى التصويرية الحديثة أخذت نمطية جديدة تنسجم مع واقع التطور الفكري الإنساني ، ففي العديد من الأعمال نجد المحترفين المختصين في مجال الموسيقى التصويرية ، يستعملون أنواع من الأصوات التأثيرية الغريبة المصدر ، وذلك لإيصال التزاوج الصوري والموسيقي بأحلى هيبة ، فنجدهم يأخذون الأصوات المتنافرة ( أصوات النشاز ) وكذلك يستعملون بعض المواد الخام ( مجموعة من الخشب أو الزجاج أو المعادن وغيرها ) فيستخرجون منها الأصوات بواسطة الضرب بعضها مع البعض أو الاحتكاك أو التكسير أو الحرق وغيرها ، للحصول على الصوت المناسب ، وهذا ما نجده مطابقا في مشاهد الإثارة والرعب والخيال العلمي والحروب والدمار وغيرها .
أخيرا .. أن الموسيقى التصويرية هي علم واسع ، يحتاج إلى العقلية الاحترافية والحسية في ترجمة وفهم لغة الحركات والمشاهد والأفكار لصناعة ثوب مناسب مع جسد العمل فيكون أنيقا أمام الجمهور .
الكاتب:وليد حسن الجابري