هل تبدو العلاقة بين شعرنا العربي المعاصر وموسيقانا العربية المعاصرة مقطوعة ؟
هذا سؤال يقودنا الى مجموعة من الأسئلة الصغيرة، ولأننا ازاء موضوعة قابلة للاستطراد كهذه، لذا وجب تحديد بعض المنطلقات الأساسية التي تخص علاقة شائكة ومعقدة، فحين نقول ( الموسيقى العربية المعاصرة )، فنعني تحديدا: المحاولات التي تخرج عن الطابع الغنائي السائد – غالبا ما يكون عاطفيا – والتي تحاول أن تخرج من صفتها الإلحاقية بالأغنية والاحتفاظ بمستويات تعبيرية كموسيقى مكتملة البناء بحد ذاتها .
وحين نقول ( الشعر العربي المعاصر )، فنحن نعني التجارب الكتابية التي اكتملت ملامحها وابتعدت عن منطقة التجريب المتأرجحة واكتسبت حضورها الفاعل بين جمهرة المتلقين العريضة .
من هنا أرى ان تجربة الشاعر محمود درويش تذهب في باب هذا التوصيف وهي فعلا واحدة من التجارب المؤثرة والفاعلة في شعرنا العربي المعاصر، بالمقابل وبما يشكل الطرف الآخر من المعادلة، تكون تجربة مارسيل خليفة وعلاقتها بنصوص الشعر العربي المعاصر هي الأقرب إلى ( موسيقانا العربية المعاصرة ) .
"أحمد العربي": نشيد الحصارات المتواصلة
المسار الذي اختطه الفنان مارسيل خليفة في عمله الموسيقي، لم يكن تقليديا، وهو غالبا ما كان يخضع أعماله للبحث والتنقيب والتغيير أيضا، وذلك أكسبه قدرة على تجديد بنية اسلوبه الفني، واستطاع بالكامل تغيير النظرة التي تشملها عادة، الأعمال ذات المنحى الاجتماعي في الأغنية، النظرة التي تقول إن تلك الاعمال غالبا ما تكون جافة وتلقي مواعظها بحماسة وانفعال دون أن تحتكم للجانب الفني العميق فيها.
وتلك النظرة عموما ظلت على حق، فأغلب التجارب العربية التي أدخلت موضوعة (الوعي الاجتماعي) موسيقيا وغنائيا، انتهت إلى الانكماش لعدم عنايتها بجنسها الفني، أي كونها (موسيقى) قبل كل شيء، كما أخذ عليها اختيار النصوص المفرطة في انفعالاتها السريعة وخطاباتها المباشرة.
كل هذه المؤشرات عاينها خليفة، اعتمادا على وعيه الشخصي وتجربته الموسيقية وقادته الى تقديم تجربة (أخرى) مكتملة الملامح إلى حد ما، وعلى الرغم من تقديمه موسيقيا عدة قصائد من محمود درويش في السبعينيات والثمانينيات مثل "وعود من العاصفة"، و "ريتا" و "جواز سفر"، إلا ان مغناة(1) "أحمد العربي"، تشكل علامة بارزة في مجمل عمله الموسيقي الذي قارب الشعر العربي المعاصر عموما، وشعر محمود درويش بخاصة .
ولأننا ذهبنا في عنوان البحث إلى إيجاد مقاربة موسيقية لشعر درويش، لذا سنتحدث وبطريقة العرض النقدي للبنية الموسيقية لمغناة "أحمد العربي" .
يبدأ خليفة باستهلال موسيقي ضخم (يعتمد تعدد مستويات التعبير لا ضخامة الأوركسترا وحسب) يصوغ لاحقا منه رؤية لكلام يعرف محمود درويش تكثيف الألم فيه وجعله ممزوجا بتلك الإيقاعات اليومية لحياة مؤجلة دائما، والصياغتان: الموسيقية واللغوية تحثان المتلقي على الوصول إلى أبعاد ورؤى لا تتوقف عند مدار سيرة (الحصارات) التي تمتد لأكثر من عقدين(2) في حياتنا العربية، الأبواق تعزف بقوة وتمهد لدفقات المشاعر الآتية عبر الكلام :
أنا أحمد العربي
جسدي هو الأسوار وأنا احاصركم
ثم تأتي ( الكمانات ) في تناغم متتال لينتهي اللحن عبر جملة يؤديها (الفلوت) ولتبدأ معه رحلة عميقة للنفس إذ تشكو الوحشة والغبار القادم من الأفق وتأخذها إلى :
سنة انفصال البحر عن مدن الرماد ...
ثم وحدي ... آه وحدي ...
العمل هو نشيد في دلالاته الجماعية، وهو في آن نشيد روح وحدها تناشد بقايا الأمل :
فلتذهب الى قلبي ...
الآن أكمل فيك أغنيتي ...
الآن أكمل فيك أسئلتي ...
وآلات النفخ الهوائية و (الأبواق) تحديدا، تأخذ مركزا تحريضيا كأنها (تنفخ) في سبات النفوس وتوقظها على مفاجآت الأيام المقبلة.
والبناء الموسيقي في (أحمد العربي) لا يستعيد شكل العمل الموسيقي الكلاسيكي الغربي ( لجهة الأوركسترا السيمفوني على الأقل)، وانما يعتمد على إقامة اتصال محلي مع ذلك الشكل، فيذهب اللحن إلى شرقية تنغيمية وعربية في الصوت المنشد (فرديا وجماعيا) وجعلها لحنية عربية (مختلفة) بحسب الجهد المبذول في إبعاد صفة التطريب عنها.
ويستخدم خليفة كإجراء موسيقي لافت ( لكورال) إضافة إلى صوته، وصوت رقيق وتعبيري في آن مثلته المغنية المقتدرة أميمة الخليل، كون النص الشعري قائما على تعدد الأصوات، ومن هنا كان استخدام (الكورال) اجراء ناجحا لنقل هذا التنوع الصوتي في النص الشعري إلى مستواه الموسيقي ثم الغنائي.
هوامش:
(1): يصف الموسيقار مارسيل خليفة عمله بـ" غنائية أحمد العربي"، والكاتب هو من اقترح تسمية "مغناة" التي قاموس يعرفها "المعاني" بـ "مَسْرَحِيَّةٌ شِعْرِيَّةٌ تُغَنَّى وَتُعْرَفُ أَيْضاً بِالأُوبِرَا".
(2): نشر البحث ضمن كتاب وضعه عدد من الشعراء والكتاب عن درويش وحمل عنوان "المختلف الحقيقي" وصدرت طبعته الأولى عن "دار الشروق" عمّان 1999.