فوجئت من أطراف عدة- تطرح في حوارها حول قضايا المجتمعات العربية ، خاصة بعد الانفجار الثوري في سوريا، موضوع المؤامرة "الاستعمارية الصهيونية" ، وهناك من اشترى هذه البضاعة التبريرية ، عن الدور"الأمريكي والصهيوني والأوروبي" ( هكذا بربطة واحدة)...دون تحديد ملموس لنوع التآمر، أسلوبه تأثيره أشكاله أدواته محركاته أهدافه، وكان التآمر اوجد خصيصا كأداة ضد المصالح العربية .
لا ننكر أن هناك دورا لقوى دولية وأخرى منطقية، وليس من إسرائيل فقط، تعمل جاهدة لتحقيق برامجها ، في ظل غياب أي برنامج قومي عربي مشترك أو لدولة منفردة على حدة. ولكني أرى مثلا أن الدور (أو الموقف) الأمريكي والأوروبي في مصر سرع في رحيل مبارك، وهذا لم يكن سلبيا، بينما الدور (الموقف) الإسرائيلي أراد بقائه وتخوف من سقوطه.
الإدارة الأمريكية فهمت أنها ستخسر إذا واصلت التمسك بنظام مبارك الفاسد أمام ثورة شعبية سلمية مدنية أخرجت مصر كلها إلى الشوارع، بينما إسرائيل رأت مصالحها باستمرار نظام الفساد والنهب والقمع ضد الجماهير المصرية، ضمانا للسلام (الاستسلام) معها باستمرار نظام السادات - مبارك.. ولتذهب الديمقراطية والتقدم الاجتماعي والاقتصادي للشعب المصري إلى الجحيم.
النظام المصري الساقط فقد دوره العربي القيادي قبل أن يجلس مبارك على رئاسة الجمهورية. وشخصية مبارك الانهزامية، ربما لهذا السبب اختاره السادات، وويكيليكس كشف بإحدى وثائقه أن السادات قال لشريكه في اتفاق كامب ديفيد ، مناحم بيغين، انه إختار مبارك نائبا له ليواصل السلام مع إسرائيل. ومبارك لم يحد عن تحويل مصر إلى وسيط إسرائيلي ذليل ، مع أنظمة عربية لا تملك كرامتها، قدم خدمات للعنجهية الإحتلالية والانفلات القمعي ضد الشعب الفلسطيني، وضد شعوب عربية أخرى، لبنان مثلا، بصمت مصر المدوي ( حتى استنكاراتها كانت مجرد ظاهرة صوتية تعرفها إسرائيل سلفا)، واستطيع أن أقول بدون تردد أن كل استنكارات العرب وضجيج قممهم ، بدت وكأنها تكملة اندماجية مع نظرية المؤامرة، التي ملأت الفكر العربي الرسمي ،ووسائل الإعلام السلطوية، وكل من يعمل على استمرار السكون السياسي العربي والتحرك إلى لا مكان. ولو كانت قناعة من الأنظمة أن هناك مؤامرات تحاك ضدها، لأعدت أدوات لمواجهة المؤامرات. وأجزم أن نظرية المؤامرات التي روجت كظاهرة صوتية عربية، خدمت سياسات الأنظمة القمعية .. وخدمت سياسات إسرائيل، ولم نسمع أن الدعم الأمريكي العسكري والاقتصادي الواسع لإسرائيل قد أثار ربع الاهتمام الذي كرس للثرثرة عن نظرية المؤامرة على المستوى السياسي للأنظمة وإعلامها، بل وقيل رسميا مثلا إن صفقة المليارات الخليجية للتسلح من أمريكا، لا قيمة لها في مواجهة السلاح الأمريكي الذي يخصص لإسرائيل، لم نسمع احتجاجا، بل الإصرار على مواصلة إنقاذ الاقتصاد الأمريكي بمليارات تحرم منها الشعوب العربية، لشراء عتاد لا قيمة عسكرية له في قضايا الأمن العربي، أو في خلق توازن استراتيجي يحافظ على بعض الاحترام للأنظمة العربية. أو في خلق فرص عمل لعالم عربي يعاني من 30% على اقل تقدير بطالة بين الشباب.
إن ما يجري في ليبيا واليمن، وعلى الأخص في سوريا هو نسخة مكررة من مصر وتونس انتفاضة شعبية كسرت حاجز الخوف، ولم تعد تحتمل الفساد والقمع. وكان رد الأنظمة الفاسدة متشابها، بأنها مؤامرة صهيونية أمريكية، إلى آخر الاسطوانة المملة، و"قمعت المؤامرة" بارتكاب الجرائم ضد أبناء الشعب. بدم الجماهير نغرق مؤامرات الصهيونية والاستعمار!!
ومن مفارقات القدر أن إسرائيل قلقة على النظام السوري. ربما أكثر من قلقها على سقوط نظام مبارك، ومعها حق، من سيحمي احتلالها ومستوطناتها ومشاريعها الاقتصادية المتطورة جدا في الجولان؟! من سيطلق صمامات البخار للتصريحات العنترية، كلما قامت إسرائيل بضربة ضد أهداف سورية وضد شخصيات سورية أمنية، ويواصل الصمت على سرقتها حتى للمياه السورية؟
هذا النظام عندما انتقدته في مقال سابق، تعرضت، بسبب نقدي لفساده وبلطجيته، إلى تهجمات شخصية في بعض المواقع، من أشخاص بدون بوصلة، لا يستحقون اللوم ولا الرد.
فقط ملاحظة عابرة، كيف يمكن لنظام يدعي القومية والثورية ومعاداة إسرائيل والاستعمار، وإصراره على تحرير الجولان (المحتل منذ 45 سنة) أن يحافظ على أكثر حدود أمنا وأمانا للمحتل، الذي يتصرف بأرض الجولان كما يشاء ؟ بل وأعلن بقرار برلماني عن ضم الجولان إلى إسرائيل، ومن الجانب السوري لم نسمع إلا جملة تقول إن "السلام هو خيار استراتيجي" ربما يعني نظام البعث أن "الاستسلام هو خيار استراتيجي، لأن ما نشهده منذ أربعة عقود هو استسلام استراتيجي.!!
الفلسطينيون نجحوا بجعل منتجات المستوطنات في الضفة بضاعة مرفوضة في الأسواق الأوروبية. لماذا لم يتحرك النظام السوري لانجاز مشابه ؟ ألا تعلم سوريا أن نبيذ الجولان الذي تنتجه المستوطنات الاحتلالية، يفوز سنويا بالمرتبة الأولى عالميا ويحمل اسم الجولان المحتل؟ على الأقل تعلموا من الشعب المشرد والخاضع لأسوأ احتلال استيطاني في التاريخ الحديث، دروس مقاومة الاحتلال بأبسط الأدوات، أدوات السياسة!!
كيف سيحرر الجولان مع الحفاظ على حدود آمنة للاحتلال الإسرائيلي، أكثر أمانا من الداخل الإسرائيلي؟ هل سرا أن الجولان صار أكثر أمانا من شوارع تل ابيب والقدس الغربية وحيفا ورعنانا ونتانيا وغيرها ؟ حتى حزب الله حرر الجنوب اللبناني، بثمن أرواح مقاتليه، وهو ليس ندا عسكريا لإسرائيل. هل سوريا أكثر عجزا من حزب الله، أم أن المخفي قد يكون رهيبا وبعيدا عن كل الفكر القومي والتحرري؟
هل تريد سوريا تحرير الجولان من لبنان وبدم أبناء لبنان؟
هل لبنان الضعيف، قادر على تحمل ردود الفعل الإسرائيلية وسوريا التي تجول دباباتها في شوارع درعا ودمشق والبانياس وحلب وحماة وحمص والقامشلي وسائر المدن والقرى، تفتك بأصحاب الوطن، عاجزة عن إطلاق رصاصة واحدة على المحتل لجزء من الوطن السوري منذ 45 سنة؟
يبدو لي أن وعي العديد من المثقفين العرب، لما يجري في الأوطان العربية، لا يعتمد على القوى الفاعلة في الساحة العربية، بل يجب أن نذكرهم دوما بأن هناك أصابع معادية،متآمرة، ربما تحرك الواقع العربي عبر "الريموت كونترول "،إلى جانب وجود قناعة مطلقة، بوجود عنصر المؤامرة.. ودائما المؤامرة أمريكية صهيونية صليبية استعمارية إلى آخر الأسطوانة المملة، ودائما يقمع الشعب من أجل صد المؤامرة!!
هذا المستوى من الوعي، وبهذا ألشكل البدائي يعني أمراً واحداً، إن القوى الناشطة على الساحة العربية، كلها دمى تتحرك حسب رغبة قوى متآمرة، وأن الناشط الفرد أو المجموعة، هي بالتالي تطبق سياسة التآمر بدون وعي أو بوعي .
وهناك حقيقة مؤلمة، أن الأنظمة العربية لم تكن قلقة من عار التخاذل والعجز عن الرد حتى عندما تقوم طائرات إسرائيل بتدمير منشئات داخل الأرض السورية أو بقتل جنرالات سوريون أو شخصيات حليفة لسوريا. الجواب السوري التقليدي المكرر بملل والذي نحفظه عن ظهر غيب بقرف واستهتار: "سنرد بقوة في الوقت والزمان المناسبين". ربما هو وقت وزمان سماوي قد يستغرق مليون سنة ضوئية.
الأنظمة المسماة وطنية زورا وكذبا لا يبدو أن لها مصالح أو تطلعات سوى ما صار من بديهيات السياسات العربية: الحفاظ على الكرسي وتوريثه،وتكريس كل جهود الأمن لضمان استمرار الحال . هكذا تنتصر القومية العربية ، رحمة الله على قومية النظام السوري .
أرى أن تعرض العالم العربي لمؤامرات هي بديهية سياسية، في ظل صراع قومي وسياسي وحضاري، من الأصعب دوليا. وعدم ذكره بعد كل جملة للمؤامرات، ليس لعدم رؤيتي خطرها، إنما أتحدث عن فشل أنظمة كانت تملك أن لا تصل بالوضع السياسي العربي، وبالوضع الاجتماعي والاقتصادي والعسكري، وبالوضع التنموي والتعليمي والنهضوي إلى باب مغلق لا يترك مجالاً إلا العداء والتنافر مع جماهير الشعب، هنا تدخل الأدوار التي لا تريد الخير لشعوبنا. وهنا الخدمة الكبرى للمؤامرات التي تشغل بعض "المفكرين" ( المرتزقة) وتجعلهم متراسا للدفاع عن نظام فاسد ومجرم بحق شعبه مثل النظام السوري.
صد المؤامرات لم يكن واردا بحساب الأنظمة. فلماذا نطرح الأدوار المعادية، قبل أن يصبح لنا أدوارا وإرادة ومؤثرة ؟.. قبل أن تصبح لنا إرادة ؟ قبل أن تصبح لنا أنظمة لها كرامة سياسية ؟ ما الفائدة من تكرار أننا عرضة للتآمر؟! ماذا فعلت أنظمتنا القمعية لقمع المؤامرات، كما هي شاطرة في قمع شعوبها؟!
هل من يقمع شعبه يقلقه أن هناك مؤامرة لإبقاء النظام مكانك عد؟ أم هي مؤامرة موصى عليها ومرغوبة ويجب قمع كل من يحذر من مخاطرها، لأن المؤامرة أصلا تريد إبقاء النظام الفاسد؟
الم يتعرض النظام الناصري في مصر للمؤامرات؟ الم يُفشل عبد الناصر مؤامرات القوى الاستعمارية العجوز ، بريطانيا وفرنسا وشريكتهم إسرائيل ؟ هل أفشلها بالأمنيات أم بالصراع ؟ هل أفشلها بالحفاظ على التخلف أم بالبناء والتحدي؟ هل أفشلها بالاستسلام أم بقلب الواقع السياسي داخل مصر وفي العالم العربي ودوليا؟
الم يكسر احتكار السلاح، المؤامرة الأخطر في وقته على العالم الثالث كله( لإبقاء العالم العربي والدول المتحررة في آسيا وأفريقيا ، رهينة بيد إسرائيل والاستعمار الحديث) ويسلح الجيش المصري بصفقة السلاح التشيكية ثم السلاح السوفيتي؟ الم يؤمم قناة السويس ويصد أشرس عدوان امبريالي ثلاثي ( إسرائيلي ، فرنسي وبريطاني)على مصر والمصير العربي رافعا مكانة مصر والعرب الدولية ؟ الم يبني السد العالي تحديا للبنك الدولي الذي رفض تمويل المشروع ؟ الم ينشئ منظمة دول عدم الانحياز وشارك بقيادتها موجدا واقعا سياسيا دوليا جديدا ؟ الم يبني أول وحدة عربية في التاريخ العربي الحديث ضد رغبة الاستعمار والصهيونية ويساهم بتحطيم حلف بغداد الاستعماري، تأثرا بالوحدة والنهج الثوري لنظامه؟
هل توقفت المؤامرات ضد نظامه؟ كل نظام لا يتلاءم مع مصالح دول كبرى أو إسرائيل ، يتعرض للمؤامرات وللعدوان..
أمريكا اللاتينية من كوبا إلى تشيلي والى بنما وصولا إلى فنزويلا تاريخ حافل بالمؤامرات والعدوان اليانكي .. تشيلي وبنما وغيرهما سقطوا، أما حيث اليقظة والاستعداد، في دول مثل كوبا وفنزويلا فقد أفشلت المؤامرات.
لم تكن ضرورة للتأكيد في كل موقف أن الأيادي المعادية تقوم بالتخريب.. السؤال ماذا فعلت الأنظمة الطائفية القبلية ( من العار تسميتها عربية) في مواجهة المؤامرات؟
صحيح أني لست مواطناً في الدول العربية ، وأعيش نكبة شعبي منذ ستة عقود، ولا أرى أن العالم العربي (وبالأساس الأنظمة) تستوعب المضمون السياسي والاستراتيجي لما جرى مع الشعب الفلسطيني، وللأسف العالم العربي لا يعمل على خلق توازن في الواقع الشرق أوسطي للتحديات التي توجهه، وهو يملك كل مسببات وعناصر انجاز توازن استراتيجي يتجاوز الدور الإسرائيلي أو الأمريكي أو أي دور دخيل آخر. بل وقادر على تحريك ضغط سياسي استراتيجي هائل بإقرار سياسة نفطية تتلاءم مع مصالحه الإستراتيجية .
القصور هو مميزنا أولاً. وفي السياسة لا يوجد شيء اسمه فراغ. الفراغ يمتلئ بسرعة. في واقعنا الشرق أوسطي، هناك قوة وحيدة تحتل الفراغ دوماً. للأسف ليست قوة عربية.
توجد مؤامرات، ولكن الظن أن المؤامرات هي، ما أوصلت العرب إلى ما هم عليه اليوم، هو فكر طوباوي يوازي الاختلال العقلي، هناك أيدي لا تفكر إلا بمصالحها وهي المتسلطة على المصير العربي منذ أكثر من نصف قرن.
للأسف معظم الأيدي التي تغوص في قضايا العالم العربي ، ليست أيدي عربية....ولدحر نظرية المؤامرة لا بد من دور عربي أولا، وهو الغائب الكبير ، وهو أضعف الإيمان!!
nabiloudeh@gmail.com