الرفض الأنثوي العاري أو قراءة في قصائد غير محجبة

2013-11-16
منحتني الشاعرة والصحفية والصديقة فتيحة النوحو ديوان شعرها ، ورفضها العاري : " لن يستلنا العدم " ، الذي صدر في 2012 ، مرفق بلوحات للفنانة التشكيلية نعيمة الملكاوي ، ومترجمة قصائده الى اللغة الفرنسية ، إنه الولادة الثانية بعدما منحَتْ الشاعرة لظمئها كل الارتواء ، انه رفض عارٍ، تتحدى فيه العدم بنون الجماعة ، وتعري كل مفاتن الجسد والروح واللغة ، بينما الفنانة التشكيلية تعري مفاتن الجسد الأنثوي بنون النسوة ، فيعزفان معا سيمفونية للعري ، لأنه أصل الوجود ، وأصل العدم ، فهو حياة وموت ، لأن الولادة عري ، والموت عري ، فهو البداية والنهاية ، والله يبعثنا عراة ، ويستقبلنا عراة ، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى ، ولا أدري لماذا المتأسلمون يحاربون العري ، ويحاربون بذلك إرادة الله ويسمون ذلك جهادا في سبيل الله !!!..
أمسكت بالديوان بين يدي ، فشعرت بحرارة الألوان تسري في روحي ، إنها ألوان تعبق برائحة الأنثى ، ألوان الحياة ، وألوان نصف الدنيا ، التي يصرون على وأدها في الصور ، وفي الأحلام ، وفي الخيال .. سمعت القصائد تصرخ ، وتنتفض ، وتتساءل ، فشممت رائحة العدم المهزوم بين مفاصلها ، كانت تعري مفاتن الروح والجسد ، فشعرت برعشة الفرح لهذه الولادة العارية التي كان مخاضها عسيرا ، حين كانت تبحث عن مكان آمن يحتضنها ، وأياد بيضاء تلملم جراحها المنتفضة ، الى أن وجدت نصفها الثاني ، وتوأم روحها ، وتحقق ذلك الزواج الممتع بين الشعر والفن التشكيلي ، الذي تأسس على قصة عشق نسائي مزمن بين الشاعرة والفنانة التشكيلية ، وتجسد في رقصة الأنثيين ، في مقدمة الغلاف ، لتستمر في الخاتمة ، والى الأبد ، وتتمخض عنه هذه القصائد الملتهبة والمنتفضة ، والعارية ..
شعرت برغبة لكي أنخرط في غواية هذا الرفض العاري ، وأشارك هذا الثنائي عريهما المبجل والمقدس ، لكي يصبح ثلاثيا ، رغم أنني شاعرة ، ولست ناقدة ، ولا أتقن قواعد النقد ، التي يفرضون عليها ارتداء أحجبة وأقنعة  مقدسة ، لا ينبغي المساس بحرمتها ، فلا شيء مقدس في عالم الخيال ، ولا شيء مقدس في الواقع أكثر من حبر حر ، رافض وعارٍ ، الا من قيم الحرية والمساواة والعدالة ..   
فتحت الديوان ، فسمعت أول قصيدة تتساءل بخمس علامات استفهام : هل من رحيل محتمل ؟؟؟؟؟. فالرحيل هو أصل الأزل ، غير أن الشاعرة ترفضه وتتحداه ، وتجيب  : " لن يستلني العدم من حضن الزمن .. فالحبر سيد الكون " ، بل إنه إله الكون ، وأصل الأزل ، والحبر هو الحياة ، والحقيقة الوحيدة الحاضرة بين مفاصل اللغة ، من يكفر بالحبر يكون مآله النسيان ، " إلى أجل غير آبه " ؟؟؟؟ بأربع علامات استفهام ، هكذا تجد الشاعرة جوابها بين ثنايا لغة روحية متصوفة شفافة ومرهفة ، ( يتلظى ، بلوعتها ، لهب البدن ، غمد الداء ، النوائب ، النوى ) ، لغة تحمل أوجاع الشاعرة التي نفخت فيها من روحها ، فأصبحت حية ، تنساب على الورق، وتضمد جراحها بهذا البوح المسيحي ..
فيقفز سؤال ثالث : " في أي دير يبعث النخب " ؟؟؟؟؟  بخمس علامات استفهام ، وخمس صلوات وما جاورها ، تحمل الشاعرة الى زهد ماجن ، والى قِبْلة ، وسُبْحة ، والى قدح ، ودير، ونبيذ ، والى نخب مشتهى ، لكن موقد الشاعرة يخبو ، فلا تدري في أي قدح ستبعث ؟ ولأي دير ينذرها نبيذها ، وخيالها ؟
وتنتهي الأسئلة عند "ندب الهزيع " ، حيث : ( ثمة جرعتان في الكاحل : رشفة للكأس ،  ورجفة للمدام ، وحيث لا طقس للخدر ) ، هكذا تخاطب الشاعرة النديم :  " أن يترنم بنحر بندبين ، ويختلي بثغر ، ويكتحل بشامة ليل ،  ويقف على هجير في هزيعه الأرذل " ،  فيذوب بين مفاصل اللغة المترنحة ، وينتحر بين أحضانها ..
إن الشاعرة تتقن ربط أواصر العواطف ونبضات الحب ، بين جسد القصيدة وروحها ، وتعرف أن لكل قصيدة وجعها وآهاتها ، وحلمها الذي لا ينتهي ..
تنتصب القصيدة الأنثى " ناسكة القوس " ، بألوان قوس قزح ، وتنزل كالوحي ، عارية ، كاشفة عن مفاتنها ، ( قزحية الحلمتين ، باحمر الشفاه ، وهمس الأساور ، والقرط الأصفر ، والمنامة الخضراء ) . انها "آلهة المثل" ، تعيد رميم الأنثى ، بريشة الفنانة التشكيلية ، وتسبح باسم النهدين اللذين أرضعا العالم ، وأصبحا حراما ، في زمن الظلام ..
"فراش الجنوب" مهداة الى روح الفنان أحمد الغنيمي ، الذي لن يستله النسيان ، فهو الجنوبي المرصع بالرمل الذهبي ، "الموغل في الأخاديد والازميل" ، ترك ألوانه الزاهية والقزحية ، تنساب على جمر الصحراء ، وترك الشاعرة ترثيه بالسؤال ، والألم ، والخيال ..
فجأة تنتفض ، وتصرخ  الشاعرة في وجهي ، وهي تشهر قصيدتها : "دعيني  لفتنتي" ، أعرف أن الشعراء يتبعهم الواعون ، وأن الشاعر ، والشاعرة خصوصا ، في زمن العهر الفكري والكفر ، يحتاج لرئة ثالثة ، ورابعة ، و ..  لكي يتنفس بعمق ، خاصة في واقع تضيق فيه الحريات على المبدعين من شعراء وفنانين ومثقفين ، الذين يرفضون استعراض مدادهم المقدس في المزاد العلني ، لأن مدادهم كدماء الشهداء ينسكب بسخاء من أجل الحرية والكرامة ..
تركت الشاعرة تستمتع بفتنتها ، لأنها فاتنة ، وتعشق النساء الفاتنات ، والثائرات ، رغم الحروب التي شنت على هؤلاء النساء عبر التاريخ  الاسلامي ،  فكل امرأة فاتنة أو ثائرة ، فهي عاهرة ، ومازلنا لم نعي بعد أن العقول والأفكار والعيون ، هي مصدر "الفتنة" والدعارة ، في مجتمعاتنا التي يخيم عليها الظلام ..
الفتنة هي طريق التغيير ، فهي تعيد تشكيل جسد الأنثى في خارطة المجتمع ، وفي العقول والعيون ، لكي يتم الاعتراف بإنسانيتها ، لهذا السبب توقظ الشاعرة في قصيدتها اغراءات الفتنة ، ( فتسائل عنفوان الانفلات ، وتداعب غفوة الاشتهاء ، وتستل من خدر السهو سمرا ) ، هكذا تجد الشاعرة في آلهة الليل الاعتراف بفتنتها ، المفقودة في ضوء النهار، فتقول : " دعيني لآلهة الليل ، تنثر بعضا من رذاذي ومن فتنتي "
وتصل الشاعرة بعد الفتنة الى خاتمة المطاف ، الى قمة الشفافية والعري بكل طقوسها  : "لا ،،،، غيب ..." ، بعد الآن  ، وحيث تستحضر كل الأشياء المغيبة وراء الحجب المفتعلة ، فتصل كل من الشاعرة والفنانة التشكيلية الى النهاية العارية ، مع سبق الاصرار والترصد ، فالعري نهاية الوجود ، ونهاية الديوان ، ونهاية البداية ، وكل من الشاعر والفنان يعيش عاريا الا من الخيال ، ويموت عاريا الا من كفن الخيال ، رغم بدعة التحلل في النار التي رميت بها الشاعرة ، حين تيممت بجعة اليتم ، الا أنها تتحدى ، وتختم طواف الافاضة حول قصيدة "ألا غيب" ، بقولها : ( فلن يستقيم الحشر غسقا ). 
بعد هذه الجولة الممتعة بين قصائد الشاعرة ، ولوحات الفنانة التشكيلية ، لا يمكنني إلا أن أضم صوتي الى هذا الرفض الثنائي العاري ، وأصرخ في وجه كل الحجب ، وأقول : إن الرفض والعري والفتنة ، تحيينا رغم الألم ، ولن  يستلنا العدم .. بعد الآن .     

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved