منحتني الشاعرة والصحفية والصديقة فتيحة النوحو ديوان شعرها ، ورفضها العاري : " لن يستلنا العدم " ، الذي صدر في 2012 ، مرفق بلوحات للفنانة التشكيلية نعيمة الملكاوي ، ومترجمة قصائده الى اللغة الفرنسية ، إنه الولادة الثانية بعدما منحَتْ الشاعرة لظمئها كل الارتواء ، انه رفض عارٍ، تتحدى فيه العدم بنون الجماعة ، وتعري كل مفاتن الجسد والروح واللغة ، بينما الفنانة التشكيلية تعري مفاتن الجسد الأنثوي بنون النسوة ، فيعزفان معا سيمفونية للعري ، لأنه أصل الوجود ، وأصل العدم ، فهو حياة وموت ، لأن الولادة عري ، والموت عري ، فهو البداية والنهاية ، والله يبعثنا عراة ، ويستقبلنا عراة ، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى ، ولا أدري لماذا المتأسلمون يحاربون العري ، ويحاربون بذلك إرادة الله ويسمون ذلك جهادا في سبيل الله !!!..
أمسكت بالديوان بين يدي ، فشعرت بحرارة الألوان تسري في روحي ، إنها ألوان تعبق برائحة الأنثى ، ألوان الحياة ، وألوان نصف الدنيا ، التي يصرون على وأدها في الصور ، وفي الأحلام ، وفي الخيال .. سمعت القصائد تصرخ ، وتنتفض ، وتتساءل ، فشممت رائحة العدم المهزوم بين مفاصلها ، كانت تعري مفاتن الروح والجسد ، فشعرت برعشة الفرح لهذه الولادة العارية التي كان مخاضها عسيرا ، حين كانت تبحث عن مكان آمن يحتضنها ، وأياد بيضاء تلملم جراحها المنتفضة ، الى أن وجدت نصفها الثاني ، وتوأم روحها ، وتحقق ذلك الزواج الممتع بين الشعر والفن التشكيلي ، الذي تأسس على قصة عشق نسائي مزمن بين الشاعرة والفنانة التشكيلية ، وتجسد في رقصة الأنثيين ، في مقدمة الغلاف ، لتستمر في الخاتمة ، والى الأبد ، وتتمخض عنه هذه القصائد الملتهبة والمنتفضة ، والعارية ..
شعرت برغبة لكي أنخرط في غواية هذا الرفض العاري ، وأشارك هذا الثنائي عريهما المبجل والمقدس ، لكي يصبح ثلاثيا ، رغم أنني شاعرة ، ولست ناقدة ، ولا أتقن قواعد النقد ، التي يفرضون عليها ارتداء أحجبة وأقنعة مقدسة ، لا ينبغي المساس بحرمتها ، فلا شيء مقدس في عالم الخيال ، ولا شيء مقدس في الواقع أكثر من حبر حر ، رافض وعارٍ ، الا من قيم الحرية والمساواة والعدالة ..
فتحت الديوان ، فسمعت أول قصيدة تتساءل بخمس علامات استفهام : هل من رحيل محتمل ؟؟؟؟؟. فالرحيل هو أصل الأزل ، غير أن الشاعرة ترفضه وتتحداه ، وتجيب : " لن يستلني العدم من حضن الزمن .. فالحبر سيد الكون " ، بل إنه إله الكون ، وأصل الأزل ، والحبر هو الحياة ، والحقيقة الوحيدة الحاضرة بين مفاصل اللغة ، من يكفر بالحبر يكون مآله النسيان ، " إلى أجل غير آبه " ؟؟؟؟ بأربع علامات استفهام ، هكذا تجد الشاعرة جوابها بين ثنايا لغة روحية متصوفة شفافة ومرهفة ، ( يتلظى ، بلوعتها ، لهب البدن ، غمد الداء ، النوائب ، النوى ) ، لغة تحمل أوجاع الشاعرة التي نفخت فيها من روحها ، فأصبحت حية ، تنساب على الورق، وتضمد جراحها بهذا البوح المسيحي ..
فيقفز سؤال ثالث : " في أي دير يبعث النخب " ؟؟؟؟؟ بخمس علامات استفهام ، وخمس صلوات وما جاورها ، تحمل الشاعرة الى زهد ماجن ، والى قِبْلة ، وسُبْحة ، والى قدح ، ودير، ونبيذ ، والى نخب مشتهى ، لكن موقد الشاعرة يخبو ، فلا تدري في أي قدح ستبعث ؟ ولأي دير ينذرها نبيذها ، وخيالها ؟
وتنتهي الأسئلة عند "ندب الهزيع " ، حيث : ( ثمة جرعتان في الكاحل : رشفة للكأس ، ورجفة للمدام ، وحيث لا طقس للخدر ) ، هكذا تخاطب الشاعرة النديم : " أن يترنم بنحر بندبين ، ويختلي بثغر ، ويكتحل بشامة ليل ، ويقف على هجير في هزيعه الأرذل " ، فيذوب بين مفاصل اللغة المترنحة ، وينتحر بين أحضانها ..
إن الشاعرة تتقن ربط أواصر العواطف ونبضات الحب ، بين جسد القصيدة وروحها ، وتعرف أن لكل قصيدة وجعها وآهاتها ، وحلمها الذي لا ينتهي ..
تنتصب القصيدة الأنثى " ناسكة القوس " ، بألوان قوس قزح ، وتنزل كالوحي ، عارية ، كاشفة عن مفاتنها ، ( قزحية الحلمتين ، باحمر الشفاه ، وهمس الأساور ، والقرط الأصفر ، والمنامة الخضراء ) . انها "آلهة المثل" ، تعيد رميم الأنثى ، بريشة الفنانة التشكيلية ، وتسبح باسم النهدين اللذين أرضعا العالم ، وأصبحا حراما ، في زمن الظلام ..
"فراش الجنوب" مهداة الى روح الفنان أحمد الغنيمي ، الذي لن يستله النسيان ، فهو الجنوبي المرصع بالرمل الذهبي ، "الموغل في الأخاديد والازميل" ، ترك ألوانه الزاهية والقزحية ، تنساب على جمر الصحراء ، وترك الشاعرة ترثيه بالسؤال ، والألم ، والخيال ..
فجأة تنتفض ، وتصرخ الشاعرة في وجهي ، وهي تشهر قصيدتها : "دعيني لفتنتي" ، أعرف أن الشعراء يتبعهم الواعون ، وأن الشاعر ، والشاعرة خصوصا ، في زمن العهر الفكري والكفر ، يحتاج لرئة ثالثة ، ورابعة ، و .. لكي يتنفس بعمق ، خاصة في واقع تضيق فيه الحريات على المبدعين من شعراء وفنانين ومثقفين ، الذين يرفضون استعراض مدادهم المقدس في المزاد العلني ، لأن مدادهم كدماء الشهداء ينسكب بسخاء من أجل الحرية والكرامة ..
تركت الشاعرة تستمتع بفتنتها ، لأنها فاتنة ، وتعشق النساء الفاتنات ، والثائرات ، رغم الحروب التي شنت على هؤلاء النساء عبر التاريخ الاسلامي ، فكل امرأة فاتنة أو ثائرة ، فهي عاهرة ، ومازلنا لم نعي بعد أن العقول والأفكار والعيون ، هي مصدر "الفتنة" والدعارة ، في مجتمعاتنا التي يخيم عليها الظلام ..
الفتنة هي طريق التغيير ، فهي تعيد تشكيل جسد الأنثى في خارطة المجتمع ، وفي العقول والعيون ، لكي يتم الاعتراف بإنسانيتها ، لهذا السبب توقظ الشاعرة في قصيدتها اغراءات الفتنة ، ( فتسائل عنفوان الانفلات ، وتداعب غفوة الاشتهاء ، وتستل من خدر السهو سمرا ) ، هكذا تجد الشاعرة في آلهة الليل الاعتراف بفتنتها ، المفقودة في ضوء النهار، فتقول : " دعيني لآلهة الليل ، تنثر بعضا من رذاذي ومن فتنتي "
وتصل الشاعرة بعد الفتنة الى خاتمة المطاف ، الى قمة الشفافية والعري بكل طقوسها : "لا ،،،، غيب ..." ، بعد الآن ، وحيث تستحضر كل الأشياء المغيبة وراء الحجب المفتعلة ، فتصل كل من الشاعرة والفنانة التشكيلية الى النهاية العارية ، مع سبق الاصرار والترصد ، فالعري نهاية الوجود ، ونهاية الديوان ، ونهاية البداية ، وكل من الشاعر والفنان يعيش عاريا الا من الخيال ، ويموت عاريا الا من كفن الخيال ، رغم بدعة التحلل في النار التي رميت بها الشاعرة ، حين تيممت بجعة اليتم ، الا أنها تتحدى ، وتختم طواف الافاضة حول قصيدة "ألا غيب" ، بقولها : ( فلن يستقيم الحشر غسقا ).
بعد هذه الجولة الممتعة بين قصائد الشاعرة ، ولوحات الفنانة التشكيلية ، لا يمكنني إلا أن أضم صوتي الى هذا الرفض الثنائي العاري ، وأصرخ في وجه كل الحجب ، وأقول : إن الرفض والعري والفتنة ، تحيينا رغم الألم ، ولن يستلنا العدم .. بعد الآن .

