انه شريان بغداد الحيوي، كان شاهداً على دخول القوات الإنجليزية لبغداد عام 1917م، وعلى الكثير من تظاهرات ووثبات العراق المناهضة للإستعمار، يكاد يختصر تاريخ مدينة دار السلام التي كانت أم الدنيا، والتي تشتق من اسمها صفة الدلال، ولدى الأتراك مثل مشهور يقول :( لا حبيبة إلاّ الأم، ولامدينة إلا بغداد ) .
تنمو منه أهم الجسور التي تربط بين جزأي مدينة بغداد، الكرخ والرصافة، كجسر الجمهورية الذي يقابل نصب الحرية وجسر الاحرار الذي يربط حافظ القاضي بالصالحية، ثم جسر الشهداء الذي سمي بهذا الاسم تخليداً للشهداء الذين سقطوا عليه في وثبة كانون، وهو الذي يربط منطقة السراي بسوق الشوّاكة. وفيه رثى الجواهري أخاه جعفر الذي استشهد في تلك الوثبة والتي يقول مطلعها :
«أتعلم أم انت لاتعلم
بأن جراح الضحايا فم»
التَأمت فيه معالم تراثية، نادراً ما تلتئم على شاكلتها حتى في اشهر الشوارع العربية والعالمية، حيث توجد فيه من المعالم الحضارية مايعادل عدد اعمدته ألألف ومئتان وأربع عمود، والممتدة على طوله، اذ بين كل عمود وآخر معلم حضاري في غاية الكبرياء والعظمة ...
انه شارع الرشيد، أقدم وأشهر شوارع بغداد، كان يعرف خلال الحكم العثماني باسم شارع ( خليل باشا جاده سي ) على اسم خليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني، الذي قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من منطقة الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعاً باسمهِ عام 1910م، وكان ذلك لأسباب حربية ولتسهيل حركة الجيش العثماني وعرباته فتم العمل في هذه الجادة بصورة مستعجلة وارتجالية، حيث كان يصطدم بمعارضة العلماء ورجال الدين البغداديين عند ظهورعقبة تعيق استقامتهِ ببروز أحد الجوامع على الطريق، كما كان يصطدم بأملاك المتنفذين والأجانب ممن هم مشمولين بالحماية وفق الامتيازات الأجنبية، وكذلك لقلة المال المتوفر لديهِ لاستملاكها، فوجب حصول انحناءات في الشارع تبعاً لهذه العراقيل .
وهكذا بدأ بتهديم أملاك الفقراء والغائبين ومن لا ورثة لهم، فأصبح الطريق ممهداً واسعاً تسلك فيه وسائط النقل بسهولة .
أن أول ( مول ) أنشئ في الشرق الاوسط كان في شارع الرشيد ببغداد.. وكان اسمه ( اورزدي باك ) ويتقدمه بواب أنيق يقف قرب الباب الدوارة وتعمل فيه نخبة من الفتيات الجميلات اللواتي يرتدين الزي الموحد وفيه مقهى يطل على نهر دجلة ومكتبة تستطيع من خلالها التزود بأحدث الكتب العربية والأجنبية ..
والذين ينبهرون بمكتبات العالم التي تحتوي على أحدث الكتب قد لايعلمون أن مكتبة ( مكنزي ) في شارع الرشيد كانت توفر للقراء الكتب الاجنبية من كل حدب وصوب، أما خانات الإنتيكات والسجاد والمصوغات الفضية والذهبية والنحاسية ففيها ما لايمكن العثور عليه حتى في أهم شوارع التحف في اليابان وإيطاليا أو إسبانيا .
تلك المظاهر كادت تندثر لولا تلك الصور المسحورة التي لاتزال موجودة في ذاكرة آخر جيل من الكتاب والفوتوغرافيين والروائيين الذين عاصروا مجد هذا الشارع وخلدوه في مدوناتهم، كفؤاد التكرلي، غائب طعمة فرمان، يوسف العاني، لطفية الدليمي، حسين محفوظ، باسم عبد الحميد حمودي، عزيز الحجية، أمين المميز، صادق الأزدي، جلال الحنفي، علي عبد الأمير عجام، عادل العرداوي، فؤاد قزانجي، عماد عبد السلام، جبرا ابراهيم جبرا وغيرهم كثير.. بالإضافة الى مئات بل آلاف الصور الفوتوغرافية، الموثقة بأنامل أرشاك، عبوش، جان وإمري سليم وناظم رمزي وعلي طالب وفؤاد شاكر وعبد علي مناحي والمصور الأهلي عبد الرحمن، إنهم إلتقطوا تلك الصور التي شكلت قاموساً لمعالمه الجميلة وجعلتها تبدو وكأنها قادمة من كوكب آخر كان فيه للجمال مكان وللذوق مكان والبغددة مكان.....
انه شارع يكتظ بكل رموز الحضارة الراقية من مهن ومعارض واماكن اللهو، كفتاح باشا وكعك السيد وحسو أخوان وسنترال سينما والقشلة وخان مرجان وأسواق الشورجة والعربي والصفارين والبزازين والمستنصر والمتنبي والسراي وسينمات كريكس وروكسي والزوراء والوطني ورويال، ومحلات كأورزدي باك وحافظ القاضي وتسجيلات الجقمجي ومقاهي كالبرازيلية والسويسرية ومكتبة مكنزي ومحل جواد الساعاتي، في بداية الأربعينات .
بالإضافة الى المساجد والخانات والمطابع والتكايا ولكل واحد منها قصة وحكاية، فقد شق شارع الرشيد طريقه بين أهم الامكنة التراثية، وأقدم الجوامع والكنائس والمباني الحكومية، كجامع مرجان الواقع في باب الأغا وجامع السيد سلطان علي الذي سميت إحدى شرائع دجلة باسمه، وجامع الحيدرخانة الذي كانت تنطلق منه الخطب الوطنية الحماسية، وجامع المرادية الذي يقع في بداية الميدان، وطوب أبي خزامة الذي كانت تعلق فيه خرق النذور، ومقر وزارة الدفاع، والمدرسة المستنصرية التي تصل إليها بطريق يحيط به خان مرجان على جهة اليمين، وخان علي صائب الخضيري على جهة اليسار، ثم تليهما دربونة فيها خانات تجارية تسمى دربونة ( النملة ) وتتصل بشارع المستنصر الذي يسمّيه العامة بشارع النهر والذي يضم أشهر محال الصاغة وتتفرع منه أشهر أسواق القماش والاكسسوارات وأقمشة الستائر والموبيليا... وفيه تقع أيضاً عمارة الدامرجي التي يذكرها الكاتب المعروف جبرا ابراهيم جبرا في كتابه ( شارع الأميرات ) فيقول إنه عقد قرانه على زوجته لميعة في المحكمة القريبة من تلك العمارة مستقلاً ولميعة عربة ربل في شهر تموز شديد الحرارة .
وباقي أسواق الرشيد تعد بالعشرات كسوق الشورجة وشارع المتنبي وسوق الصفارين وأسواق الساعاتية والبزازين والخفافين وباعة الزجاج والمرايا، والعدد المنزلية، والصيدليات، ومحال الخط والتجليد، والصيرفة ومغازات بيع الملابس ومستلزمات العرائس ومحال الخياطين، وكان من أشهرهم أحمد خماس، وشوقي داود ومحمد نوشي، وقبل هذا الجيل من الخياطين، كان هناك الخياط البيروتي علي رضا، والخياط الهندي ( جي اس فارما ) الخياط الخاص للملك فيصل الأول ... ولايذكر شارع الرشيد إلا وتذكر محال المصورين وأشهرهم الأهلي وعبوش وأرشاك وبابل لصاحبه الأرميني جان مصور الرؤساء والملوك وهناك أيضاً محل حكمت الحلي حلاق الملوك والباشوات الذي تأسس في 1954.. وثمة محال يعود تاريخها إلى زمان أقدم من ذلك التاريخ، وأشهرها كعك السيد الذي تاسس عام 1906 وشربت الحاج زبالة الذي تاسس عام 1910 .
في هذا الشارع أيضاً كانت توجد المطاعم والاوتيلات والكازينوهات والمقاهي الشتوية والصيفية التي لم يتبق منها الكثير وكان بينها مقهى البرلمان وحسن عجمي والبرازيلية والسويسرية والزهاوي وام كلثوم وكوكب الشرق، وكانت تقع في شارع الرشيد المدرسة المأمونية ومدرسة الصنائع والمعهد العلمي الذي كان يهيئ الجرائد للقراءة المجانية نهاراً بالإضافة الى مقرات الأحزاب والمطابع التي يربو عددها على التسعين أغلبها في محلة جديد حسن باشان والتي كانت تصدر منها عشرات الصحف كل يوم، وهناك المتحف البغدادي أيضاً ومتحف الرواد الذي يضم عشرات اللوحات التي سرقت في اعمال السلب والنهب وبيت أمل الخضيري البغدادي التراثي الذي كانت تقام فيه الأمسيات الموسيقية والمعارض التشكيلية .
وبالإضافة الى كل ذلك توجد في شارع الرشيد أقدم الكنائس، ككنيسة الكلدان ( أم الأحزان ) في عقد النصارى وكنيسة اللاتين قرب سوق الشورجة وكنيسة مريم العذراء في ساحة الميدان .
الكثير من كتاب القصة والرواية كجبرا ابراهيم جبرا، وعلي بدر، وشاكر الانباري، ورياض قاسم، وعبد الرحمن الربيعي، وعبد الستار ناصر، وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، ذكروا شارع الرشيد بحاناته ومقاهييه وازقته الخلفية.. والكاتبات على وجه التحديد كان لهن شغف بشارع الرشيد من نوع آخر.. فدخلن إليه من جهة الروح.. وسكبن حنانهن من جهة القلب، فلطفية الدليمي في ( قصة الريح ) من مجموعتها الصوفية ( مالم يقله الرواة ) تحاول إعادة تشكيل شارع الرشيد من حلمها بفراديس مفقودة فترسمه بالكلمات والصور وتمنحه صيغاً حضارية ثم تهب ريح عاتية وتمحو ما رسمته، لكنها تحاول مراراً أن تعيد صياغة الحلم دون أن تيأس أو تتراجع كأنها كانت تتوقع خرابه الراهن، وتعود سيدة ( سيدات زحل ) لتجعل شارع الرشيد أحد أبطال تلك الرواية المهمين عبر أحداث كثيرة تجري فيه وهو مذكور في معظم فصول تلك الرواية .
أما الشاعرة والروائية نضال القاضي فتقول :
«انا لا استطيع العيش من دون العراق، ان العراقي ما ان يخرج حتى يصاب بـ ( مرض الحنين ) . أنا كاتبة أجد نفسي هنا، اشعر بحنين غير طبيعي، هناك الكثير من القضايا المعلقة عندي على صعيد الكتابة، هناك رواية لديّ مكانها شارع الرشيد، اين أجد الرشيد في البرازيل ؟ .»
وفي كتاب ( شارع الرشيد ) للباحث باسم عبد الحميد حمودي، الذي يعد من أجود الكتب التاريخية الذي تفتخر به المكتبة العراقية والعربية، فقد احتوى الكتاب على مقدمة، فضلاً عن ثلاث وعشرين مقالة كتبها كُتاب مبدعون لهم مكانتهم المرموقة في عالم الثقافة. فذكر الباحث في مقدمة الكتاب ( شارع الرشيد صورة ناطقة للعراق المعاصر ) فقال :
" لقد فضلت دار الشؤون الثقافية العامة إصدار هذه الوثيقة على هيئة كتاب هو الذي بين أيديكم الآن وعهدت الينا مشكورة بتحريره سعياً منها إلى إعادة قراءة جزء حيوي من الذاكرة الشعبية المتجسدة في ( صياغة ) هذا الشارع وحواريه وأصنافه ومثاباته الفنية والاجتماعية" .
أما في مقالة ( اطلالة تاريخية على شارع الرشيد ) فقد تحدث الكاتب أسامة ناصر النقشبندي قائلاً :
"هذا الشارع من انجازات والي بغداد خليل باشا الذي ولي 1334هـ ـ 1916م وهو أخر والي عثماني لبغداد وغادرها ليلة 11 آذار سنة 1917م .
افتتح الشارع في 22 تموز 1916 وهو يوم إعلان الدستور وكان يمتد من الباب المعظم إلى منطقة السيد سلطان علي ، وقد سمي في أول الأمر باسم ( جادة خليل باشا ) و( الجادة العامة ) أو ( الجادة ) اختصاراً، وثبت ذلك على قطعة من الكاشي المزجج كانت موضوعة فوق قاعدة منارة جامع السلطان علي في الزاوية المقابلة للجنوب، وقد أتلفت هذه القطعة عند تعمير الجامع سنة 1932م .
كان عرض الشارع 16 متراً في أول الأمر إلا إنه أهمل ولم تعمر اغلب الأبنية التي هُدمت فأصبحت خرائب، واستمر إهماله الى العشرينيات من القرن المنصرم" .
من جهته تحدث الكاتب فخري حميد القصاب في مقالته ( الأسواق التراثية المطلة على شارع الرشيد )، إذ قال :
" ان الأسواق التراثية التي تطل اليوم على شارع الرشيد هي : ( سوق الشورجة ، وسوق البزازين، وسوق الصفافير، وسوق الهرج، وسوق الميدان ) إذا ما استثنينا الأسواق الحديثة التي شيدت على جانبي الشارع في السنوات الماضية وأشهرها السوق العربي المجاورة لسوق الشورجة ( مقابل البنك المركزي العراقي الحالي ) وقد لعبت هذه الأسواق جميعها دوراً بارزاً في الحياة الاقتصادية البغدادية، ومازالت تتبوأ ذات المكانة التي تبوأتها هذه الأسواق قديماً" .
كما تحدث الدكتور إحسان فتحي في مقالته ( شارع الرشيد حكاية معمارية مثيرة ) قائلاً :
"يُعدّ شارع الرشيد بالمفهوم التخطيطي الحديث أول شارع رئيس يشق في العراق ومنذ العام 1915م، حين بدأ العمل به، وحتى الآن، يستمر هذا الشارع باستقطاب أهم الأنشطة الاقتصادية والتجارية والإدارية والترفيهية في بغداد" .
وتناول الكاتب حسين حسن التميمي في مقالته ( جامع الحيدر خانة ) بصورة تفصيلية، اذ قال :
" بنى داود باشا هذا الجامع المهم العام 1839م. بعد ان أغدق على البناء والعمال اموالاً وفيرة، وهيأ لهم ما شاءوا من مواد ووسائل العمارة . ثم انشئت للجامع سقاية مباشرة ذات شباك يطل على سوق الحيدر خانة، يرتوي منها العطاشى بأجر معلوم للساقي الذي يسبل للشرب بـ ( 500 فلس شهرياً ) وللسقا الذي يحمل للساقية عشر قرب يومياً، ( 3.500 ) شهرياً . ويعد هذا الجامع من أَتقنْ جوامع بغداد القديمة، وهو مربع البناء متناسب الزوايا والأرجاء، ومفروشاته وإزاره من الرخام، وأبوابه الثلاثة فخمة ومهيبة ومصلاة للشتاء يعلو ذراعين عن الأرض وتعلوه قبة شامخة بالكاشي الملون، وفيها قبتان صغيرتان، ومنارة عالية. وفي الجامع غرف لائقة بسكنى القائمين بشؤونه، فضلاً عن المؤذن وطلاب العلم" وجاء في مقالة ( بغداد دجلة والرشيد ) للكاتب دانيال عشو المحامي ما يأتي :
" شارع الرشيد يقسم مدينة بغداد جانب الرصافة الى جزء شرقي وغربي . يمتد الجزء الشرقي من الشارع حتى شارع الشيخ عمر شمالاً وباب الشيخ جنوباً والقسم الغربي من الشارع حتى نهر دجلة . ويحيط بالجزء الشرقي من بغداد خط القطار الصاعد من بغداد الى مدينة بعقوبة، وهذا الخط يبدأ من محطة الباب المعظم ويقف عند محطة أخرى شرق بغداد هي محطة باب الشيخ ومنها يتجه إلى بعقوبة".
من الاحداث الفنية البارزة التي شهدها هذا الشارع العريق حضور سيدة الغناء العربي أم كلثوم الى بغداد والغناء في اوتيل الهلال بمنطقة الميدان الذي كانت تغني فيه الفنانة بدرية السواس وجماعتها وحضور فرقة جورج ابيض المصرية لتقدم عدداً من الأعمال المسرحية في مسارح بغداد .