الرسالة4/السفر مدرسة ثانية يا ليتني كنت طالبا فيها

2018-08-01
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/76d4333b-dc15-4f15-a01d-9776aad24020.jpeg
الاثنين: 2-7-2018
 
أيتها العزيزة الغالية،،،
أسعدك الله وكلل رحلتك بالنجاح، وعدت إلى ربوع الوطن والأهل والأصدقاء بالسلامة .
 
لقد سرتني رسالتك بالتأكيد، كانت نابضة برقصة النشوة، مع كل كلمة من تلك الكلمات الحلوة السلسة، تتابع دون انقطاع للحديث عن الرحلة، يا لله كم أن اللغة حاملة لنفس كاتبها ! وهنا بدوت مفعمة بالفرح والحب والحياة واستخدامك للألفاظ مشع كالبريق في سماء زاخرة بحدائق الورود، بكل تأكيد أيضا تستحقين التكريم، رغما عن التلعثم بالكلمات، إنه يزيدك جمالا على جمال ! فلا تبتئسي .
 
تدفعني رسالتك الشهية تلك أن أتحدث لك عن السفر، وأهميته للكاتب . يعترف الكاتب الأمريكي جون هوبكنز أن السفر مكون ضروري للكتابة، ويقول : "لو أني بقيت في الولايات المتحدة الأمريكية لن أكتب أبدا، وجب علي أن أسافر، أن أتعلم، أن أعرف العالم، هذا أمر ضروري وجوهري"، في رسالتك صدى لقول هوبكنز "مستمتعة بهذه التجربة، أتاحت لي التعرف على عالم مختلف، وثقافة مختلفة". صديقي الكاتب رائد الحواري أشار علي يوما ألا أظل حبيس غرفتي، قال : "يجب عليك أن تخرج من معتزلك لترى الطبيعة والناس ومشاهدة الأشياء والعيش معها" .
 
يبدو "أن السفر مدرسة ثانية، فالرحلة تخلق الكاتب حين تجد التربة والمناخ وهي رحلة في الذات أيضا"، كثيرون تحدثوا عن السفر يا عزيزتي، فالشافعي رحمه الله يعدد ست فوائد للسفر، ويشبه ذلك بجريان الماء الذي "إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطبِ". الرحالة كتبوا أعظم كتاباتهم وآثارهم نتيجة أسفارهم، الرحالة المسلمون والغربيون، كانوا يدركون أهمية السفر . والأساطير كذلك تجدين فيها موضوع السفر؛ في أسطورة جلجامش وبحثه عن الخلود ثمة سفر، رحلة الأوديسا كذلك، ودينيا كذلك أعظم ما يشار إليه رحلة الإسراء والمعراج . فالسفر مهم تماما كالعزلة، والقراءة والانفراد بالذات لسماع صمت العالم .
 
أعود لما كتبته إليزابيث جيلبيرت في روايتها السيرية "طعام، صلاة، حب"، أعود إليها لأنها قائمة على السفر، سافرت إلى إيطاليا، حيث غرقت في شهوة الأكل حتى زاد وزنها عشرين كيلو غراما، ثم إلى الهند حيث غرقت في التأمل الروحي والصلوات الروحية، وأخيرا تتوجه إلى أندونسيا حيث توجت رحلتها بالحب، فتغرق في شهوة الحب إلى أقصى حد، زاد وزنها، ثم فقدت تلك الزيادة، واستقرت نفسيتها بالحب، ثلاث جغرافيات، كانت مهمة لتنضج التجربة .
 
تدفعني رسالتك لأقارن بيني وبينك، أنا شخص متقوقع على ذاتي، افتراضي، لا أعرف من العالم سوى الأسماء والصور، وأغرق في القراءة . ويدفعني ذلك للمقارنة أيضا بين القراءة والسفر والاستمتاع بالطبيعة . قد تقرأ قصيدة جميلة عن الطبيعة كقصيدة البحتري مثلا "أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا"، فيصلك شيء بسيط من تأثيرها، ولكن لو أنك عشت هذا الربيع وتماهيت مع الطبيعة وتعمقت فيها، وأحسست أنك جزء مادي ومعنوي منها، ستبدو قصيدة البحتري وكل قصائد الطبيعة على جمالها والنشوة فيها، باردة باهتة، لأنها كما يقول أفلاطون محاكاة، والمحاكاة أضعف أثرا من الأصل، سيتعمق في داخلك شيء لن تجده في القصائد، ولن تستطيع اللغة أن تحمله إليك، وأنت تشعر أنك تلامس الجمال الإلهي بكل رقة ووجدانية وجاذبية .
 
أغبطك أيتها الغالية على أسفارك الكثيرة، فقد زرت الأردن ومصر والسعودية والإمارات وتركيا وتونس وإيطاليا، وربما أيضا دولا أخرى لا أعرفها، وتتمتعين بشبكة علاقات واسعة وممتدة وقوية من كل الأعمار والجنسيات، مع أنها تشعرني بالضيق والضجر، وأنت تعلمين لماذا، كل ذلك يؤهلك لتكوني كاتبة من طراز خاص .
 
ربما أنك تقرئين أقل مما أقرأ في الكتب، لكنك تقرئين أمورا لم يحدث أن قرأتها أنا، الثقافة الأخرى والناس والنفوس والأرواح والجغرافيا، أنا جاهل في كل تلك القراءات وما زلت أميا، إن أقصى مكان ذهبت إليه هو عمّان، ولم أخرج من بيتي إلا للعمل، ولا أحب صداقة الكتّاب إلا القليلين منهم . قراءاتك تلك أهم من قراءة الأفكار المجردة الذهنية تلك القابعة في بطون الكتب، جامدة تتحرك كأطياف من المعاني المحتملة، فثمة فرق بين من يغرق في الصور الذهنية للأفكار وبين من يعيشها حية بشكل طبيعي ويومي . هذا فرق كبير بيننا يا عزيزتي، لذلك أنا أغبطك، فيا ليتني كنت مثلك، "فأفوز فوزا عظيما"، ولكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه". ولذا لم تجر بي السفن إلى أي مكان .
كنت أبغي أن أحدثك عن قضايا أخرى، يبدو أن الرسالة قد طالت كثيرا، لا يحسن أن تزيد عن ذلك، فأنت في متعة روحية خاصة وفريدة، يا ليتني كنت معك، ولكنها الأمنية التي لن تكون .
 
استمتعي بما تبقى لك من وقت، متنميا أن أراك على خير وأنت تزهين بحلة الفرح والسعادة، هل أعيد عليك أن ترسلي لي بعض الصور، فأنا لم أنعم برؤيتك منذ زمن طويل . فهلا أنعشت الروح بمرأى محياك البهي ؟
 
دمت ودامت عليك الصحة والعافية وألق الكتابة .
المشتاق لرؤية بسمتك الندية
فراس حج محمد

فراس حج محمد

‏كاتب فللسطيني عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين. أصدر (18) كتابا في فلسطين والأردن ومصر . نشر في العديد من الصحف العربية

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved