الأربعاء: 24/10/2018
جميلتي اللذيذة، أسعدت أوقاتا أما بعد،
لقد سرني على نحو لطيف جدا مكالمة اليوم، كأنها الغيث التشريني في موسم قحط شديد، لكن، لا شك في أن انقطاعها كان كتوقف الماء فجأة في حلق الظمآن، فلا هو ارتوى، ولا الماء غدا صالحا للشرب . لحظة كنت دائما أتوجس منها وأخافها، وها هي تحدث، كما أنها تحدث في كل مرة تقريبا، ثمة من يقطع هذا الحديث المشتهى .
لقد كانت رسالتك المقتضبة مزلزلة لكياني كله : "بحق ما تحفظه لي من ود أن تدعنا نلتقي"، سنلتقي أيتها الغالية عندما أشعر أنني أصبحت قادرا على لجم شهوتي التي تأكلني كلما التقينا . فبحق من برأ الخلق وقدر علينا هذا الشقاء الأبديّ أنني مشتاق لك شوقا لا تستطيع الكلمات أن تحمله أو تصوره، ولكنني لا أستطيع أن أراك في هذه الأيام، فلن أحتمل رؤيتك والجلوس قربك، ففي كل مرة تطحنني شهوة جارفة لك، فالبعد أخف كثيرا من عذاب لقائك . هل تخيلت يوما عذابي ؟ إن النار تلتهمني حتى لو تحدثنا وضحكنا، حالة مستحيلة على الشرح، يكفي أن تعرفي أنني أريدكِ بكل ما ملكت من جنون وقوة وحب وشوق، لا تفارقينني في أي لحظة من نهار أو ليل، ولكن مع كل ذلك كلما كتبت لك أهدأ قليلا، فما بالك وأنا أكتب لك بعد أن تذوقت حلاوة صوتك بعد عطش شديد .
لقد مررت في الفترة الأخيرة بحالة من الشوق الشديد، كنت أعالجها بالقراءة والاستماع إلى الموسيقى، لعل أهم كتاب قرأته هو "الفلاسفة والحب"، إنه يتحدث عن تجربة عشرة من الفلاسفة ووجهة نظرهم في الحب، لقد أحب الفلاسفة حبا طبيعيا عاديا فيزيقيا كما يحب الناس العاديون، لقد اشتهوا محبوباتهم كما أشتهيك، لم يكونوا مثاليين، بل كانوا دائما يطمحون إلى ممارسة الحب مع محبوباتهم، فامتزاج البعدين الروحي والمادي ضروري جدا أيتها الحبيبة . لقد كنت أقول لك ذلك، فازدادت قناعتي بهذا لما أراه من حال العشاق، كتابا وشعراء وفلاسفة وسياسيين وطغاة، أمام الحب يتلاشى كل شيء، ويتعرى المخلوق من كل مكتسباته، ليظهر على حقيقته محتاجا عاجزا ناقصا، يسعى إلى الاكتمال مع من أحب، فالجسد ليس عفونة يجب أن نتخلص منها، إنه بوابة الروح والامتزاج بها .
لا شيء يجعلنا قادرين على أن نرى الأشياء على حقيقتها سوى الحب، أفكار هؤلاء الفلاسفة عمقت في الإحساس بأهمية الحب في الحياة، صحيح أن ما بيننا هو قدر، وقع دون تخطيط مسبق، لكنه كان قدرا مهما، كقدر أن نكون موجودين على هذه الحياة، الحب حياة أخرى متجددة داخل الحياة، لكنها حياة لا تشيخ، ولا تعرف الضعف أو التجبر .
كنت أرغب في الحديث أكثر هذا اليوم، عن الجوائز والفائزين بها مؤخرا، ولجان التحكيم، والذائقة الفنية، والاعتبارات الأخرى، لكن حدث ما حدث . لا بأس، ربما أتاحت لنا الفرصة أن نتحدث في قادم الأيام . فعلى ما يبدو ليس متاحا أن نتحدث متى شئنا، فالعمل والآخرون وأشياء أخر تمنعنا وتقطع لذة الحديث .
كنت مشتاقا للحديث حول رواية صديقنا الجميل مشهور البطران "أوبرا القناديل"، فقد وصلتني في البريد العادي، فرحت بهديته جدا، وأنهيت قراءتها، إنها عمل يربك القارئ والناقد على حد سواء، كانت الرواية مدار حديث بيني وبين الصديق رائد الحواري، إذ يتبنى موقفا إيجابيا من الرواية، على عكس ما وجدت أنا في هذه الرواية .
كانت الرواية خليطا من الواقعية والرمزية والفنتازيا والسخرية والأدب الشعبي، وبتقديري لم تأخذ أي من هذه الحقول حقها في الوضوح، فالفنتازيا في الرواية سطحية، وتشعر في بداية الرواية أنك في معمعة مطاردة الصراصير، ولا شيء غير ذلك، فأنت أمام مشاهد حقيقية لمجموعة من الصراصير المزعجة، فلم يظهر فيها أولا أنها ذات بعد فنتازي أو رمزي، ثم تتطور الأمور وشيئا فشيئا تصبح رمزا لأولاد العم، الذين أفلحوا في استدراجنا عن طريق الوسطاء إلى ما يريدون، ثم ينسى أمر الصراصير كمادة فنتازيا ورمز وتغيب عن المتن الروائي صفحات كثيرة، إلى درجة أن تسأل أين ذهبت وتلاشت، لتعود خجولة متسللة مرة هنا ومرة هناك، لتشارك الزعيم المخلوع غرفته وطعامه، إنها عادت إلى طبيعتها مجرد كائنات مزعجة غير مرغوب فيها، وإن أصبح الزعيم أكثر تقبلا لها .
هل ما زلت تتذكرين ما كتبته حول ظاهرة الشعراء الصراصير؟ أنا كنت أكتب ملاحظات نقدية على سلوك ثقافي، هذا المقال كما يقول الشاعر إياد شماسنة إنه سبب سقوطي المدوي في انتخابات اتحاد الكتاب الأخيرة . تخيلي مقال يسبب سقوطي في الانتخابات! ليس دقيقا ما قاله الصديق إياد، لكنه يبقى رأيا، كأن شماسنة بعيد عن "اللعبة الديمقراطية" الهزيلة المفضوحة بسيطرة الفصائلية التي تهزم كل من تحرك خارج دائرتها .
ليس مهما كل هذا، يا عزيزتي، فقد انتهى الأمر وانفض السامر، وربحت فصائلنا المعركة الخاسرة أصلا، ولنعد إلى رواية "أوبرا القناديل". ما أعجبني في الرواية هو ما فيها من كسر لقالب الرواية الكلاسيكي، فهي لم تحتف بالبطل الفرد كما جاء في الرواية ذاتها، ومنحت المرأة "مريم" والأطفال بطولة روائية، ولكنها أيضا متمددة في موضوعات متشعبة، لم يمنح أي موضوع منها صنعة روائية جيدة، فالزعيم "الأب الكبير"، الذي يبدو أحيانا كأنه صدام حسين أو زين العابدين بن علي وأحيانا بشار الأسد، وأحيانا الزعيم الفلسطيني الذي يدخل في مفاوضات عبثية . ثمة خلط في الرواية، تضيع فيها الأفكار والأحداث، ولا تستطيع أن تعطي لها شخصية ما . هل كان ذلك مقصودا كما يرى صديقنا رائد ؟ لا أدري . لم أقتنع بوجهة نظره في مقاله الذي كتبه عن الرواية .
أمر آخر أعجبني في هذه الرواية وهو إحالتها على كثير من المراجع المهمة، وأولها الفلسفية، فثمة أسئلة فلسفية في الرواية، من مثل : ما هو الحب ؟ وكيف يكون ؟ وما هي السلطة ؟ وكيف تكون ؟ وما هي القوة ؟ وكيف تكون ؟ وكيف يمكن السيطرة على الذات الجامحة للحب واللذة والشهوة، شهوة النفس للحب أو للحكم والتجبر. لقد أعادتني الرواية إلى مجموعة من الكتب المهمة التي تظهر الكاتب مثقفا ثقافة متينة، فلا بد وأنت تقرأ في الرواية إلاّ أن تتذكر كتاب "المقاومة بالحيلة"، و"الفلاسفة والحب" و"حيونة الإنسان"، وخطب الديكتاتور الموزونة، وفيلم "Dany The Dog" .
آمل أيتها الجميلة أن تقرئي الرواية، وتكتبي لي وجهة نظرك فيها، لقد كانت رواية صادمة، ويحسب لها فنيتها غير الكلاسيكية ومحاولتها أن تقول أفكارها بطريقة جديدة، مع قناعتي الراسخة أن نجاحها في ذلك كان نجاحا متواضعا .
وقبل أن ألثم شفتيك بقبلة أخيرة، أرجو أن تسامحيني فقد قسوت عليك وقسوت على نفسي كثيرا، لست أدري هل أنا على صواب أم على خطأ، ولكن أرجو أن تحتملي مني ذلك، عسى الرحمن أن يخفف عنا ما نحن فيه، فها أنا أمتثل لقولك : "اكتب كل ما تهبنا ( تخيلاتك المجنونة ) من حياة حتى يقضي الله أمره فينا" .
وإلى لقاء، أقبلك مع كل نسمة صباح وزهرة تفوح بعطرك .
فراس حج محمد