ما كنتُ لأستعيدَ ذكرى رحلتي إلى الجزائر في العام 1964، لولا سيِّدةٌ أميركيةٌ من أصل إيرلنديّ، اسمُها آن- ماري.
هذه السيدة تدرِّسُ الأدب العربي الحديث، في جامعة جورج واشنطِن، بسانت لويس، غير بعيدٍ عن شيكاغو .
قبل أشهر اتّصلتْ بي آن-ماري، من الولايات المتحدة، كي ترتِّبَ موعداً للقائي في منزلي بلندن .
قالت لي آنذاك إنها مهتمّةٌ بتجربتي المهنيّة في الجزائر التي وصلتُها بعد الاستقلال بعامَين، أي في العام 1964 .
استفسرتُ من صديقي سنان أنطون الأستاذ بجامعة نيويورك، عن السيدة، فأعلَمَني عنها بما يسِرُّ . قال إنها تجيدُ العربية، وتتابع كتاباتي منذ أعوام، وإنها مثابرةٌ ذاتُ دأبٍ وصبرٍ.
قبل أيامٍ زارتني آن- ماري .
السيدةُ صدقَتْ وعدَها .
سألتُها بأي لغةٍ تفضِّلُ أن يكون حديثُنا ...
قالت : كما تشاء. لكني أفضِّلُ العربيةَ !
*
استمرّ الحوارُ بيننا حوالي ساعاتٍ أربعٍ، وكان يدور حول محورَين :
الحياة الثقافية والتربوية في الجزائر المستقلّة حديثاً .
أسلوبي في كتابة الشِعر .
*
بعد الحوار الطويل ، هبط المساء ، وكان عليها أن تغادرِ إلى بيت أهلِها في منطقة ريدنغ ، وهي ليست قريبةً من هيرفيلد حيث أقيم . أوصلتُها بالسيارة إلى محطة مترو أكْسِبْرِدج .
في الغد سوف تذهب إلى باريس .
*
في العام 1964، كنت مطلقَ السراحِ حديثاً، من السجن .
ولأنني أعرفُ تماماً أن عيشي سيكون نكداً، دبّرتُ جوازَ سفرٍ شبه مزوَّرٍ، وغادرتُ برّاً إلى دمشق، ثم إلى بيروت . هناك سكنتُ قريةً يتجنّبُها الناس، لأنّ فيها مستشفى شهيراً للمسلولين : مستشفى بْحَنِّسْ .
كلفةُ السكن والعيش في تلك القرية كانت زهيدةً، مقارنةً ببيروت .
لكني كنت أذهب إلى بيروت لألقى من أودُّ لقاءه من أهل الأدب .
كان لي صديقٌ عراقيٌّ سبقَني إلى العمل في الجزائر، وكانت رفيقته فرنسيةَ الجنسية من أصل فييتنامي،
تدرِّسُ اللغة الإنجليزية .
هذا الصديق نصحني بالمجيء إلى الجزائر، والعمل في التعليم، إذ كانت الحاجة ماسّة إلى الكادر التعليمي .
وهكذا كنت راكب سفينةٍ رستْ في الأسكندرية .
من الأسكندرية استقللتُ حافلةً إلى ليبيا ، فتونس .
من تونس بالقطار، إلى الجزائر العاصمة، مروراً بقسنطينة .
في محطة قطار الجزائر العاصمة كان صديقي ( ناظم ) يستقبلني مع رفيقته الفيتنامية .
*
بعد أيام، اتصلت بالحزب الشيوعي الجزائري . كان في صحيفة " الجزائر الجمهورية "
Alger Republicain
وهي صحيفة الحزب، الرفيقان عبد الحميد بن زين، وبو علام خلفه .
هنري أليغ كان في فرنسا .
*
قيل لي في الصحيفة إنهم سيوصون رفيقاً لهم في وزارة التعليم الجزائرية، لتيسير أمري .
ذهبتُ إلى الرجل، وأتذكّر أن اسمه حِمراس . قال لي ضاحكاً :
سأرسلكَ إلى بلديّةٍ شيوعيّةٍ .
إلى سِيدي بلعباس، في الغرب الوهرانيّ .
*
وإلى سِيدي بلعباس بالقطار !
هناك، في تلك المدينة البهيّةِ، في السهل الوهرانيّ الخصيب، ذي الفواكه والأعناب،
أمضيتُ سنين سبعاً .
*
قد أتحدّثُ إلى آن - ماري بكل شيء عن الثقافة والتعليم آنذاك .
لكن ما خفِيَ كان أعظمِ :
قصيدتي دخلت، هناك، مدخلاً ما .
لقد اختلفتْ عمّا كنت أكتبه في العراق !
29.11.2015 لندن