أنادي هوبي عبد الرزاق .. وأعني حسن كنهير ..
الورقة المشاركة / الأمسية الثقافية الخاصة بالروائي محمد جبرعلوان – 9/ 5/ 2017
ملتقى جيكور الثقافي – قاعة الشهيد هندال –
مقر الحزب الشيوعي العراقي - البصرة
(*)
ذاكرة أرانجا لا تحتكر الفضاء الروائي، إلاّ على مستوى ثريا النص، لأن ذاكرة الرواية حين نسكن فيها كمؤجرين / قراء، سننتقل بين ثلاث ذواكر : ذاكرتان جنوبيتان تستقبلنا وذاكرة شمالية محتشدة بمنمنمات مؤتلفة / مختلفة : عرب – تركمان – كلد وآشور – أكراد : كل هذه المسميات : ذاكرة أرانجا التي هي الآن كركوك . وهي ذاكرة ذلك البيت في كركوك ..التي يحاول السارد العودة إليها لتضميد جرحه العميق في 8 شباط 1963 وبشهادته ( .. فقدان ذلك البيت في كركوك الذي لم يكن بيتاً فقط، بل كان ذاكرة حياة كبيرة امتدت بنا من أقاصي العالم إلى أقصاه ../ 123 ) .. ولكركوك منزلة ومقام في روح حسن / هوبي ..( تبقى كركوك مدينة حية ومستيقظة في رأسي، المدينة التي تصدر أصواتاً مختلفة عن باقي المدن ../139 ) .. والدخول إلى كركوك ( يشبه السقوط في فخ ..أجل فخ المدن التي تترك أثراً في القلب والروح، مدينة تركت أوشامها على كل جسدي../ 145 ).. وكقارىء منتج سأتلطف وأزحزح : أرانجا، قليلا وأثبّت جملة من ص183 لأن الذاكرة الرئيسة في الرواية هي حقا ( ذاكرة شرختها العتمة في الزنازين / 183 ).. فالبطل ( سجون كثيرة عبرها ولم يترك أثرا ً فيها، بل حفرت فيه آثارا لم يستطع أن يمحوها ../ 184 ) .. وهناك ذاكرة تعود لحسن كنهير تتجسد في شكيب، وبشهادة حسن .. ( إنه ذاكرتي المشرقة التي بقيت حية في عقلي ولا أستطيع منها فكاكا أنه من علمني كيف أكتب وأقرأ وبفترة قياسية .. / 107 ) ..
(*)
محور طبقات النص : اللحظة الغادرة في 8 شباط 1963..(77) (101)..(104- 105)
لولا هذا اليوم المشؤوم في الذاكرة العراقية، لما تم تهجير عائلة بقوة غدارات بورسعيد الحرس القومي .. ( الحرس القومي أبلغوها للمرة الثانية بأن تخلي البيت – يومان هي كل المهلة - ... سنرمي بكم في الشارع /87 ) هذا هو تهجير العائلة .. سبقه التهجير الأول بسبب العشق الأول بين حسن كنهير وسليمة بشهادة المرعى وخراف المرعى وزيدان شقيق سليمة ( إذا أردت سلامة ابنك، فليرحل من هذه القرية ولايأت إليها .. /46 ) ..
(*)
أشكالية الشخصية الرئيسة : شبهة التسمية . هل مكابدات هذه الشخصية بسبب مؤثرية التسمية الزائفة التي أنتسب اليها فبقيت قناعا فوق وجهه الحقيقي .. فوق حياته الواقعية وهذه التسمية هي التي ورطته بعد ان أستقرت عليه / به ..؟! أسمه : حسن : يقترن ( بالصبي الغر الذي هجر المجرية مرغما إلى البصرة../ 113 ) وفي البصرة، بسبب العشق أراد حسن أستقواءً، وألتقط ذلك زاير نعيم فجهّزه باسم رسمي فصار أسمه : هوبي عبد الرزاق ( بموجب وثيقة النفوس التي تحمل تولدا أكبر من عمري بخمسة أعوام .. /114 ) هذه الوثيقة الرسمية اشتراها له الزاير البصري نعيم .. وهي وثيقة لم تنقل إليه من صاحبها الحقيقي إليه، بل عبر تداولية اجتماعية . وبشهادة حسن ( أنها تنقلت من عدة بائعين إلى مشترين كنت أنا آخرهم ) .. فهو ليس هوبي كما أنه ليس شيوعيا منتسبا للحزب الشيوعي العراقي، وهو إنسان بسيط تورط أو ورطته الأقدار بتراجيداتها الساخرة وحسن يتحسس نحس التسمية عليه .. ( بدأت أوقن أن أقتيادي إلى السجن، أول سجن في حياتي بتهمة الانتماء إلى حزب لم أنتم إليه ولم أعرفه إلا بالاسم فقط، حيث أدفع ثمنا كبيرا أنا وعائلتي بسبب هذا الاسم . كانت علامات الشؤم والرؤى تتراكم أمامي منذ اليوم الذي حملت فيه دفتر النفوس الذي يحمل اسم هوبي عبد الرزاق ../ 115 ).. أم ( أن الشيوعيين تسببوا بمحنتي كلها../ 163 ) أم السبب لعبة التسمية ..؟ : ( لا أشك إطلاقا أن الأمر يرتبط بالاسم المشؤوم الذي حملته على كتفي وشما ينبض بالحياة ) أم الأمر يتعلق بالمالك الأول للأسم .. ؟.. ( فهذا الهوبي عبد الرزاق .. حامل دفتر النفوس المشؤوم هو السبب في كل هذا، لولاه لبقيت في المجرية .. وربما أتزوج سليمة وأبقى قريبا من حضن أمي ../ 164 ) ..
(*)
حين توغلت في سماواتها وأرضيتها : تساءلت هل هي رواية : صوتية ؟! وسيكون سؤالي الثاني : هل هي رواية تسموية تشتغل على فاعلية الأسماء ؟ وثالثا وأنا اتشمم الرواية قلت لذاكرتي : يبدو أنها من رواية الرائحة !! وكانت الأجابة واحدة متحدة : أنها رواية مغوية أوقعتني مجذوباً في حضرتها فالساحر / الكاتب : بخبرته السردية القصيرة القص، أنطلق بساقيّ عداء نحو المسافة السردية الطويلة وجعلنا نطوف معه حول ذاكرة أرانجا .
(*)
لا تكتفي الرواية بمستوياتها الثلاثة، فهي تسيّر سيرورتها عبر نظام إحالي واضح الملامح، تفتتح الرواية به وحدتها السردية الأولى، بصيغة حوارية :
(- لا أعرف ُ مَن أنا
- بدأت تكذب ... أيها المترهل / ص5 )
(- لا أعرف من أنا ...!
- بدأت تكذب .... / ص 179)
(- لاأعلم ماالذي يجري....؟
- بدأت تكذب ...؟ / ص185)
(- لا أعرف من أنا...!
- بدأت تكذب أيها العازف.../ ص215)
هذه التقنية الحوارية هي العمود الفقري للرواية .. مجرد عتبة / مناصة لسرد إبراهيم .. ومن خلال ذلك يقوم إبراهيم بتغيير جهوية كلامه إلى شخص ثان : والده – شكيب – زايرة سكنة – إلخ .... وبتوقيت المتغيرات الزمكانية، وأحيانا يكون الكلام بنقلات سريعة من سلام إلى والدهما، أعني حسن كنهير.. أو إلى سواه ..
إذن : الحاضنة الرئيسة للسرد ملفوظات إبراهيم .. إلى شقيقه المنغولي : سلام .. وهذا الحوار .. هو في نفس الوقت هو المسرود في الإناء الورقي للرواية.. كما فعلها تولستوي في روايته القصيرة ( لحن كرويتزر ) وفعلها عبد الرحمن منيف في (الأشجار وأغتيال مرزوق ) حيث يتحاوران إلياس نخلة ومنصور عبد السلام ..لكن في ( أرنجا ) سيكون الحوار بصنعة نصية تستفيد من المنجز وتسعى للتجاوز النصي بجهد روائي جميل، وإبراهيم كسارد مشارك في فتنة السرد يعلنها قائلاً.. ( نلعب دائما في العبارات أو إطلاق الآراء التي لها علاقة بهاجس معين، لكنها لعبة سرعان ماتنتهي حينما أسهب في شرح أمر ما../ 7 ).. وستوزع كلام إبراهيم جهويا فهو مرة يحدثني أنا القارىء ومرة يحدث أخيه سلام.. والجهتان مدغومتان في لسان إبراهيم كما في قوله التالي، حين يسأله سلام (- حدثني عن ابنة عمنا.. نسيت اسمها ..) يجيبه إبراهيم ( - تقصد ،، أسماء،، حسنا سأبدأ في ،، أسماء،، التي استبدلت اسمها إلى ،،إجلايا،، كان هذا بعد انتهائي من قراءة ( دستوفيسكي ).. مابين القوسين هو كلام إبراهيم الموجه إلى سلام . لكن الكلام التالي سيتغير جهويا، أعني سيكون موجها لي كقارىء نص :( .. ولم يكن الأمر معقدا كما تصوره سلام وهو يكرر الأسئلة .. يتخيل حينما يقاطعني، أموراً لها مساس بنا.. رغم أني كنت أعدها مقاطعات ساذجة إلا إنّه ينسى أسمها.. هو يدعي – لاأعلم لماذا – إنه ينسى اسمها.. هو يحب الحديث عن أسماء.. ويتمنى دائما أن أحدثه عنها.. ) .. ثم ينقل السارد إبراهيم، للقارىء، كلام سلام : ( كلا ياعازف .. أنا أسير معك خطوة .. خطوة .. كلماتك جميلة .. من أين تأتي بكل هذا السحر .. هذا الجمال ../ 8 )..
(*)
حين يتحدث إبراهيم عن حبيبته أسماء، التي بمؤثرية دستويفسكي صار اسمها( إجلايا ) فالحديث موجه إلى سلام أيضا ومن خلاله يصلنا .. ومن خلال سلام، يكون مرور إبراهيم إليها ( صدقني ياسلام أحس بالوحدة الكاملة وأنا أدخل إليها عبرك، ../62) ..
وحين يتحدث إبراهيم عن أبيه بحجم مناصة صغيرة.. (10) بعدها مباشرة يدخل صوت الأب ساردا ( 10).. لكن في المرقمة (3/ ص75) سيكون السارد هو الأب .. وهو يحددثنا عن ولده إبراهيم الذي ( .. يمتلك الكثير من السحر يضفيه على المكان الذي يشغله ../ 76 ) ..
(*)
وستتكشف لنا مؤثرية السجن عليهما الأب / الأبن / ص11... ثم يواصل الأب حواره مع ولده إبراهيم / 12 ثم يستعيد الأب ماجرى من كلام بينه وبين صديقه شكيب وهنا سيكون الكلام موجها لولده إبراهيم وهكذا تحول الحوار بين شكيب والأب .. إلى سرد حين استعاده الأب لولده إبراهيم /16وفي ص 18 ينتقل السرد إلى زمكان متقدم أعني زمن الحوار بين الأخوين إبراهيم وسلام، ثم ينتقل إبراهيم كأنه بوظيفة سارد عليم/ مشارك يخاطب القارىء ( /20 )
(*)
سلام له منولوغ / 8/9/ وسلام يقرأ مسرودات الحائط / 19/22/
(*)
السارد العليم : 32- 33- 34- 42-43/ السارد يتحدث عن حسن في فتوته وعزوبيته
(*)
وهناك سارد آخر هو والد إبراهيم ../ 75 ومن خلال والد إبرهيم سندخل حواريات إبراهيم ووالده /82
ثم ندخل سرد والد إبراهيم الموجّه للقارىء حول مؤثرية 8 شباط 1963 على عائلته الكادحة واللجوء إلى منطقة رحيم أوه بمعونة صديقه ( أبو جواد )../ 87 وسيكون سرد الوالد بمثابة حاشية صغيرة على المتن المتشكل من كلام الإبن أعني إبراهيم ../ 87.. وفي ص99 سيكون سرد والد إبراهيم قد إنتقل من حواريته مع ولده إبراهيم .. إلى حوارية الذات مع ذاتها : منولوغ.. في المرقمة (4/ ص123) سيكون كلام هوبي عبد الرزاق جهويا إلى زايرة سكنة .
(*)
صوتيات الرواية : فهرست ..
( كان الليل يشرخ الصمت، حيث الصوت الذي يعرفه ينساب مع كل خطوة يخترقان فيها الليل ويسمع الصوت ذاته من المقهى المجاور للمطعم، يتكرر الصوت من جانبي الشارع العريض الساكن تماماً، إلا من ذلك الضجيج المتصاعد من المقاهي ممتزجا مع صوت المغنية ../ 55 )
( يتحول السرير بعد أن تنصب ( الكلّة ) إلى غرفة سرية بيضاء، أجل إنهّا جدران قماشية شفافة تحمي من العيون المتلصصة والبعوض، لكنها تبقى مباحة لمن يلتقط الأصوات المنبعثة منها إذ يرسم في مخيلته مايشاء .................... أبقى أسيرا لكل ما أسمعه خلف الجدران القماشية الرقيقة، تلك الأصوات المكتومة المحاطة دائما باللهاث / 64- 65 )
( حال ما أسمع صوت قطار يخترق المدينة، أسمع ذلك اللغط الهائل في عقلي وأرى وجوها هلامية تطوف في المساحة المتاحة أمامي ../ 70) ..
( أسمع صوت الباب وهو يصر، يفتح أو يغلق ببطء ضيانها معا في الغرفة، موهما أياهما أنيّ أقرأ، كنت أنصت جيدا إلى تكرار أسئلتها (/72)
( سمعت أنّ الحرس القومي داهموا الدار / 80 )
( أقتربت قليلا ً من الصور وفيما أنا ساهم أنقل نظراتي بينها وبين الصمت المهيمن على البيت سمعت ُ همسا... أجل صوت بشري حميمي، تخللته تأوهات، ألصقت جسدي قرب الجدار قريبا من كوة صغيرة .. هيمن صمت تام، صمت غريب لم يقطعه سوى أنفاسي ......... / 89 ) ثم وهو يلاحق بعينيه طيورا، يتنامي سرد الصوت ..( صوتا نسائيا يخترق الكوة ويصل إلى مسامعي واضحا.. كان الصوت يشبه صوت أمي ..../89 ).. ثم تلتقط إذن السارد حركة خفيضة وتشهرها ( وبهمس يشبه التأوه سمعت احتكاك الجسد في الأرض الترابية ) ثم تتغير جهوية الصوت .. ( كانت أصوات الطيور وهي تضرب الجدران تتردد في رأسي تمتزج مع صوت أمي وسمعت مرة أخرى الصوت يتكرر، لكنه كان صوت رجل، يطلب من المرأة أن تقترب، سمعت ُ الاحتكاك مرة أخرى على الأرض الترابية وثمة آهة، ولم أجد مكانا أضع قدميّ، إذ أنكسر شيء تحتهما، بقيت معلقا وأنا أقلّب صوت الرجل، كان صوت يشبه صوتك .. بل إنّه صوتك ../ 90 ).. وهناك علاماتية غرائبية للصوت فالمرئيات هي : ( خطافات ملونة تخرج من حقل كبير يعيش فيه /185 ) لكن السارد لكي يوضحها يستعير لها صورة أبشع .. ( تشبه المخالب الحادة ) ثم ينتقل لصورها فيروحنها : ( المخالب هي أرواح هائمة في السماء تقترب من الأرض لتأخذ بثأرها منّا نحن / 186 ) ثم تتحول الصورة إلى صورة تركيبية : صورة وصوت ( ويكون لسقوطها دوي يشبه سيارة تسير بسرعة على الأسفلت وتدور دورة قاسية ثم تسقط على جنبها، تبقى تسير بسرعة وحديدها يحتك بالأسفلت، ثم ينتقل الصوت الى صورة مرئية ثانية : ( وتطلق شررا وأصواتاً بلا معنى... أصواتا غريبة تشبه امتصاص كتل قاسية )
(*)
حين أنتهي من قراءتي الأخيرة، سيغادر الرواية إبراهيم حاملا الترموز الملون المليء بقطع الآيس كريم .. سيطوف الآن في 2017 حاملا الترموز بيد وعلب المناديل الورقية بيد الثانية .. يزبق قرب الترفك لايت نحو السيارات الواقفة يعرض عليها بضاعته .. وربما سيشاكسه المخانيث ويختطفون الترموز وهم على دراجتهم النارية .. وعلى مرأى السيطرات ورجال المرور .. وسينظرون للمشهد رجال الدولة من خلف الزجاج المظلل الذي سوّد حياتنا كلها وبيّض مصارف الدولة لتبيض هناك في الأقاصي..
*محمد جبر علوان / ذاكرة أرانجا/ دار فضاءات / عمان / 2013