مقدمة:
من جملة إفرازات أحداث العراق الأخيرة ، كشف النقاب عن وجود العديد من القوميات والأديان والطوائف التي سكنت العراق منذ القدم والتي لم تكن معروفة لعامة الناس ولم بسمع عنها إلا القليل ربما .
تتعرض هذه الأقليات اليوم لحملة إبادة مسعورة بحجة الدين والدين منها براء .
الإسلام دين يقدس الروح التي خلقها رب العالمين ويصون دم من شهد بوحدانيته.
الصابئة المندائيون طائفة من تلك الطوائف والأديان التوحيدية الأولى.
فمن هم الصابئة المندائيون ؟
الركن الأساسي والأهم في الديانة المندائية هو الشهادة بوحدانية الله ( سهدوثة إد هيي) ويقرون أنه لا إله إلا الله الذي إنبعث من ذاته ( إله إد من نافشي إفريش).
إن كلمة مندائي تعني باللغة المندائية ( معرفي ) أي العارف بحقيقة الله جل جلاله .و المندائية دين توحيدي قديم . ومن الأديان التوحيدية القديمة المنغلقة أي أنه دين غير تبشيري .
ورد ذكر الصابئة في القران الكريم في ثلاث سور ( البقرة ، المائدة وسورة الحج ) وهم أول من بشر بالتوحيد في جزيرة العرب وبلاد ما بين النهرين .
للمندائيين كتاب مقدس هو يسمونه الكنزا ربا وهو صحف آدم وكتب أخرى وكلها كتبت باللغة المندائية وبالحرف المندائي .
اللغة المندائية لغة آرامية مستقلة لها أبجديتها الخاصة والمتكونة من 24 حرفا وهي قريبة من العربية والعبرية والسريانية . وكانت اللغة المندائية منتشرة في بلدان عديدة في الشرق الأوسط في تلك الحقبة . إلا أنها تراجعت وأصبحت الآن من اللغات المندثرة. وقلة من الناس فقط تتقن المندائية اليوم حتى أنهم يعدون على الأصابع .ومما زاد في تعقيد فهم الكتب المندائية . إن المندائيين القدامى اضطروا إلى اللجوء للرمزية عند كتابة الكتب الدينية للحفاظ على المقدسات التي تحتويها نتيجة الاضطهاد الذي تعرضوا له من قبل كل الأديان الرئيسية في المنطقة مثل اليهودية والمسيحية والإسلام والتي كانت تجبر المندائيين على ترك ديانتهم . فكان علماء الدين المندائيين يتداولون شرح تلك الرموز شفاهة وتلقن من عالم ديني للذي يأتي بعده واستمر ذلك جيلا بعد جيل .
جرت ترجمات لكتابهم الرئيسي ( الكنزا ربا ) للغات عدة قام بها في البداية المستشرقون ومن ثم العرب . ولكن كل تلك الترجمات بما فيها الترجمة العربية الأخيرة بعيدة كل البعد عن جوهر الكتاب .وربما تمثل تعريفا بسيطا به لا أكثر .
لقد بدأ البحث العلمي بشكل جدي في الفكر والدين المندائي وتأريخ المندائية ومنشأها الأول في بداية القرن التاسع عشر وقد ظهرت دراسات وكتابات جدية عن المندائية في بداية القرن الماضي. نشرت في اوربا بين عامي 1930 - 1960 مائة وإثنان وأربعون مؤلفا في هذا المجال وأهم تلك الدراسات ما قامت به المستشرقة البريطانية الليدي دراور Drower,E.S. وكتابها (الصابئة المندائيون ) يعتبر اليوم من أهم المراجع في هذا المضمار. كما قام آخرون بترجمة بعض الكتب الدينية ووضع قاموس مندائي إنكليزي وكتب تعلم اللغة المندائية وغيرها من الجهود الجادة في الكشف عن هذا الدين التوحيدي الموغل في القدم .
تدرس المندائية اليوم في جامعات عدة منها في ألمانيا وانكلترا وأمريكا حتى أن جامعة كوبنهاكن قد درسّت المندائية قبل بضع سنوات .
ظهرت كتب و دراسات عن المندائية باللغة العربية، ولكن أغلب تلك الكتابات كانت تفتقر للأسلوب العلمي الجاد .ولا يمكن الركون إلى أغلبها كما لم يتطرق أي من الباحثين للدور الكبير الذي لعبه المندائيون في نهضة العراق الحديث وعن دورهم البارز في إغناء الحضارة الإسلامية.
بعد هذه العقدمة السريعة والمختصرة جدا أحاول وأنا مهندس مندائي في العقد السادس من العمر أن أنقل لكم بصورة مبسطة فكرة عن المندائية وسوف لن أقطع بعلمية ما سأسرده لكم . ولكن هذا ما وصلنا من المعرفة عن طريق الأيمان والممارسة الشخصية وما توارثناه عن أهلنا وما إطلعنا عليه في معظم ما نشر عنهم فالأديان لا تخضع للعلم والتجارب المختبرية وإنما هي مسألة إيمان:
إن الدين الصابئي المندائي موغل في القدم حتى أنه ينسب إلى آدم أبو البشر عليه السلام . ففي صلواتنا ندعو له بالرحمة والبركة كونه أول إنسان وأقدم رسول إلى البشر.
وكتابنا المقدس ( كنزا ربا ) ما هو إلا صحف آدم تم تدوينها في أوقات لاحقة . وهناك مجموعة من الأنبياء والرسل لهم مكانة مميزة في عباداتنا مثل النبي شيت ( شيتل باللغة المندائية ) والنبي سام وآخرهم النبي يحيى ( يهيى يهانه باللغة المندائية ) عليهم السلام .
إن الفكر المندائي يتميز بالتوحيد المطلق حتى أن الخالق جل اسمه لا يذكر إلا كونه لا شبيه له لا شريك له ولا حدود له . حي أزلي أنبعث من ذاته ( إلاها إد من نافشي إفرش ). كما أننا نبدأ أكثر ممارساتنا بذكر أسمه ( بإشمت هيي : باسم الحي ) .
إن ما يربط المندائي بالخالق هو النفس ( نشمته ) .
ونفهم النفس على أنها قبس من الخالق زرعه الملاك ( هيبل زيوا : جبريل ) في جسد آدم وعندها فقط انتصبت قامته و تفتح عقله وعرف الآف الآف الأسرار .
يؤمن المندائي بأن هناك حياة بعد الموت ولكن للنفس فقط أي أن الأجسام لا تبعث ثانية فالنفس وحدها هي التي تصعد لباريها أما الجسد فيعود للأرض التي جبل منها .
همّ المندائي في هذه الدنيا هو أن يساعد النفس التي حبست في الجسد بألعروج إلى الخالق بعد الموت بدون ذنوب لكي تتحد بعالم الأنوار .
فبعد أن يموت المندائي توزن أفعاله في الميزان ( أباثر موزنيا ) والذي يقع في شمال الكون . فإن زادت أفعال الخير وكان قد أقام كل طقوسه في هذه الدنيا بشكل صحيح ترتفع النفس بدون عرقلة إلى باريها لتتحد بعالم الأنوار . وإذا كان العكس فالنفس تمّر بمطاهر تعذب فيها على قدر ذنوبها وإهمالها لعباداتها وقد تطول أو تقصر تلك الفترة على قدر الذنوب وعلى ما يقدمه الأحياء لتلك النفس من ثواب وطقوس خاصة تجرى على أرواح الموتى وفي النهاية ترتفع النفس إلى باريها بعد ذلك لتتحد بمثيلها في عالم الأنوار .
التعميد بالماء الجاري هو الأساس في أغلب الطقوس المندائية وهناك في الدين المندائي ثلاثة مواقف أساسية ، يجب أن يعمدّ فيها الفرد المندائي في الماء الجاري مرتديا ملابس دينية بيضاء خاصة وبواسطة رجل دين متخصص وإلا فسوف لا يصلح لاحقا ليكون رجل دين ولن تصعد نفسه إلى عالم النور وتظل تتعذب جراء ذلك وتلك المواقف
هي :
عند الولادة
لا تتم مندائية الفرد المندائي بعد ولادته بشكل تلقائي ولكنه يصبح كذلك بعد أن يعّمد في الماء الجاري من قبل عالم دين مرتديا ملابس دينية ويتم ذلك التعميد في الغالب بعد أن يدرك الطفل ويتعلم الكلام
عند الزواج
يجب أن يعقد قران العروسين وفق طقوس دينية خاصة ويكون التعميد في الماء الجاري ركن أساسي فيها.وتتم كذلك تحت إشراف أكثر من رجل دين وبملابس دينية بيضاء . (وقد حافظت تلك الطقوس على شكلها القديم وهي جميلة تزينها الزهور وأغصان الآس ).
وإذا تم الزواج بغير تلك الطقوس وإن كان رسميا ومثبتا في الدوائر الرسمية فإن العروسان لن يسعدا في حياتهم في هذه الدنيا وتكون ذريتهم غير صالحة لمرتبة رجال الدين . ولن ترتقي نفوسهم إلى باريها.
الوفاة
عند الممات يجب أن يعمّد ( يغسّل ) الميت ويلبسّ الملابس الدينية الخاصة قبل مماته. فإذا مات في حرب أو سفر أو في حادثة ما .تكون وفاته غير (نظيفة) دينيا وعندها تقام على روحه طقوس دينية خاصة معقدة جدا. لذا تجد المندائيون يكرهون الحروب ويفضلون الحياة المسالمة الهادئة .
والمندائيون يرتمسون في الماء الجاري في غير تلك المواقف وهناك منهم من يرتمس في كل مناسبة دينية تقربا لله.
هناك نوع من التعميد لا حاجة به إلى تدخل رجل دين ويتم في الملابس العادية، وكان المندائيون يؤدوه كل يوم تقريبا في البيوت أو الأنهار ويسمى بالمندائية ( طماشة ) وهو لغرض التطهر من النجاسات مثل الجنابة وطهارة المرأة بعد الحيض وكذلك في حالات الغضب والكذب وعند الذبح وغيرها من الممارسات الدنيوية الغير طاهرة وكذلك يقومون ب( طماشة ) المواد والأدواة الغير طاهرة .
المحرمات في الدين المندائي هي مثل مرادفاتها في الأديان الأخرى تقريبا مثل الزنا والقتل والربا وغيرها . كما لا يجوز للمندائي القسم بالله صادقا كان أم كاذبا . ويحرم عليه شرب الخمر بهدف السكر .وكنز الأموال وزواج المحارم ويحرم السحر وممارسته .
ويحلل الدين المندائي أكل اللحوم ولكن فقط لحم ذكر الغنم والطيور والأسماك . ولا يحلل أكل لحم الصيد ما لم يتم ذبح الطريدة على الطريقة المندائية وكذلك أكل أية لحوم إذا لم تذبح بتلك الطريقة . وهي طريقة صعبة إلى حد ما حيث فيجب أن تفحص الذبيحة للتأكد من خلوها من العاهات ويجب أن تنظف بالماء الجاري قبل ذبحها . لا يحق للفرد المندائي العادي الذبح . فالذبح محصور على رجال الدين أو المرشحين لذلك فقط . ويجب أن يتم الذبح بسكينة حديد حادة وعلى فراش من القصب أو من سعف النخيل ويجب أن يذكر أسم الباري عليها وتطلب منه المغفرة لذبحها كونها روح قد خلقها الله . ويجب أن يكون هناك شاهد يتابع الذبح على الطريقة الصحيحة.
للمندائيين صلوات ثلاث يوميا يقضيها المندائي واقفا دون سجود على أن يسبقها وضوء، والوضوء الإسلامي يشبه كثيرا الوضوء المندائي وقبلتنا الشمال حيث الملاك أباثر حارس الميزان .. ولا توجد عندنا صلاة جماعية .
للمندائيين أعياد أساسية ثلاثة وهي العيد الكبير ( عيد الكرصة ) والعيد الصغير وعيد الخليقة ( البنجة ) وهناك أعياد ثانوية متفرقة على مدار السنة .
صيامنا يقضي بعدم أكل كافة اللحوم لأيام معلومة في السنة وكذلك الامتناع عن قول السوء والنميمة وعن كافة المحرمات ولا يصوم المندائي عن الطعام كله .
وزكاتنا تختلف عن الإسلام فهي ليست محددة ولكنها واجبة وحسب الإمكان وهي صدقة مباركة ولكن يجب عدم الإعلان عنها .
يتم رسم رجال الدين بطقوس خاصة وصعبة للغاية ولا يصلح أي مندائي أن يكون رجل دين بل يجب أن يكون منحدرا من سلالة طاهرة لم تتزوج نسائهم إلا بكرا وإلى سابع ظهر. وأن يكون سليم الجسم والعقل ولم يصب بأمراض مستعصية العلاج مثل الجذام والجنون وأن يكون بدون أية عاهة . وهم على درجات ولكل واحد منهم مهامه الدينية الخاصة وحسب معرفته الدينية . والعالم الديني لا يشارك المندائيين أو غيرهم من الناس الطعام. فطعامه يجب أن يعد له من قبل زوجته أو يقوم هو بإعداده، ولا يتناول رجل الدين الأدوية والعقاقير . حتى الماء لا يتناوله إلا في أواني خاصة به وحده لا يجوز لأحد مسها كما لا يجوز له قص شعره إطلاقا . ويمكن للمرأة أن تكون عالما دينيا وبكل المراحل وإن كانت هذه الممارسة لا تطبق حاليا ولكن ليس هناك مانع ديني من ذلك.
تأريخ المندائيين مشوش جدا وزاد في ذلك ، النظريات المتضاربة عن أصلهم والتي أطلقها المستشرقون .
فمنها النظرية الغربية والتي تقول بأن أصلهم من فلسطين والنظرية الشرقية التي تقول أن أصلهم وادي الرافدين فهم بقايا البابليين سكنوا الأهوار وجنوب غرب إيران ( الأهواز المحمرة وغيرها ) وهناك نظرية تمزج بين الاثنين وهي الأقرب للواقع والتي تقول بأنهم بقايا البابليين هاجر إليهم من إعتقد بالمندائية في فلسطين هربا من مذابح اليهود هناك. ولم يتم القطع علميا بذلك إلى اليوم.
لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد نفوسهم ولكن التقديرات القريبة تقول إن عددهم يصل إلى بضعة الألوف. كان يسكن أغلبهم في بغداد والبصرة والناصرية والعمارة وغيرها من مدن العراق وهناك مجموعة كبيرة منهم سكنت جنوب غرب ايران في المحمرة والأهواز وغيرها وهم شبه مقطوعين عن المندائيين في العراق .
والمندائيون في إيران أكثر تمسكا وتزمتا في أمورهم الدينية من المندائيين العراقيين .
هاجر العديد من المدائيون في فترة حكم النظام البعثي الدكتاتوري إلى مختلف بلدان العالم بعد أن تعرضوا للقتل والملاحقة .
واليوم يتعرض المندائيون إلى حملة إبادة في العراق .لا نجزم من وراءها ، ولكنها بالنتيجة تطال عراقيين لا شائبة على وطنيتهم وحبهم لترابه . مؤمنين بإله واحد خالق هذا الكون. ويؤمنون بالسلام والمحبة بين البشر .
أهم تجمعاتنا اليوم هي في السويد وأمريكا وأستراليا وهولنده وغيرها وهم لا يزالوا يمارسون طقوسهم ذاتها تقريبا في تلك الدول على الرغم من الظروف المناخية الصعبة . وقد بنا بعضهم المعابد في تلك الدول. ولكن الغالبية منهم ينتظرون استقرار الأمور في العراق للعودة اليه . فالمندائي متشبث بعراقيته إلى حد كبير.
أشتهر المندائيون على مرّ العصور بإتقانهم صياغة الفضة والذهب والحرف اليدوية مثل النجارة والحدادة .وهناك نسبة كبيرة منهم من حملة الشهادات العالية وقد تكون تلك النسبة هي الأكبر بين مكونات الشعب العراقي . والأمية تكاد تكون معدومة وخاصة بين الشباب.
أشتهر العديد منهم في التأريخ الإسلامي مثل الطبيب ثابت إبن قرة وأبو إسحاق الصابي والبتاني الذي سميّ المرصد الفلكي العراقي بإسمه وغيرهم وفي عراقنا الحديث أشتهر منهم علماء مثل الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيس أول جامعة عراقية وهو من مشاهير علماء الأنواء الجوية وأحد تلاميذ عالم الفيزياء الأشهر أنشتاين .
وأشتهر كذلك منهم العديد من الفنانين والشعراء والشاعرات والمربين وغيرهم. والله أعلم .