فاطمة ناعوت، ألتقيت ُ بكتاباتها من خلال موقع الحوار المتمدن، إبداعيا : لم أقرأ لها سوى هذه المجموعة الشعرية، مؤلفاتها لم تصل للعراق، فكيف تصل إلى البصرة ؟!، كما أن مؤلفاتها المتوفرة نتيا، ليست بالمجان، وهذا هو المصد الكونكريتي الثاني، أعني مؤلفاتها ليست في المواقع التي يمكن الدخول اليها وتحميل ماتشاء . وشخصيا أنا مدين بالكثير لهذه المواقع السخية معي والتي جعلتني أوسس مكتبة الكترونية لي داخل حاسوبي، ثم القيام بسحب هذه الكتب على ورق الطباعة...
(*)
في ( أسمي ليس صعبا ) .. سأتوقف عند بعض النماذج الشعرية التي تستعمل المفردات، على وفق مفهوم الكتلة والفراغ فمنحوتاتها الشعرية تثبّت الفراغ لتطوقه وقصائدها بالعين ندركها لابالتفكير ، ربما (إدراكها بالفكر معناه جعلها متماثلة ) كما علمنا الشاعر فرناندو بيسوا .
(*)
من خلال قصائدها : أرى فاطمة ناعوت تعزف الكلمات لتصور المشهد الساكن ، وبالعزف والتصوير، تستضيىء العزلة بموسيقى الأزرق الخافت ويتحرك الساكن ، وينفض الموتى غيابهم ، مرة عبر ذاكرة الإهداء النصي ( إلى سهير ) ..أو ذاكرة ( اللون الأبيض ) الذي يشغل وظيفة رابط تفاعلي..
(*)
الأم الغائبة : أمتلكت نسق المتعدد في الواحد، الأم التي داهمت أبنتها بغيابها : بثت حضورات البياض كلها في حياة الأبنة وأسئلة البياض ، أجوبتها عاطلة على الإجابة : ماذا أفعل / ماذا أعمل / ماذا أفعل .. هذه أسئلة العزلة ، بتوقيت ذات
إرتطم وجودها العائلي ببياضات، صيّرهاغياب الأم عبئا ًعلى البنت المفجوعة :
( ماذا أفعل بالثلج
عشّش في اركان البيت
بقطتك البيضاء
ماذا أفعل بصورِ
العائلة على الحائط الأبيض
بستارة بيضاء ساكنة
بالسيارة البيضاء العجوز
بفوطة بيضاء تحمل رائحتك
بخصلة من شعرك بيضاء
بشال حرير أبيض )
نلاحظ أن الشحنة السالبة للغياب، شفطت بقية ألوان الطيف الشمسي وأطلقت بياضا بحجم شاشة سينما، لايشير الى ذكرى حميمية فقط بل إلى لون العدم والقصيدة بحد ذاتها توهمنا بالديالوج لكن هي من جانب آخر منولوغ يرثي نفسه من خلال الآخر / القرين الحميم، والمسموع بالقصيدة هو المرئي من الأم أيضا
(*)
أسئلة فاطمة هي أسئلة الحياة بزهوة إخضرارها الدائم، فالأبنة بواسطة القصيدة : تمسك الأم من معصمها وتعيدها إلى حركية الحياة اليومية، وهكذا ستكون الأم ظلا أخضر للأبنة وتملأ جرتها بالماء المحروس من الغراب ليست الأبنة وحدها، كلنا للأسف لاندرب أنفسنا على الغياب، كلنا نحاول ان نتحاشاه ولانذكره بصوت ٍ مسموع ٍ، كلنا تلك الطريدة المتكررة .. يتعقبها ذلك الصياد الأغبر، موتنا مجدول بحبل سرتنا جميعاَ، لكن الفن الجميل يعرف كيف ينشب أظافره في ذلك الوجه البشع وفائض شهوته التي لاتُفنى .. وكلنا سنتهم الغائبين بالخيانة كما فعلها محمود درويش وهو يرثيهم ( أصدقائي الخونة ).. والشاعرة فاطمة ناعوت، هزمت موت أمها بالقصيدة ثم صيرت قصيدتها جسرا لتعبر عليه الأم ويتضوع عطر حضوراتها، من خلال فعل القراءة، ويظللنا كلنا ونستعيد أمهاتنا من غيابهن .
(*)
بياض فاطمة، يعيدني إلى بياض أمل دنقل في قصيدة ( ضد مَن) يشتغل الشاعر أمل دنقل على لعبة لونية فهناك الأبيض الواحد المتعدد ونقيضه اللوني : الاسود .. ويرى الشاعر ان تعددية البياض لاتبّث سوى ذلك البياض الموحش وهذا البث السالب مشروط بقسوة المكان ( غرفة العمليات ) ..
( في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض
لونُ المعاطف أبيض،
تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات،
الملاءات،
لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن،
قرص المنوم، أنبوبة المصل،
كوب اللبن،
كل هذا يشيع بقلبي الوهن .
كل هذا البياض يذكرني بالكفن !
فلماذا إذا مت ..
يأتي المعزون متشحين
بشارات لون الحداد ؟ / 441 ) ..
بياض مشروط بمكان له مؤثرية سالبة على رهف الذات الراصدة :
( كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكرني بالكفن ) ..
ومن بياض الموت يتشقق سؤال الشاعر حول تغيّر اللون الى النقيض / اللون الاسود
( فلماذا اذا مت ...
يأتي المعزون متشحين
بشارات لون الحداد ؟ )..
والشاعر يسأل ويجيب على سؤاله :
( هل لأن السواد
هو لون النجاة من الموت ِ
لون التميمة ضد..الزمن )
(*)
بالشعر ترمم فاطمة ناعوت كينونتها عبر كتابة غيابات الآخرين وحضورات العشق وفي الحالتين تكون الشاعرة بوظيفتين فهي الموضوع وهي مراقب الموضوع نفسه وهكذا يرغب القارىء النوعي بصداقة نصوصها :
( عند الصبح
أعبىء الشمس في حقائب
لأبعثها أليك )
( لايشبه الجبل، الذي أحمله في جرتي )
(تخلع اللجام قبل أن تدخل العشب )
(أن رجلا في البعيد
يُودع الآن قلبين في درج المكتب
يغلقه جيداً
قبل أن يتهيأ للصلاة )
( فنجان صامت
وحيد
يجلس في فتور فوق حافة مكتب عتيق
ينتظر امرأة واجمة )
( البيت واسع
ليس واسعاً
باردٌ فقط
يعني
الهواء في بيتي
كثير على أنف واحد
لكني مشغولة بتفقد الأرواح
التي تتناقص
في منزلي
رغم أنني
لامبيد لدي
لكن الروح تنقص )
في هذه النصوص البديعة : الكتلة اللغوية وظيفتها تجسيد الفراغ
والإنقضاض عليه من خلال تحويل البراني العام / الخاص، إلى جواني حميم في الغالب :
*( أعبىء الشمس في حقائب لأبعثها إليك ) هذه الرغبة الغرائبية، حين نكشطها سنمتلك شفرة شفيفة توصلناإلى محاولة ذاتية جادة في تفتيت برودة كتلة الوحشة التي يكابدها كائن في عزلته ..وجمالية الفعل الغرائبي هي التي تثري استجابتي كقارىء نوعي ..( لايشبه الجبل ، الذي أحمله في جرتي ) غزيرة في مخيالها هذه الجملة الشعرية ،فالجبل مادة صخرية، قد تتخللها أحيانا عيون ماء، فأية ذائقة شعرية صيرت الجبل سائلا وحشرته في جرة الأنثى وكم نسبة شحنة الاستعارة في مفردتي (الجبل ) و( جرتي ) نلاحظ ياء التملك أحتوت الجرة فقط ..وهنا أيضا تم تحويل البراني الصلب : الجبل ، إلى جواني مرن وقد انحشر في إناء ( جرتي )
(*)
نصوص فاطمة ناعوت : تجسد فاعلية المشهد التصويري، يمكن القول ان نصوصها مرئية أكثر مما هي مسموعة ،نصوص ٌ توفر للقارىء النوعي التلذذ بالنص والفكر ورهافة الحس . في المقطع الشعري التالي : لقطة سينمية : أرى رجلا بلا ملامح معينة، أعني أن النص أكتفى بنوع الجنس :
( يودع قلبين في درج المكتب
يغلقه جيداً
قبل أن يتهيأ للصلاة )
المحو في هذا الرجل، أعلى نسبة من التثبيت، فهو مجرد رجل، لايثبت النص له اي علامة فارقة، لكن فعل الرجل هو الذي علّمه بعلامة حادة جداً، إذن هو رجل سالب ( يودع / يغلقه ) لم يدع ُ القلبين الى الصلاة، ولم يترك حرية الحركة لهما ثم يؤدي فريضة إعتاد عليها، النص المرئي لايقول كل ذلك فهو نص ماكر يوهمنا بالحيادية ويستفزنا إلى التأويل وإساءة التأويل ..
(*)
في قصيدة حب، سوف أعبر العتب اللذيذ بين عاشقين وأتأمل عميقا في حكاية أغزر دلالة هي حكاية القرش الذهبي والفارس البرونزي، واعتبر هذه الحكاية هي القصيدة ،وكل الكلام السابق عليها : عتبة نصية، وسأثبت المقطع ثم أتناوله
( هو قرش ذهبي
عليه رأس ملكة
منحتك أياه
كي تمنحه شحاذاً يلبس خوذة فارس
يقف عند باب القرون الوسطى
الفارس البرونزي !
الذي خلناه تمثالاً
يعرف أسمي قليلاً
قرأ نصفه في عينيّ
ونصف النصف
في عينيك .
حط السيف
ثم انحنى وقبّل يدي
أدار عنقه ُ
ومن وراء قناع الحرب
غَمَز َ لك
فتاتك حلوة
فوهبته القرش
ثم همس َ معاتباً
فاحمِها من اللصوص والشعراء
أسترددت منه القرش
ولم تحمني
أفتح كفك
أنظر
هاهو قرشي
ردّه إلي
ورّد قلبي )
أولا.. نلاحظ هناك مسكوت عنه لكنه معلن بالنسبة للفتاة، التي استعملت الفارس البرونزي رسولا ولم يكن الاستعمال بالمجان بل ذهبيا، وما قالته الفتاة قبل دخولنا للحكاية هو الذي يعين القارىء بتفسير الخلل بين العاشقين .. ونلاحظ ان الفتاة لم تمنح القرش الذهبي الى الشحاذ الفارس المتنبىء، بل منحته لفتاها ليتصدق به على الشحاذ ولهذا الرجل المثلث الاسماء وظيفة جهاز السونار فقد كشف َ خلل الفتى وواجهه به، لكن الخطوة الاولى من المواجهة أنعشت الفتى ( فتاتك حلوة ) وبسبب الانتعاش تصدق على الشحاذ بالقرش الذهبي، لكن الخطوة الثانية من المواجهة استفزت الفتى ( فاحمِها من اللصوص والشعراء) فاسترد الفتى ماتصدق به !! أنفضح الفتى مرتين، الاولى بإسترداد الصدقة والثانية بأنه خال من الغيرة على حبيبته أما المرة الثالثة فهو خائن أمانة : أحتفظ بالقرش الذهبي لنفسه ولم يرجعه الى الفتاة .. نلاحظ ان الفتاة لجأت الى طريقة أنثربولوجيا لتقديم أضحية للحب حتى تصونه من الخراب ،لكن أتضح ان الخراب في الفتى من النوع الجواني لقد أفتدته الفتاة برأسها الذهبي ( قرش ذهبي عليه رأس ملكة ) وفي هذه الايقونة شفرة شفيفة ..
(*)
في معظم قصائد ( أسمي ليس صعبا ) هناك مفتقد أو مستلب أو مرتجى مؤجل ، تسعيده الشاعرة بسحرية إظهاره لنا ثم التركيز على شعرنته ، وهكذا تتم استعادته شعريا ..
*فاطمة ناعوت / أسمي ليس صعبا / طباعة اتيليية تاتتش / المحروسة / ط1/ 2009
*مقداد مسعود / أثنتان وثلاثون شمعة للشاعر أمل دنقل / موقع الحوار المتمدن / مركز النور/ الناقد العراقي / بصرياثا / معكم