توطئة..
إن الحديث عن ما يمكن تسميته بالأدب النسائي أو الكتابة النسائية سيجعل للموضوع تشعباته التي لا يُمكن السيطرة عليها، وسيبعث أسئلة كثيرة وملحة لا تُفضي إلا إلى مزيد من الأسئلة، هل يحمل هذا التعبير تقسيماً جنسانياً لمفهوم الأدب لا يخلو من حُكمٌ مُسبق بالدونية تماهياً مع كثير من المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لهذا التصنيف؟ وهل تعبير الشعر النسوي يحمل نفس أبعاد التعريف الجنساني لكثيرٍ من الأشياء التي تخص المرأة.. كأن نقول العنصر النسائي حيث خصوصيته الأنثوية تأتي من قدرته على إثارة الرجل.. أو نقول ملابس نسائية حيث خصوصيتها تأتي من كونها إما مصممة لإبراز مفاتن المرأة أو لحجب هذه المفاتن، أو شاهرة ألوانها الصارخة التماساً للخصوبة وتماهياً مع الطبيعة، وهذه الخصوصيات التي تبدو في ظاهرها سطحية يُمكن التقاط ظلالها في حالة الإبداعية وبالتالي هل ثمّة خصوصية أنثوية للكتابة، وهل يُمكن حقاً تلمّس هذه الخصوصية؟ وهل بمقدورنا تحديد جنس المُبدع دون أن نكتب اسمه على النص وفوق كل ذلك هل بإمكاننا أن نُحدّد مفهوماً أصيلاً للذكورة والأنوثة في النفس البشرية لحظة عريها الحقيقي وأحلامها الشاردة.
إن كل هذه الأسئلة حرية بأن تُفجّر المضامين والجماليات الأنثوية في أي عملٍ إبداعي، ومن ثمّ ستُعطي مبرراً موضوعياً يتعلّق ببنية النص الجمالية واللغوية وليس فقط مبرراً جنسانياً لهذه المقولة.
انزياح الأنوثة..
في الشعر العربي القديم وفي المنظومة النقدية المترتبة عنه كانت تُستخدم كلمة "فحل" للشاعر المُجيد، ومُجرّد هذا الاصطلاح الذي يجعل من الشعر حقلاً ذكورياً حكراً على الرجال - يعكس بنية هذا المجتمع الذكورية وثقافته الأبوية الحادة والتي انبثقت من آليات عنيفة لصراع العربي مع مكانه الوعر والشرس الذي يُقدّس الفرد والبطولة والغزو بشكلٍ يعكسه جلياً معظم الإنتاج الشعري في تلك المرحلة التي تجعل شاعراً مثل - سعد بن ثابت المزني يقول:
وفي اللين ضعفٌ والشراسة هيبةٌ
ومن لا يُهب يُحمل على مركبٍ وعرِ
وبالتالي كان حضور المرأة تابعاً وصودرت من حلبة الشعر لتكون إما موضوعاً له أو مجرد منشدة أو راوية له في ليالي السمر، خصوصاً أن هذه الهيمنة الذكورية كانت وراء صياغة تراكيب اللغة ونحوها الذي كان يُجسّد تقعيداً ذكورياً كثيراً ما تتلاشى الأنوثة أو تُصادر في سياقاته وتراكيبه المختلفة مؤكدة على العلاقة الجدلية بين لغة أي مجتمع وواقع الحياة الاجتماعية فيه أو كما يقول د. جمعة يوسف: "تحليل لغة قومٍ لا تُعطينا مفتاحاً للدخول إلى ثقافتهم والتعرّف بفكرهم فحسب.. وإنما تُتيح لنا التعرّف على بنية العلاقات العملية التي يقوم عليها مجتمعهم لأن الإنسان يُدرك علاقته بالعالم ومنهاج عمله وهدفه فيه بناءً على البنية اللغوية التي يستعملها".
وبالتالي فإن التغليب في اللغة العربية يُعدّ سمةً بارزة تُفصح عن مدى الاحتكار الذكوري لطبيعة بنائها ودلالات ألفاظها والأمثلة كثيرة نذكر منها تغليب المُذكّر على المؤنث فيما يتعلّق بالعدد من خلال اتباع المؤنث للمذكر واتخاذه الأصل في حسبان الحكم النحوي، فإذا اجتمع عددٌ من النسوة ورجلٌ واحد أعطى الحكم للمذكر كأن نقول: رابع أربعة - هذا حادي أحد عشر إذ كُنّ عشرة نساء معهن رجلٌ واحد، وفي التثنية توجد قاعدة تسمى "المثنى على سبيل التغليب" وفي يغلب المذكر على المؤنث كأن نقول القمرين "للشمس والقمر" أو الأبوين لتثنية "الأب والأم".. كما يبرز هذا جلياً في الخطاب الموجه للذكور والإناث حيث غلبة المذكر فيه ومن أمثلته قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا" مع توجيه الخطاب للرجال والنساء وغير ذلك من مظاهر التغليب المختلفة، التي جعلت حضور المرأة محدوداً في الشعر العربي الذي يعتمد على خطاب ذكوري لا يُلبّي رغباتها أو يعكس حقيقة وجدانها إضافةً إلى اعتماد هذا الشعر على الصنعة والعضلات اللغوية والبلاغية ومتانة السبك وفحولة الإلقاء وغير ذلك مما يستقي مواضيعه من خارج الذات وبمعزل عن التجربة الوجدانية للشاعر، إنه شعر المؤسسة الإعلامية حيث الفخر والمدح والرثاء والهجاء والغزل الذي لا يخلو من تسرّب الأغراض الأخرى إليه، وكان وجود المرأة النادر في هذا الحقل الإبداعي كثيراً ما يجعلها مُستلبة داخل جماليات ذكورية مستعارة، ومُتخلّية عن أنوثتها وهواجسها الخاصة وليُصبح وجودها نشازاً مثل وجود النساء الآن في حلبة الملاكمة أو رفع الأثقال باستخدام جرعات من هرمونات الذكورة لكي تبرز عضلاتها تماهياً مع هرمونات اللغة الذكورية التي كانت تحقن في مخيلة المرأة المبدعة مفضية إلى تشوه جعل البعض يعتبر الخنساء إحدى فحول الشعر العربي، ومع الانفجار الحداثي والتخلّص من القوالب وتسرّب النفس الأنثوي في نسيج اللغة الجديدة والعودة المتأملة والمتسائلة إلى الذات الإنسانية والتاريخ الشخصي والتجربة الوجدانية بدأت خُطى المرأة تجد طريقها في هذه المنطقة الجديدة للشعرية حيث ذاتها الثرية النابضة بالعاطفة وبالشهوة ووجدانها الخصب، وحيث ارتبطت الحداثة بالأنوثة في كثيرٍ من المصادرات الفكرية الراهنة وانطلاقاً من هذا المفهوم تفجّرت المرأة إبداعاً مع انسياب النثرية الحديثة التي تستجيب إلى حدٍ كبير إلى عوالمها الداخلية المُشعّة ورغباتها وتكوينها الجسدي الذي يُجانب القوة والمعاضلة ويرفض بطبيعته القولبة لتجد نفسها جزءاً من حضور شعري غادر قاموسه الفروسي وجزالته الذكورية ومشيته العسكرية إلى نثريته الهامسة وانسيابه العفوي وإيقاعه الداخلي وأحلام النفس الشاردة وبرزت مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي أسماء إبداعية مُهمّة لنساء تقف بموازاة الإبداع الرجالي ومتجاوزة له أحياناً دون أن تتخلى عن حضورها الأنثوي المُميّز والذي ما زال يحتاج إلى استبطان دقيق داخل إبداع المرأة الحديث.
ومن هذا المنطلق سأحاول أن أتلمّس "وبدون ذكر الأسماء" النتاجات الشعرية النسائية العراقية التي تسعى إلى الشعر والشعر وحده. انطلاقاً من تفاصيل الحياة الصغيرة ومن الهموم اليومية إلى الهم الكوني الشامل.. .. هناك شعرٌ يلتقط الأشياء ويقولها ولا يُعبّر عنها أبداً من الخارج، تيارات مختلفة لشاعرات عراقيات بجرأة صريحة لانتهاك المُحرّك التقليدي الذي يُشكّل لغة الثبات والنظام.
هذه الجرأة والتي نقرأها ضمن ما يكتبن الشاعرات العراقيات المحدثات، تسعى للابتكار بعيداً عن الاستظلال بالآخرين.
هنالك إنجازٌ شعري، ربما أتاحته أجواء الحرية وما أتاحه النشر الالكتروني.
إنني ألمس أن هناك زخمٌ لحركة إبداعية متنوعة الصيغ ستؤدي بالتأكيد إلى بلورة مدرسة شعرية جديدة، وسنفخر بها بالتأكيد.
وستكون هنالك أسماء لشاعرات يلتحقن بالأسماء اللامعة التي سطعت قبل نصف قرن.. ولا أريد هنا أيضاً أن أُثير مسألة الأجيال، فلي رأيٌ بها، لا مجال لمناقشته في هذا المقال.. ولكني أؤيد مقولة "حمزاتوف": (الشعراء الحقيقيون هُم في عُمرٍ واحد).
أجد أيضاً نتاج الشاعرات الجيدات، قد يكون أحياناً على شكل مغامرة على صعيد اللغة التي يفرضها المكان والزمان، وحيث أن أكثر الأحداث تتحرك في الداخل الإنساني أكثر مما تتحرك في الخارج.. وعندما نتصفّح في بستان الأبداع الشعري النسوي أشجاره وشُجيراته الباسقات، تتولّد لدينا الرغبة، على العكس مما فعل زوربا، عندما اشترى كمية كبيرة من الكرز وأكل حتى تقيأ، لكي لا يحنّ إلى الكرز المحروم منه مرّة ثانية.. إننا نجد عالماً مُبهجاً غنياً بتنوّع الثمار.. الكرز والكروم، والتفاح.. والأشجار الفواحة والنواّحة، وحيث يختفي الفرق بين الرجولة والأنوثة، لا أُريد أن أقول أن كل ما ينتشر من أدبٍ نسائي هو جيد بالدرجة التي يُمكن الافتخار به. فهناك بعض النُظم التي تُلامس الافتعال، وبذلك يفقد العمل صدقه الفني - الإنساني.. وأحياناً أخرى أجد في بعض النتاجات الشعرية النسوية بعض الغموض المُحبّب أو الضبابية المتواصلة، قد تُساعد على فهم الإنسان أكثر وأكثر، أي فهم جوهر الشعر أو الحياة بوصفها كثافة إبداعية. وعندما تتوغّل في قراءتها نكتشف أن العقيدة بدأت تميل إلى الهدوء أكثر وأكثر وإلى التأمل.
بقى لي ملاحظة أخيرة أقولها بشأن النقد الشعري بشكلٍ عام، الرجولي والأنثوي، لأسجل بأن الحركة النقدية لحركة الشعر الحديث في الستينات والسبعينات من القرن الماضي كانت مواكبة لكل قصيدة تُكتب، وما تلا ذلك ظلّ متصاعداً في هذا المجال.. وفي اعتقادي أن التنظير للشكل من خارجه كان سهلاً، كان معركةً ولكنّها في أرضٍ واضحة - الأغريقيات بشكلٍ خاص ثم الرموز التراثية العربية. وهذه كان يُمكن الرجوع إليها دائماً لتفكيك القصيدة، وكان الشعر في مرحلة الكلاسيكية الجديدة - أي انفراط البحر الشعري في القصيدة الحديثة - لم يجعلها في بداياتها قصيدة مُغايرة للقديم وللنظم القديمة دُفعة واحدة.
وكان النقاد قادرين على التعامل معها لأنّ مفاتيحها في جيوبهم، أما الآن فقد اختلف الأمر، تطوّرت القصيدة وذوّبت مصادرها في داخلها. بحيث لم تعد واضحةً تماماً واستهلكت الرموز القديمة إلى غير رجعة. وبدأت بخلق رموزها وأسطورتها الخاصة بها، فلم يعد الناقد قادراً على اللحاق بها.
فعُذراً لوفاء.. وعُذراً لمُحاوريها.