السريان الفاعلون في التاريخ ورثة التراث الآرامي العريق اشعلوا شرارة النهضة العلمية في بغداد في العصر العباسي
كانت الآرامية لغة الإدارة والتجارة، التي شملت ارجاء الشرق الأوسط لقرون عديدة من ايران الى سوريا ولبنان وفلسطين ومن بيزنطا حتي شمال شبه الجزيرة العربية. ولم تكن لغةً فحسب، بل كانت مجموعة لغويّة غنيّة بلهجاتها المتعددة. فهناك لهجة شرقية، هي لهجة حران والرُّها ونصيبين والموصل، ولهجة غربية هي لهجة بابل التي كُتب بها التلمود المعروف (بتلمود بابل). وهي لغة اليهود أيام السبي ولغة الجليل أيام المسيح. الاراميون أثرواً في الحضارات المعاصرة لهم والحضارات التي تلتهم.
كانت الآرامية لغة العامة في الشرق الأوسط لقرون عديدة. ولم تكن لغةً فحسب، بل كانت مجموعة لغويّة غنيّة بلهجاتها المتعددة كما نراها الآن في العربية. السريان هم الورثة الشرعيون للتراث الآرامي الضخم ثم اغنوه فلعبوا الدور الكبير في نقل العلوم والطب الى العربية في العصر العباسي وظهر منهم اطباء عديدون لهذا كانت لهم مكانة محترمة في كتابات المؤرخين .
يقول المسعودي تحت عنوان (ذكر ملوك السريانيين ولمع من أخبارهم) يقول: (ان أول الملوك ملوك السريانيين بعد الطوفان، وقد تنزع فيهم وفي النبط، فمن الناس من رأى السريان هم النبط، ومنهم من رأى انهم اخوة لولد ماس بن نبيط ومنهم من رأى غير ذلك). ثم يقول: (هو اللسان الأول، لسان آدم ونوح وابراهيم عليهم السلام وغيرهم من الانبياء). ويرى الجهشاري أن (أول من وضع الكتاب السرياني وسائر الكتب آدم عليه السلام).
يذكر القلقشندي (أن لغة العرب المستعربة وهم بنو قحطان بن عابر وبنو اسماعيل كانت السريانية أو العبرية لأن لغة عابر واسماعيل كانت سريانية أو عبرانية). ويرى ذلك اقليمس داوود في (كتاب اللمعة)، وغريغوريوس يعقوب حلياني أول رئيس أساقفة للسريان الكاثوليك في دمشق. في كتابه (اللغة العظيمة) يقول (ان القول بأن لفظة السريان أعجمية زعم باطل لا أصل له، لأنه قول بلا سند ولا بينة. ولأن الباقين من السريان الأقدمين في بلاد آثور وكردستان وبلاد الشام الى يومنا هذا يسمون لغتهم بلسانهم سريانية، ولا يصدق أن أمة صحيحة منتشرة في جانب عظيم من الأرض تترك اسم لسانها وجنسها، وتستبدل به اسما آخر أعجميا). ويضيف أول رئيس لاساقفة دمشق للسريان الكاثوليك، غريغوريوس يعقوب حلياني، في كتاب (اللغة العظيمة) متفقا في الرأي مع القس يعقوب الكلداني (دليل الراعبين في تاريخ الآراميين). (ومهما كان من أمر اشتقاق لفظ "السريان" فان أصحابه لم يعرفوا به قبل أربعمائة أو خمسمائة سنة قبل التاريخ المسيحي.
أما الآراميون الشرقيون وهم الكلدان والآثورون، فان نفس التسمية لم تعرف بينهم الا بعد السيد المسيح على يد الرسل الذين تلمذوا هذه الديار،لأنهم كانوا جميعا من سورية وفلسطين، وذلك لأن أجدادهم الأولون المتنصرون كانوا شديدي التمسك بالدين المسيحي أحبوا أن يسموا باسم مبشريهم، فتركوا اسمهم القديم، واتخذوا اسم السريان ليمتازوا عن بني جنسهم الآراميين الوثنيين، ولذا أصبحت لفظة الآرامي مرادفة للفظة الصاب والوثني، ولفظة السرياني مرادفة للفظة المسيحي والنصراني). ويضيف غريغوريوس يعقوب حلياني (حتى يومنا هذا نلاحظ أن قرى الكلدان الآثوريين لا يتخذون لفظة سرياني للدلالة على الجنسية، بل على الديانة، فان هذا الاسم عندهم مرادف لاسم مسيحي من أي أمة وجنس كان). وهو ما يراه الدكتور فيليب حتي، حتى أنه عندما اتخذ المسيحيون الآراميون لهجة أديسا وجعلوها لغة الكنيسة والأدب والتعامل الثقافي، صاروا يعرفون باسم سوريون، وأصبح لأسمهم القديم أي الآراميين مدلول وثني غير مستحب في عقولهم، ولذلك تجنبوه بوجه العموم وحلت محله التعابير اليونانية وهي سوري بالنسبة للشعب وسرياني اللغة. السريان كالآشوريين والبابليين اسموا بلاد العرب، (بيت عرباية Beth 'Arb'aya) و (باعرابية Arabaya Ba)، ومعناها ( بيت او أرض العرب). وقد استعارت هذه التسمية المؤلفات اليونانية المتأخرة. ويعني العرب والأعراب وسكنة البادية.
ويؤكد ذلك الدكتور حسن محمود في كتابه (الساميون القدماء) قائلا (أن الآراميين لما اعتنقوا المسيحية، واستخدموا لهجة الرها في كنائسهم وفي آدابهم وثقافتهم نبذوا اسمهم الأول لصلته بالوثنية، وسموا أنفسهم السوريين أو السريان). واشار أدي شير للتسميات المختلفة السريان فقال أن (للكلدان المسيحيين أسماء كثيرة في التواريخ، فسموا آراميين نسبة الى آرام بن سام الذي استوطن هذه البلاد، وعمرها بنسله، ومشارقة لأنهم من المشرق،ونساطرة لاتباعهم تعاليم نسطور بطريرك القسطنطينية، وسريانا شرقيين تميزا لهم من السريان الغربيين وهم اليعاقبة، ولكن اسمهم الأصلي كلدانلآثوريون جنسا ووطنا لأن منشأ كنيستهم ومركزها كلدو وآثور ولغتهم الجنسية والطقسية هي الكلدانية، ويقال لها أيضا الآرامية، وغلطا سميت سريانية؟) أن السريانية شملت كل الناطقين بها من كلدان و أشوريين و سريان وموارنة وهي لا تقتصر على قبيلة معينّة أو طائفة أو فرع. وعند مجيء الاسلام واستيلائهم على معظم مناطق الشرق الأوسط في القرن السابع، بدأت اللغة السريانية بالانحسار لصالح اللغة العربّية. لكنّ هذه التقاليد العريقة التي على مدى قرون قاومت وصمدت واستمرت، كما استمرت اللغة السريانية كلغة أدبية و طقسية للجماعات المسيحية المزدهرة في المنطقة حتّى بعد مجيء العرب. و إلى اليوم لا تزال السريانية المحكيّة (سوريث) تحافظ على مركزها كلغة حية لآلاف المسيحيّين القاطنين في مناطق طُورعبدين و الجزيرة سورية، و في قرى ومدن مثل الموصل و دهوك و أربيل، وفي مقاطعات واقعة شرق بحيرة أورميا، و في المهاجر الغربيّة. ومن المؤكد أن اللغة السريانية المحكية تأثرت باللغات المحلية الأخرى الأوسع انتشاراّ كالعربيّة والتركيّة والفارسيّة والكرديّة. وبسبب الانقسامات العقيديّة والمذهبيّة التي حصلت في القرن الخامس سُمّي بعض السريان بالسريان الشرقّيين، نسبةً إلى شرق نهر الفرات حتّى إيران وهُم الكلدان والأشوريّون، تمييزاً لهم عن السريان الغربيين، نسبةً إلى غرب نهر الفرات وحتّى البحر المتوسّط، وهُم الموارنة والسريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك الذين كانوا، في الماضي، يتكلّمون السريانية. واتّخذ كل من الشرقيين والغربيين نمطاً متميّزاً في كتابة اللغة السريانية و لفظها. ونمت السريانية و ازدهرت لخدمة القضايا الدينّية الروحيّة قبل أيّ شيء، حتّى غدت ثقافةً دينيّة مسيحيّة.
و لمّا جاءت المسيحيّة امتدّ نشاط المبشّرين السريان إلى إيران وتركستان والهند الى حدود الصين، فأقاموا فيها كنائس وأسقفيّات والعديدَ من الأديرة فصار طريق الحرير طريق البشارة الإنجيليّة. و ظلّت المسيحيّة مزدهرة في هذه المناطق حتّى ما بعد الفتح الاسلامي، وأُقيمت فيها المؤسّسات والمدارس والبيمارستانات (المستشفيات) والأديرة. و يقول الأب هنري لامُنس اليسوعيّ عن انتشار لغة السريان (من عجيب الامور ان انتشار لغة الآراميين بلغ على عهد السلوقيين مبلغا عظيماً، فأضحت اللغة السائدة في كل آسيا السامية، في سوريا وبين النهرين وبلاد الكلدان وجزيرة العرب، وكان العرب أيضاً يدرسونها لكثرة فوائدها. للسريان إسهام واسع في الرصيد الحضاريّ الإقليميّ مع العرب والفرس واليونان والرومان. فهم يشكّلون حالة وسيطة في تاريخ التفاعل الثقافّي في العالم. تعترف جميع المصادر التاريخيّة القديمة بدورهم المرموق في عمليّة الترجمة والنهضة الكبرى التي تعهدها الخلفاء العباسيّون. فقد قام السريان بنقل اعداد لا تحصى من المخطوطات من اليونانيّة إلى السريانية ثّم إلى العربيّة. ويكفي أن نسجّل هنا مثلاً مساهمة السريان في إثراء الثقافة العربية في بغداد العباسيين، فحنين بن اسحق العباديّ من الحيرة (قرب النجف والكوفة) كانت السريانية لغته الأمّ، ترجم 39 مخطوطا من اليونانيّة إلى العربيّة، وترجم 95 مخطوطا من اليونانية إلى السريانيّة وحدها. كما ان اجدى مثل لهم مدرسة جنديسابور الطبية وبيمارستانها في الاحواز حيث استدعى ابو جعفر المنصور عميدها جورجيس بن بختيشوع الى بغداد وكان ذلك الشرارة لبداية الطب العربي الذي حفظ المخطوطات السريانية المترجمة والتي جرت في بغداد وحدها دون اي قطر عربي آخر ثم نقلت الى اوربا فاتت بعصر النهضة الاوربية في كافة مجالات الحياة الثقافية.
لم يكن السريان مجرّد نَقَلة، بل كانوا عنصر إبداع حقيقيّ. فقد أضافوا إلى ما نقلوه خبرتَهم ومعارفهم، و طوّروا ورفدوا العرب بالمعرفة التي انتقلت بعدئذ اوربا. كتب السريانُ في الإلهيّات و الفقه والفلسفة و المنطق و الطبيعة و ما وراء الطبيعة والرياضيّات والفلكّيات والفيزياء والهندسة والبناء والموسيقى والأدب والهندسة والزراعة والتجارة وخاصة في الطبّ التي كانت معروفة في الحيرة عاصمة المناذرة ولم يكن يعرفها عرب الجزيرة. الرها كانت تعرف باثينا الشرق لانها حملت اليها كل المخطوطات اليونانية التي ترجمت الى السريانية ثم الى العربية، وكان لهم الاثر على الحضارة الفارسيّة ثّم العربيّة بعدئذ في العصر العباسي. الخلفاء العباسيون الاوائل كانوا يرسلون الوفود لجمع المخطوطات وترجمتها اما من السريانية او من اليونانية الى العربية بواسطة الثقات السريان، حمل السريان معهم كان حضارات السومرييّن والأكديّين والآشوريّين والإغريق والفينيقّيين. اذ هناك تداخل جغرافّي ولغويّ بين كلّ هذه الشعوب، عطاء السريان امتد عبر التاريخ الحضاريّ العربيّ الى اوربا عصر النهضة. يشير سليم مطر الى ان السريانية كان لها الاثر على اللغة العربيّة حيث (طوّرت اللغة العربيّة نفسها وكّونت نحوها من خلال تجربة اللغة السريانية).
انتشرت مدارس السريان قبل الاسلام في الرها ونصيبين وجنديسابور وإنطاكية، واشتهر من المترجمين شمعون الراهب وجورجيوس أسقف حوران ولعل اشهرهم جورجيس بن يختشوع الذي كان عميدا لمدرسة جنديسابور الطبية وبيمارستانها في الاحواز وبقيت أسرته تحمل رسالة الطب في العهد العباسي لثلاثة قرون وهي اطول فترة لاسرة مارست الطب في التاريخ، وفي زمن المأمون ترجم وألف يوحنا بن ماسويه خمسين كتابا اما حنين بن إسحق العبادي فقد ترأس بيت الحكمة العريق في العلوم وترجم 95 كتاباً واعتبرة المستشرق لاكلارك اعظم شخصية علمية ظهرت في القرن العاشر الميلادي وبرز بعده ابنه اسحق بن حنين، واشتهر من السريان في الترجمة في عصور متعددة يحيى بن عدي وابن البطريق وقسطا بن لوقا وإسحق الدمشقي ويحيى بن يونس والحجاج بن مطر وعيسى بن يحيى، كان منصور بن ياسر سرجيون وزيراً لمعاوية بن ابي سفيان وطبيبه الخاص وشاعر بلاطه كما عين معاوية الطبيب ابن آثال عاملاً على ولاية حمص، وكان شاعر البلاط في عهده الأخطل الشاعر. وعين سليمان بن عبد الملك كاتباً سرياني الاصل، كما عين المأمون العباسي اسطفان بن يعقوب مديراً لخزينة الخليفة، وتم تقليد ديوان الجيش لسرياني مرتين، وتولى عبيد بن فضل قيادة الجيش، وكان عيسى بن نسطور وزيراً في بلاط العزيز الخليفة الفاطمي كما قال ابن الأثير في الكامل وكان لعضد الدولة وزير نصر بن هارون، ومنهم علي بن عيسى الكحال وكان الكثير منهم يسمون باسماء غدت خاصة للمسلمين. وقد استعان المنصور في بناء سور بغداد المدور العظيم ببناء (اسطة) سرياني بارع يحمل تقنيات تراث البابليين والآشوريين في بناء المدن المدورة التي كانت اكثر سهولة في الدفاع عن نفسها عند الحصار وكذلك منارة سامراء فقد اشرف على بنائها بناء سرياني الذي كان يحمل الارث البابلي والآشوري في بناء ابنية المراصد.
السريان في عصرنا هذا غدوا شراذم التاريخ الذي لم ينصفهم بعد ان كانوا يحملون لواء المعرفة وهم البقايا من الذين نجوا من المذابح والتشريد الاسلامية على مر الدهور والعصور. يتجمعون الآن في عدد من القرى في شمال العراق بعضهم في قرى في كردستان وهم الذين نجوا في الماضي من الفتوحات ثم الغزوات الكوردية والايزيدية والقتل والتشريد وانتهاك الاعراض لكنهم الآن يتمتعون بالحرية الكاملة للذين هم الآن في كردستان، اما الذين هم في العراق فهم يعيشون التهديد والسبي او الاسلمة. في العراق قبل الاسلام كان في وسط العراق بين بغداد والكوفة يتواجد اكثر من خمسين ديرا عامرا بالرهبان والمخطوطات اختفت كلها بعد الفتح. وفي سوريا لم يبق من السريان غير جماعات صغيرة على الحدود السورية العراقية وتنحصر اقلية منهم في قرية (معلولة) قرب دمشق التي لاتزال تتكلم السريانية وبذلك حافظوا على تراثهم ولكنها الآن قطرة في بحر مما كان. وهناك عدد من من السريان في تركيا في اماكن مثل نصيبين والرها وغيرها من المدن او القرى وهم الذين نقلوا الثراث الطبي والمعرفة العريق الى سريانيتهم ثم حملوها الى بغداد ومنهم انطلقت شعلة بغداد في العصر العصر العباسي، واغلب المدوننين يتناسون هذا الدور ومنهم جميل الخليلي أستاذ الفيزياء النووية في جامعة بريطانية يتمشدق في محاضرة له في لندن عن تراثه التاريخي العريق فجعل الجاحظ المكتشف لنظرية الانتقاء الطبيعي قبل داروين! وتحدث عن بيت الحكمة ولم يشر الى حنين بن اسحق ولو بلمحة. وليس هذا فقط فالكثير من المستشرقين الذي يلعنهم العرب والمسلمون اهملوا كل اشارة للسريان في هذا الدور العريق. ومن سجلات التاريخ ان تكريت السريانية قبل ثلاثة قرون سباها العثمانيون وفرضوا عليها الاسلام بالسيف ومن الحكايات المأثورة ان الفارس (عبد السطيح) آثر القفز بجواده من مرتفع لا يزال قائما، الى النهر دون الاستسلام للعثمانيين، تلك مفخرة لايزال يتداولها التكارتة حتى الآن. هم قوم جاء منهم في الماضي عبد السطيح البطل وبعده اصبح التكارتة قوم من القتلة ومنهم بطل تكريت صويدم الذي مسكوه في جحر للفيران مقملا. اذا كان التاريخ قد جعل المسيحيين السريان شراذما لايزالون يحاولون الحفاظ على هوياتهم من الموجات الجديدة في القتل والتشريد في عصر فوق الحداثة فان صابئة العراق وهم ورثة الحضارة السريانية الذين ساهموا في اعلاء شأن المعرفة في العصر العباسي لم يبق منهم غير آلاف لاتزيد على عدد اصابع اليد الواحدة. اتقنوا الصياغة الفريدة في العالم الآيلة للاندثار كما انفردوا في اتقان صناعة المشاحيف يوم كان الهور جنة من جنان الارض. مات الهور ومات الصابئة ولاتزال شراذم من السريان المسيحيين خاصة في العراق ينشدون في اعماقهم معجزة الخلاص لتحل عليهم من السماء.
توما شماني - تورونتو عضو اتحاد المررخين العرب