لكل عصر مناخ معرفي خاص يتعاطاه الموجودن ضمن أطره زمانيا ومكانيا تحدده الإمكانيات التي يمتلكها أولئك الموجودون .
وعلى الرغم من تحكم تلك الإمكانيات بكل وسائل الحياة والتبادل البراغماتي ، تبقى هناك مجموعة من الثوابت التي لا يمكن أن تتحكم بها أية إمكانية متاحة ، مثلاً المجال الذي ينقل به التداول ، إذ من غير الممكن أن يكون هناك تبادلا من دون أن يُستعان بظرف معين لنقله ، وإلا كيف سينقل ؟!.
لكن نوعية الناقل وشكله وطاقته الاستيعابية والإفهامية والتشفيرية وغيرها هي التي تدخل ضمن نطاق التحكم تلك .
وعلى هذا الأساس انصاغت ثنائية الثابت والمتحول في التواصل البراغماتي - النفعي والجمالي - الفني ، إذ كان النصّ ( text ) الحامل لعناصر التواصل ذاك حاضرا في كل مرحلة من مراحل حياته ، لكن آليات صياغته وتقنياته تختلف وفقا لاختلاف إمكانيات الإنتاج التي تتحيها لها مستويات التطور الحاصلة في العقلية ومستويات استثمارها في التواصل الحياتي .
إذ استطاعت المجتمعات البشرية في مراحلها الأولى من التشكل الحضاري أن تستثمر الطاقة الشفاهية في تحقيق تواصلها البراغماتي والجمالي ، لكنها ما أن استطاعت أن تحقق مستوى أعلى من التطور في إمكانيات خلق وسائل جديدة للنقل استثمرتها بكل ما أتاه العقل من قوة لتطويع الجديد فكانت الكتابية المرحلة التالية لنقل التواصل البراغماتي والجمالي من مراحل التشكل الحضاري للمجتمعات البشرية .
ومنذ دخول الإلكترونيات في حياة الإنسان وفقا لتطور عقله المنتج ، سعى لتطويع كل ما يمكن تطويعه من وسائل التواصل البراغماتي والجمالي ليكون منقولا عبره ، فحدثت نقلة نوعية في العصر كله ، بحيث تغيّرت وسيلة النقل ، لكن النقل ما زال به حاجة لظرف الناقل ، وبخاصة النص ( text ) .
( وبناء على هذا يمكن أن نطلق صفة ( الورقية ) على المرحلة ( الكتابية ) التي أعقبت مرحلة الشفاهية وبهذا تكون المرحلة الثانية من دورة حياة النص ذات اسمين ، هما :
- الكتابية في مقابل الشفاهية .
- الورقية في مقابل الإلكترونية .
نصوص تتواءم مع عصر التكنلوجيا
... إن هذه المرحلة ( الإلكترونية ) في حياة النص الأدبي تمثل انتقالا من عهد إلى عهد ، وتشبه الانتقال من حضارة المشافهة إلى حضارة الكتابة قديما . وقد شهد القرن العشرون انتقال آداب الإنسانية من حضارة الورق إلى حضارة التكنولوجيا والإلكترونيات التي أخذت تتغلغل في مختلف جوانب الحياة دون حد أو قيد ، ولابد أن تكون مثل هذه الطفرة ذات أثر بالغ ، ليس فقط على نوع النصوص المقدمة ( ورقية أو إلكترونية ) إنما على طبيعتها ، ونوعية الأفكار التي تطرحها ، ومدى تواؤمها مع معطيات العصر ، والتغيرات التي تطرأ عليها خلال فترات زمنية قصيرة ومتقاربة زمانيا ، بحيث لا تترك مجالا لاستيعاب ما قبلها إلا فاجأتنا بمستجدات قد تكون أكثر تنوعا وتعقيدا .
ولا بد من الإشارة إلى أن المقصود بالنص الإلكتروني ... هو النص الذي يتجلى من خلال جهاز الحاسوب ، سواء اتصل بشبكة الإنترنت ، أو لم يتصل ... متضمنا هذا المعنى الشمولي ، دون تقييده بالاتصال بالشبكة أو عدمه ) .[ مدخل إلى الأدب التفاعلي : فاطمة البريكي : 19 - 20 ] .
الأدب التفاعلي المعبر الحقيقي عن عصر التكنلوجيا
وتأسيساً على الرصد التاريخي والمعرفي المذكور في الفقرات السابقة أصبح متعيناً على الموجودين داخل ذلك العصر وأعني به العصر التكنولوجي أن يتعاطوه ؛ لأنه وسيلة عصرهم ، وأعني الحاسوب والانترنت الذي دخل في كل مرافق الحياة تقريبا وأصبح في المدرسة والبيت والعمل وغير ذلك حتى في تسلية الأطفال .
والأدب التفاعلي ( هو النموذج الأدبي المعبر عن لعصر الرقمي التكنولوجي خير تعبير ، وهو الذي يصلح أن يمثله أمام الأجيال اللاحقة بصفته نتاج هذا العصر وثمرة فكر مبدعيه ، ويقر الأدب التفاعلي بدور كل من المبدع والمتلقي في بناء النص ... وينطوي على قدر من الحيوية والحرية في التفاعل مع النصوص الأدبية على نحو غير متوفر في الأدب التقليدي ، ويكسر حالة الرتابة التي تصبغ النصوص الأدبي التقليدية ويحررها من الجمود ، ويساعد على شحذ الأذهان والتحفيز على الابتكار بما يتيحه من إمكانيات غير محدودة ليقدم الأديب بها إبداعا غير محدود أيضاً ) [مدخل إلى الأدب التفاعلي : فاطمة البريكي :129 - 130 ] .
وما تجربة الشاعر المبدع مشتاق عباس معن إلا نتيجة حتمية لدخول العصر التكنولوجي ، وهي محاولة أولى ستتبعها تجارب أخرى بشكل طبيعي جداً ، لأن المجتمعات آخذة بالتماهي مع التكنولوجية ، ولمعرفة حقيقة ذلك لنسأل أنفسنا ونحصي الإجابات بنعم لنعرف تماهي التكنولوجيا بحياتنا :
- هل تملك هاتفا نقالا ( موبايل ) .
- حاسوبا ( كمبيوترا ) .
- بريدا إلكترونيا ( إيميلا ).
- تلفازا بمستقبل للفضائيات ( ستلايت ) .
- أجهزة تعمل بالمتحكم ( الريمونت كونترول ) .
- وسائل خزن تقنية ( فلوبي " قرن مرن " - سي دي " قرص مدمج " - فلاش " خازن عالي الضغط " ) .
وعليه يمكن لنا أن ننظر في بقية وسائلنا التواصلية ، ومنها قراءة النصوص والكتب في أقراص مدمجة وعلى الانترنت ، وهي محمولة من الورقية إلى الرقمية بشكل نسخي ، أي محافظة على ورقيتها ، لكن وسيلة عرضها تتم بالحاسوب ... فلماذا نستسيغ هذه الممارسة ونستصعب ممارسة إبداعية تستثمر تقنيات العصر بكل إمكانياتها ليكون الأدب متماهيا معها بشكل طبيعي كما تماهينا بمستوى حيانتا النفعي - البراغماتية .
إذن علينا أن نتماهي فنيا - جماليا ، كما تماهينا نفعيا - براغماتيا ، لنكون منسجمين مع عصرنا الذي نعيشه ، وهذا لا يمنع أن نبقي على بقايا العصر الكتابي - الورقي ، كما بقيت آثار العصر الشفاهي في العصر الذي تلاه .
فيكون الشاعر المتألق مشتاق عباس معن فاتحة أولى في المجال الشعري كما كان الروائي الميدع محمد سناجلة الفاتحة الأولى في مجال الرواية التفاعلية ، إن ما فعله الشاعر مشتاق فعلا طبيعيا ينبغي أن نقف معه لننشر روحية التعايش مع ما حولنا من تغيرات طبيعية .