لا أظن ان بحثا رصينا ومعمقا، درس مضمون نصوص الغناء العراقي المعاصر، بوصفه مؤشرات لتحولات اجتماعية وثقافية، كالذي فعله الباحث والناقد والأكاديمي د علي كنانة. فنحن حيال قراءة ثقافية لنصوص شكلت وجدان أجيال من بلاد ناظم الغزالي، مثلما كانت الدراسة التي حملها كتاب " فلك النص في الغناء العراقي- دراسة في مضامين النصوص الغنائية العراقية 1920-1980" والصادر قبل فترة وجيزة عن "دار الجمل" التي يديرها بحذاقة الشاعر العراقي خالد المعالي.
وفرادة البحث وبراعته، تتحققان في جانب غفلته الدراسات التقليدية لغناء العراق وألوان الموسيقى فيه، ألا وهو قراءة ذلك النتاج الروحي الثر، بوصفه علامات اجتماعية، واذا كنت شخصيا قدر درجت على هذا المعنى في بحثي الناقد للموسيقى العراقية المعاصرة، فأنني لم أكن قد درست قيمة النص الغنائي وجوهره ودلالاته، انطلاقا من فهم للغناء بوصفه جوهرا موسيقيا بالأصل ( اللحن وصوت المغني/المغنية ) دون أن أتوقف مليا عند قيمة النص الغنائي كبنى لغوية وتعبيرية عن أنساق اجتماعية، ولذا جاء بحث الدكتور كنانة، عملا منهجيا رائدا في مجاله.
واللافت في مقدمة الشاعر والناقد والمترجم الذي قدم الى العربية مختارات أصيلة من شعر السويدي وصاحب نوبل للآداب ترانسترومر، انه توقف عند دافعين أساسيين للبحث الموسوعي الأخير، وأولهما حين طلب منه عازفٌ فنلندي شاب يهوى الغناء ترجمة نصوص غنائية عراقية، وحين أنهى ترجمة مضامين عدد من الأغاني، فاجأه بالقول: "أين الحياة في هذه الأغاني؟"، وحين لاحظ نظرة الاستفهام في عينيّ، قال: "أقصد.. لا يوجد غير الحب موضوعاً.. ينبغي أن تكون الأغنية ذات صلة بالحياة"، وثانيهما في تعليق ابن الباحث، والذي بدا منسجما مع سؤال العازف الفنلندي .
هل غابت الحياة حقا عن أغنيتنا؟
ترى هل غابت الحياة عن الغناء العراقي حقا وظل تعبيرا أحادي الجانب، ومن منظور يظل محدودا، على الرغم من سعته التعبيرية والنفسية : منظور العاطفة والحب؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي سنتحصل، عبر انشغال الباحث كنانة، به، على واحدة من أرقى الدراسات عن الغناء العراقي المعاصر وأعمقها .
والجميل ان سؤالا جوهريا كالذي توقف عنه الباحث، تحول الى حقائق لا تثبت غنى المضمون الغنائي العراقي وحسب، بل مهارات التصوير والتعبير عند المشتغلين بهذا الحقل من شعراء معاصرين، وآخرين ممن هم/هن في عداد المنسيين، لجهة ان كثيرا من النصوص الغنائية التي توصف بأنه "موروث او تراث شعبي"، وضعها أناس حقيقيون، وكان غياب التدوين فضلا عن الخوف من القيم الاجتماعية الثقيلة السائدة: الدين والعشائرية، عوامل جوهرية في إبقاء اسمائهم مجهولة.
وعبر تشعبات هذا البحث الغني والمعمق لاحق الباحث كنانة وبدأب قل نظيره، "الأغنية العراقية تتمدّد في مناجاة الجغرافيا"، لنتعرف على قراءة روحية لأمكنة العراق ومدنه وبيئته بحسب دلالات شعورية أنيسة يختلط فيها العام بالوجداني الخاص، كما في مئات النصوص الغنائية، فضلا عن فصل قرأ فيه "الشغف الغنائي في مخاطبة الأسماء"، وآخر عن "الوظائف والمهن تستهوي الغناء"، وآخر عن تمثل الحكمة الشعبية "الأغنية العراقية تتداول الحِكم والأمثال"، دون ان ننسى كيف صارت "عمي يا بياع الورد" دلالة على فصل ممتع عن "نباتات الأغنية العراقية.. الوردُ نموذجها الطاغي"، وهو ما يتصل بفصل عن "الأغنية العراقية تتطبّع بالطبيعة"، ومثله عن "ألفة الطير والحيوان في الأغنية العراقية".
بسعة الكون وآفاق الروح
كما ان فصلا بعنوان "الأغنية العراقية: عناصرُ الكونِ مثالُها.. وطبيعةُ المناخِ مزاجُها"، يجعلنا حقا نقر بعمق عنوان الكتاب، "فلك النص الغنائي" فمثلما هناك "الفلك" الطبيعي الواسع، هناك المصغر المتداول في الشعور والتعبير اليومي، عبر تقصي "حياةُ الأشياء في الأغنية العراقية"، وكيف "الأغنية العراقية تستقل وسائل النقل النهري.. والبرّي.. القطار خصوصاً"، و"الأغنية ترتدي أزياءها العراقية"، ناهيك عن "الأواصر الأسرية والإنسانية تتشاجنُ في الأغنية العراقية"، وكيف ان "الأغنية العراقية تتغزّلُ بحلي وزينةِ وتزّينِ المرأة وجمالها.، وطالما تعلق الأمر عن صورة من صور المرأة، فهناك فصل "الأغنية العراقية تُعِزُّ المرأة.. والواقع يضطهدُها" عبر: "إعزاز المرأة، اضطهاد المرأة والدعوة للسفور".
السياسة في الأغنية
واذا كانت السياسة في العراق المعاصر، عبارة عن آمال كاذبة بل هي دم وسحق متواصل للإنسانية في جوهرها و"انتصارات" و"تقدم" في شعاراتها الفكرية المضللة، فان الفصل السابع عشر في كتاب كنانة والذي حمل عنوان " الأغنية العراقية.. من نقد الواقع إلى الغزَل السياسي"، يتوقف عند مرحلة نادرة في تاريخ العراق المعاصر، التي مثلها عقد سبعينيات القرن الماضي لجهة التوافق السياسي والبناء الاقتصادي والاجتماعي الواعد، ليبدو وصفه "الغزل السياسي" دقيقا في التعبير عن تلك المرحلة المهمة في نتائجها وإن كانت قصيرة زمنيا.
العراق: "ريادة" في المثلية الجنسية!
واذا كان هناك من وقف حائرا من أجيال العراقيين عند ظاهرة غناء المذكّر للمذكّر وبالعكس، فان الباحث كنانة وبجرأة، ينقل الظاهرة الى حيز ثقافي واجتماعي بات الحديث فيه والبحث عنه اليوم أمرا عاديا وشائعا، الا وهو حقوق المثليين وثقافتهم، لنجد ان العراق كان رائدا في هذا المجال، فحين قرأ "تداخل الأصوات في الأغنية العراقية"، فهو بحث، تذكير المؤنّث، تقمّص صوت الجنس الآخر، و"غناء المذكّر للمذكّر.. أو الغناء المثلي"، الذي يحفظ العراقيون عنه قصصا وحكايات وطرائف، يختلط فيها الخيال بالواقع، الشبهات باليقين، والحقيقة المفككة بالكذب المنظم، ليس أقلها ظاهرة المطرب الشعبي سعدي الحلي ورهطه من الشعراء والعازفين والمريدين والندامى، وقبله ما كان يتم تداوله عن قراء المقام العراقي، وممارسي رياضة "الزورخانة" منهم على وجه الخصوص.
وإذ يتناول كنانة، الذي لا يسنى توجيه الشكر للروائي والشاعر العراقي حميد العقابي الذي راجع معه نصوص الأغنيات وتحليل موضوعاتها، فصلا بعنوان "ملامح أخرى للأغنية العراقية"، فأنه يحسن صنعا حين يقرأ حضور "الواقع والقانون والدولة، لا سيما ان هذه مادة هائلة بما فيها من حس نقدي وتهكمي وتحريضي في أحيان كثيرة، وبما يوثق حساسية عراقية شعبية ضمنية، رافضة للقانون والدولة، مثلما يتألق البحث في "الخمر ومجازاته" ضمن النص الغنائي، ناهيك عن "مشاغبة الجسد" ووصولا الى "الولع بصغير السن".
حيال غنى هذا الجهد وخصوبته، فأن العثور على مدون روحي (غنائي) يوثّق مؤشرات الروح الاجتماعية العراقية في عليائها تعبيريا وإنسانيا، من التعبير الرقيق والمهذب عن الحبيب الى الاستعارات الذكية في نقد ظلم الدولة والمجتمع، بات ممكنا ومتيسرا، وموقّعا بإمضاء إنسان حصيف في روحه وفكره كالباحث الدكتور علي كنانة.