شهادة ذاكرة / مابعد سقوط الطاغية
بتجربة هي مزيج من القص والتروية والريبورتاج : أشتغلت عالية طالب ( قيامة بغداد ).. فهذا النسق الثلاثي يشهد له مساهمتها المنشورة قصصيا وروائيا وإعلاميا . لذا جاءت كتابتها السييرية مثنوية : فهي تتناول ماجرى عراقيا في ربيع 2003 وتتعقب جذور ماجرى لنا جميعا في شريط سينمي طوله ثلث قرن عراقي من الرعب الكاتم / والمدوي.. وقد تعالقت سيرة الوطن بسيرة المواطن ثم أنتقلت من العام إلى الخاص : أعني إلى حصتها وحصة عائلتها من الخراب العراقي ..
(*)
وظيفيا هذا الكتاب لاتتوقف مدياته عندها فقط بل للأجيال القادمة .. فهو كتاب صالح تداولياً في تنشيط ذاكرتنا العراقية وصيانتها من غول النسيان . ذلك التنشيط الذي يجعلنا نحاول مستقبلا سعيدا ..
(*)
إذا كان ( الزمن وحده يغتالنا ) بشهادة سلفادور دالي، فأن عالية طالب تحاول أن تتصدى للزمن بعزيمة امرأة عراقية .. ( لم أتعود أن أكون على علاقة بموعد قادم، كنت أنا من تحدد أوقاتها، لكن لاتنتظرها، وكنت أنا من تتلاعب بالعقربين لا أن ترقبهما، بل كانا هما من يتوسلان أن تدعهما يقتربان من بعضيهما، ولم تكن ترحم التوسلات كثيرا ولا تصغي إليهما ../ 222 ) ..
ولايتوقف الأمر عند هذه المكابرة، سأنقل هذه العينة الحوارية، تاركا لفعل القراءة حريته
( همست ابنتي قبل أن نوصد الباب
- هل سنرى هذه الأماكن قريبا ؟
- قلت بتراخٍ أشبه بالصدى
- هل سترانا قريبا ؟ ) ..
وتبادل أدوار الأمكنة لايكتفي بهذا القدر، فقد أتسع قوسه بعد سقوط الطاغية .. وأنتقلت أمتيازات المركز للهوامش التي كان يزدريها المركز بملفوظ إستعلائي ( محافظات ) فهاهي المحافظات صارت .. ( تتمتع بميزة أمنية أفضل من بغداد، ومعها أمتيازات خدمية أخرى نفتقدها في العاصمة . كنا نسخر من عذاباتنا ونحن نستذكر كيف أن تلك المحافظات عانت سابقاً من أسوء الخدمات وعاشت في اهمال واضح، وأبناؤها يحسدون العاصمة على أشياء كثيرة، والآن انعكست الصورة تماما ../ 117 ) .. هنا تتداعى ذاكرتي كقارىء لسنوات جحيم البصرة في( 198- 1988 ) .. كان بعض الضباط يسخرون منا نحن الجنود البصريين، حين نقضي اجازاتنا الدورية بحثا عن عوائلنا في المحافظات، يومها لم يكن هناك موبايل .. فكانت الاجازات تتفتت في بحثنا الموجع عن عوائلنا ..
(*)
( قيامة بغداد ) : تجنيسا مكتوب على الغلاف : رواية، لكن من وجهة نظري كقارىء نوعي أرى أنني أمام كتاب جميل ومهم وضروري يشتغل على استعادة ماجرى، إذن ( قيامة بغداد ) يمكن تجنيسه ضمن كتب السيرة : فالساردة والمؤلفة في تطابق تام والوثائقي له السيادة المطلقة والمخيال مغيّب إطلاقا بسبب غرائبية الإرتعاش الولادي للحظتنا العراقية منذ قيام الدولة العراقية ذات السلطة الحجازية والحماية البريطانية.!!
(*)
المؤلفة تبث من سيرتها في بعض قصصها كما هو الحال في قصة ( العودة ) وهي من ( بحر اللؤلؤ ) مجموعتها القصصية ..
(*)
أستوقفتني إتصاليات : المسرحي والواقعي في سيكلوجية المؤلفة
(1) تعيث الغربة في كياني قبل أن أغادر أرضي، منذ تركت منزل ذكرياتي / 221 الساردة هنا لاتتوقف عند البوح / الإخبار حول مؤثرية الاغتراب داخل الوطن . بل ستنقل لها حالات تشظيها في المرايا :
*أنا أرى نفسي إنسانة أخرى .
*إنسانة لا أعرفها
*تنفصل عني رويدا رويدا
*كأنها تعاقبني على ذنب ما، ذنب لا أعرف متى أقترفته وأنا أبحث عن هاجس تصحيح مسار أحداثي . التي أقتربت من حافة واحدة، البقاء وانتظار الموت، الهرب واستقبال الإقصاء عني
وكلاهما سيلغيان ذاتي ويباعدان نفسي عني .. / 221
ثم تنتقل الساردة / المؤلفة لمسرحة مايجري كعلاج شخصي للذات المشروخة قسراً :
حيث يتعالق الفعل بالأخيولة العلاجية للذات :
*أحزم حقائبي للمرة الألفة
*وأنا أتمنى أن تتبدل الوجوه حولي
*والأحداث والأمكنة
*وقراري، ونزف مشاعري ../ 221
ثم تنتقل الساردة لمسرحة ذاتها كرها :
*أفتح الحقائب
*أفرغ محتوياتها
*وأفرح لهذا
*وكأنني قد عدت ُ من سفر ٍ بعيد
*وأعود لأملأها بشجني
*وإقصاء بعض احتياجات أقنع نفسي أنها غير ضرورية
ثم يحضر الواقع في نفس وذاكرة وقلب الساردة، يحضر بكل شراسته وبمخالبه يكنس الأخيولة :
( لكن الوجوم يعاندني وتتوقف الساعة فوق رأسي بعناد
من أضاع عقارب لاتكاد تلتقي، أنظر إلى الوقت وكأنني
أمسكه بيد من وهم وسراب، تبقى الساعة تدور، ويأبى
العقربان الالتصاق، وتأبى روحي إلا أن تظل تراقب
الموعد القادم . لم أكن أدري أن الانتظار يمكن
أن يدمر هكذا .../ 223 )
(*)
إذا كان ثمة أشكالات فهي مؤطرة بالتنظير النقدي وليس بالنتاج الأدبي المقروء.. فالمتعارف عليه نقديا ان الشخوص في أي رواية لهم حركيتهم الخاصة وعوالمهم ضمن عالم الرواية .. لكننا في ( قيامة بغداد ) كل شيء برفقة صوت واحد هو صوت المؤلفة وسيادتها المطلقة على الفضاء النصي بشكل يجعلنا متشوقين لمعرفة : إلى أين..؟!
والمؤلفة بدورها جعلت من شكل الدائرة هو شكل وحركية سيرورة سردها، فهي مع الصفحة تؤكد على أنها وعائلة على وشك مغادرة العراق / ص7 وفي الصفحة الأخيرة من المطبوع تعلن ( مزقت ُ آخر تراجعي وأنا أحشر نفسي داخل سيارة تحمل فوقها حقائب خمس، لاأعرف إلى أين ستقودني../ 223 ) ..
(*)
المؤلفة وسواها من العراقيات والعراقيين : أستطاعوا المغادرة ولا أعتراض لنا عليهن/ عليهم .. فتلك حرياتهم/ حرياتهن .. لكن الذين لاحول ولا قوة .. كيف يتصدون للعنف ؟ بالأدعية ؟ بالأسلحة ؟ بالاستقواء ..؟! أم يعيشون موتهم في طوق المتوقع اليومي ؟!
(*)
الكتابة هنا فعل تعويضي : أستعادة الأشياء كملفوظات وهكذا يتم تخليص زمننا النفسي من العوز المناعي . كتابة ( قيامة بغداد ) ترسمت بعيدا عن المكان في ( 20/ 7/ 2008- القاهرة ).. إذن ثمة فاصلة بين زمن الاحداث وزمن كتابة الأحداث وأكتشافي هذا أعلنته المؤلفة في سردها :
*( منذ تلك اللحظة التي بكيت فيها دون أن أستطيع السيطرة على نفسي، ولحد اليوم،
وبعد مرور أعوام عديدة / 49 )
*( أعود اليوم وبعد مرور السنوات على ذلك التاريخ لأقول إن نبوءتي لم تكن فاشلة.. / 62 )
*( حين أتذكر تلك الأيام، تتناوب حالتي بين الألم والألم ولافاصل بينهما / 72 ) ..
(*)
هل بهذه الترجمة السييرية تحررت المؤلفة نفسها من عبودية المكابدة ؟! فالعمل الفني ( بالنسبة إلى الفنان، قبل أي أعتبار آخر، شيء من الانعتاق . اذ تتراكم لديه خلال مسار حياته عواطف لم يجد لها مخرجا أو متنفسا في إطار الفعل أو الحركة .تنتفخ هذه العواطف في داخله فتملأ روحه حد الانفجار . وعندما يحس بالحاجة الماسة الى تحرير نفسه، يتدفق العمل الفني منه تلقائيا../ 89- اندرية موروا – أوجه السيرة ) .. هل كان غرض الكتابة هو فقط تفريغ شحنات ؟ أم هناك الأهم ؟ أليس في ذلك محاولة ذاتية من المؤلفة في إنبناء ذاتها ذاتيا أعني من خلال كتابتها هي ..؟! فهي على مستوى الإبداع وبشهادتها القصصية تبحث ( عن مكان يحتويني أنا والقصة التي تحاصرني منذ فترة ليست بالقصيرة، ضربت طوقها حولي.. أرى ملامح وجوه أبطالي أمامي ../ ص – لحظة اكتشاف القمر – بحر اللؤللؤ ) .
(*)
ومثلما تتناول المؤلفة المتغيرات الاخلاقية في العمل الأعلامي بعد الخلاص من الطاغية فهي تتوقف عميقا في إتصالية التنافر الثقافي بين الداخل المحسوب على السلطة بشكل عام / والخارج المحسوب إعتباطيا على المعارضة بشكل عام في الصفحات التالية : 97- 98- 74- --------------------------------------------------------------------------------------
*المقالة منشورة في طريق الشعب/ 17/ 8/ 2017
* عالية طالب / قيامة بغداد / شمس للنشر والتوزيع / ط1/ القاهرة / 2008