"أود أن أسحب ضياء القمر فوق مياه الليل، أن أكون فيها مجدافا فضياً وأن أشقها، أن ألتبس فيما بعد بالنجمة التي توقظ الطريق النائم للنور .
أود حينها أن آتيه في إكليل شعاعي بعيد ومطوق،
أن أبقى ثابتة أعشق في نِدِّيَّةٍ ما لا يدرك دون أن يُستشعَر وجودي وأن أستمر هكذا في لا نسيان النهار" . الشاعرة الإسبانية (كلارا خانيس )
ليلى مهيدرة
القصائد التي ضمها ديوان (وشوشات مبعثرة) تحتوي على لمحات إشارية تشرك المتلقي معها في تمعن المفردة والصورة الشعرية داخل فضاء القصيدة، فالشاعرة ليلى مهيدرة تؤثث لنصوصها بعناية لغوية وفلسفية عالية، ولعل ثمة كاشفية عن الإشارية التي تعتمدها الشاعرة لتكون بذلك خطابا شعريا وبقراءة سيمائية للعتبة النصية ( العنوان) ستفصح لنا الشاعرة عن علاقتها (بنصوصها) (وعلاقة الآخر : العالم) (معها في النص الشعري) إذ انطوى العنوان على لفظين (وشوشات) (مبعثرة) بالإعتماد على اللغة في اجتراح النقيض، وهي لعبة لغوية أجادتها الشاعرة، إذ أن (الوشوشات نقيض للصفاء) ( والبعثرة نقيض للنظام والترتيب) ( تبدأ لنا رفضها وانتقادها لنقيضي مفردتي ديوانها وتبحث عن تأصيلهما داخل نصوصها ) وهي بهذه المفردة كشفت لنا عن المتن الشعري لجل قصائدها، وهذا ما سيتوطد انطباعياً حين قراءة الديوان فهي دائما تشتغل على إرسال الخطاب من ( أناها ) إلى ( الآخر : العالم بكل تجلياته وصوره) عبر توفير توظيفات لرموز مجتمعية وفكرية وإنسانية . إذ ثمة تظهر واضح لانصهارات مواقف مسبقة ( مجتمعية وفكرية وسياسية) صيغت داخل بنية النصوص الشعرية عبر تحليل ثيمة الخطاب الشعري لنصوص الشاعرة. وفي ديوان الشاعرة الكثير من مظاهر الإنتصار للمرأة وحقوقها والإنتفاض لمسألة وأد صوتها في المجتمع الذكوري، فهي تبدأ ديوانها على هذه الشاكلة وتستمر بتراتبية تدل على خطاب الشاعرة في تبني الموقف في كل خطاب لنصوصها المختلفة إذ تقول :
(وتنتهي المسألة
ولن أكون أول امرأة
في عرفكم
تثبت فيكم المرجلة.. !)
سيلاحظ القارئ أن الشاعرة تعتني تماما بصياغة المفردة وتوظيفها داخل فضاء النص، ولعل ثمة مفردات تفرض نفسها على قصيدة الشاعرة ويكون حضورها طوعيا، ما زال موضوع القصيدة هو الدفاع عن المرأة ورفض الهيمنة الذكورية ويلاحظ من المقطع أعلاه من قصيدة (مروءة) مفردات (لن – أكون-أول- امرأة- تثبت- المرجلة) كلها تدل على دينامية الصراع في إثبات وتأصيل الشعرية مع الخطابية في نصوصها المتنوعة. ولعل هذه الصراع والدعوة لتأصيل خطابها يتأكد في نصوصها، إذ استخدمت الكلمات الآتية (سأكتب-سأعزفك -سيرتبك-وستعترف) كلها في نص شعري واحد . وتنقلنا الشاعرة في عوالم جماليات المكان، إذ تكتب عن بلاد التحرر والثورة ( مصر) في قصيدة ( لك مني اعتذار)
(وعيني لا تلمح غير حبيبين على نيلك
يقولان شعرا
وأذني لا تترنم إلا لمعزوفة
توقد نبض القلب جمرا
كرهت الشعر ونبذته،
يوم صار غمامة،
وشاشة مظللة للظلم
حتى كدت أرى الجورَ فخرا) فتنتقل من وصف المكان إلى إنسانية المشاعر وصولاً إلى استرجاع الموقف وعكسه على ذاتها كما تنطلق بهذه المتوالية في بعض قصائدها من ذاتها إلى الآخر الخاص ( المخاطب ) وصولا إلى المشاعر التي تملأ العالم الخارجي عبر توظيفها ووصفها وصورها الشعرية المتدفقة في أبجديات لغتها.وأنسنة الأشياء من حولها .
وبالقصيدة نفسها ثمة جملة رائعة للشاعرة (فليس بعد الفقر إلا كفرا) وكأنها توظف قول أمير المؤمنين علي بن ابن طالب(عليه السلام) إذ قال : ( لو كان الفقر رجلا لقتلته) إذ أن الفقر والكفر يجب التخلص منهما معا . والشاعرة حينما تعزف على وتر الوطن في قصيدة (لحن الوطن) تحسن صنعا بقولها :
(أيا جاهلا تاريخ بلادي،
أعْلمك أن الوطن في عُرفي عرض
جسد واحد وميثاق لا يفكّ)
إذ عبر نسق الخطاب الشعري اعتبرت الوطن عرضا وخلصته من أطلال الجمادات إلى روح الثورات . وأعطت الضوء الأخضر لعشاق ذلك الوطن بالذود عن ( عرضهم) اذ ما تعرض لأي انتهاك أو مساس من قبل الطغاة والدكتاتورية ! وبهذا يتضح أن للشاعرة عدة مستويات دلالية وخطابية في فضاء نصوصها ومنها الوطنية والوجدانية والمجتمعية . ولعل عناوين مجموعتها تحفل بالشعرية ( فرسان من ورق- مناصب شاغرة في قصائد العرب- مفتاح بيتي المهدم) تؤكد على عدم تسليع جسد المرأة وانتصارها لجوهر المرأة ورفضها لاستباحة الجسد الأنثوي في أغلب نصوصها فتقول في قصيدة ( فرسان من ورق)
(أمري بيدي وأنوثتي ليست في المزاد)
وتتضح الرومانسية المتدفقة في رفض القوانين والتمرد عليها في نص ( حريق المشاعر)
ويتخصص خطابها الموجه إلى الآخر ( الرجل) عبر تكذيب الزيف من الحب :
(قال
-أحبك وكفى-
رسمها على كل حائط
وما اكتفى
فكلما مرت بها امرأة
قالت لي وصفا
يا لَغبائكِ يا امرأة
فقد قالها
لمئات النساء قبلك
وألفا)
فهي ترسم صورة لواقعية ( الزيف في الحب في المجتمع الحالي) وتكشف لنا عن مستويات ومظاهر درامية في نصوصها ومنها تعدد الأصوات والحواريات التي تجري وفق أنساق شعرية داخل نصوصها . والشخصيات النابضة الحركية والفاعلة في المجتمع، تراها تجترح تجريبا لتلك الشخصية (البطلة) التي تنادي (بالحرية) و (التحرر) و(الديموقراطية) وتحاول أن تكسر التابوت والقيود التي فرضت من قبل المجتمع والساسة . وتصيغ الشاعرة مفهوم الإنتظار وفق نسق فلسفي وتعمد إلى إعطاء اللغة الشعرية أهمية في جذب المتلقي، تقول في نص ( لا تأت) الرافض من خلال العنونة للمتن الحكائي الشعري واعني الحكائي الخطابي المخصص لشعرية نصها والموجه في ثيمة مركزية نحو خطابٍ ما, تود إرساله الشاعرة وتنتقد تفرعاته وتفاصيله المجتمعية :
(في مساءاتنا التي تسكنك
وتسكنها
شهر زادك أنا
وليالي تتولد بك ولك
فلا تأت)
التناسق اللغوي والصياغة المحكمة في نصوصها تجعلك تقرأ مرتين (شهرزادك أنا) ( تلك الضحية التي تنتظر الموت من ذكورية شهريار) و (شهر زادك أنا ) أي زمن راحتك وفترة راحتك عبر مدلولية ( الشهر) (زاده – متعته الشهوانية ونظرته للمرأة كجسد فحسب) باعتبارية ما تذهب له بعض تخيلات الذكورية من أن المرأة ( نزوة زمنية عابرة) والشاعرة لا تكشف لنا عن سوداوية مستقبل أو ضبابيته بل ترى أنها تستطيع الكلام عنه والعيش فيه عكس بقية الشاعرات التي ترى في نصوصهن سوداوية النظرة للمستقبل :
(فتسافر الطيور عبر الأجواء
لتخبر العاشقين عنا
ونلتقي
ونفترق
والمواعيد تنسج بذاكرتي خيامها
فأحب تكرارها وتحب تمردي) ولكن هل العنونة لهذا النص (مواعيد وهمية) هي نقض لما ذهبنا إليه أم مفارقة لغوية من مفارقات الشاعرة التي تصف نفسها بالتمرد في المقطع أعلاه . وهذه الرومانتيكية التي غلفت جملها تكشف عن (ذات الشاعرة) وأقول أن النص يكشف عن ذات الشاعرة ولو جزء بسيط من تلك الذات فاغلب النصوص تعبيرية وكاشفية عن الذات التي تمخضت عن تأثيرات مسبقة انصهرت بذات الشاعرة وانسكبت شعراً على الورق . والشاعرة لم تجاف الرجل بالمطلق بل عادت واعتبرته شريكا في الألم والأسى، تقول في نص ( شريك الدمع)
(أهواك شريكي
في الدمع
وفي الألم
وأهوى زمنا عدلا
للأسى بيننا يقتسم)
والمفهوم الفلسفي للإنتظار لديها يتأتى في العزلة والإنفصال (رحيل الحبيب) (انتظار عودة الآخر المجهول) (فراق الطريق واختلاف الطريقين) كل هذا يهيمن في نصوص ( احتمالات قاتلة) ولا نغفل نص (مناجاة) وجمالية اللغة فيه .
فات الشاعرة بعض الهنات التاريخية فحطت رحالها بما سار عليه أرباب السيرة من وعاظ السلاطين . هذا لمح صغير انبثق في نص (لك مني اعتذار) . وكأن الشاعرة في الديوان عبر تناسق اختيار وترتيب قصائدها تحكي لنا عبر العنونة عن خطاب ذاتي ينتقل ليوصف الحال العامة بتسلسل زماني :
نادني----ولا-- تحرق مشاعري --- فيأتي الجواب :
أحبيني --- فترد :---حبك مكرر-- ككل الناس أنت !-- لا تات !
فأنت رجل شرقي ---- ومواعيدك وهمية-----
وتختم بالمناجاة لتكشف عن تصوف في شعريتها وفي أغلب نصوصها تجد البذخ على الآخر وتعذيب النفس ولومها إزاء الحوادث التي تمر أمام واحة الشاعرة وشخوصها الشعرية .
أما قراءتك لنصوص المجموعة الشعرية سيجعلك أمام تدفق لغوي باهر وتصوير شعري نابض بالحياة، وترى الوعي الشعري في الثيم المركزية حاضراً، هي دعوة لكل قراء ومتذوقي الشعر بان تكون حروف وجمل الشاعرة ليلى مهيدرة محض تحريض لقراءتها بوعي وتمعن لإنتاج معانيها وإشراك المتلقي بفعل كتابة النصوص مع الشاعرة عن طريق التلقي وإنتاج المعنى، أغلب نصوص الشاعرة زرعت بالأفعال وشملتها الدراما والحوارات وسيمائية الصورة فكانت حركية منبثقة في بنية قصائد الشاعرة، ونصوصها تعتمد على توظيفاتها وصياغتها للجمل واختيارها للمفردات . لا أود أن أسرق متعة قرءاتكم للديوان أكثر من هذا . وأدعوكم إلى سياحة إنسانية وجمالية للتمتع مع ديوان( وشوشات مبعثرة) .