حلَّ المساء ولف الظلام السماء . ولكن القمر كان ينشر خيوطه في الفضاء، والغيوم تحجب نوره من حين إلى حين . وهكذا تثاءبت حقول البراري وأمواج البحار، وغرقت الدينا وكائناتها في أعماق السبات، تسبقهم شهرناس وقد حمل الحب قلبها إلى دنيا الأحلام . تجلس بين يدي أميرها بدر الزمان، يفيض به الشوق وتفضح عيناه الغرام، فلم تنطفئ ناره إلا بعد مثولها بين يديه .
وبعد ترحيبٍ وحبٍ وَوَلَهٍ مستفيض ألح عليها بالسؤال : ما القصة التي أحضرها الجان الثاني يا شهرناس ؟ قالت : يا سيدي ومولاي أما الجان الثاني وبعد سماع قصة صديقه قال : قصتك عجيبة لكنها ليست أعجب من قصتي.. !؟ فأثناء سيري في سوق المدينة صادفت رجلا وأسديت له بعض الخدمات، فشكرني ودعاني إلى بيته ليكرمني، وبعد أن أكرمني بالعشاء رأيته شارد الذهن غائب البال كأنما رحل بفكره إلى عالم آخر . وحينما سألته عن سر شروده وبعد إلحاح مني روى لي حكايته فقال :
زارني في منامي راحل عن الدنيا، رأيته في أحسن الأحوال . كان مشرق الوجه وضاء الجبين ويشبه طلة البدر عند الكمال . يبحر على زورق من العسجد وخشب الخيزران، ويرتدي حلل الملوك وعلى رأسه قبعة مصنوعة من خيوط الفضة والذهب والديباج، ويحمل في يده فاكهة طيبة الرائحة شهية المنظر، فلم أرَ مثل منظرها ولم أشم رائحة زكيه مثلها في حياتي . وحينما تبسم ظهرت ثنايا أسنانه كاللؤلؤ المنثور، ولقد قضى حياته في الدنيا معربدا سكيرا وعاشها على هواه . أسلم نفسه للخمر واستبد به الكأس وانقضى عمره بلمح البصر . لم تكن تفارق الكأس يده ولم يغب عن مجلس في الدنيا فيه شرب ونساء وغناء، فقضى حياته على العطايا والصدقات وما تجود به أيادي أهل الخير والإحسان .
وحينما سألته : من أين لك كل هذا.. ؟ قال : إني أعيش في نعيم لا ينقضي ولا يزول فأنا في جنة الله . قطبت جبيني وقلت له : أين أنت من الجنة ؟ أنسيت ما فعلته في دنياك ؟ قال : ويحك ! أتقارن ربا رحيما بالعباد ..؟ من أنتم حتى تستأثروا برحمته وتقسموها على من شئتم من الخلق ؟ أيها المغفل رحمته سبقت عذابه وجنته وسع الأرض والسماء ويمكنك أن تدخلها من مئات الأبواب.. فأدخل جنة الله من أي باب تشاء، ولا تحصر أفعال الخير على عقلك المحدود في العتبات والأبواب .
لقد غفر الله لي ليلة كنت جالسا فيها عند عتبة خمارة، والكأس كانت في يدي وبالقرب مني بعض الضالين أمثالي، عندما مر بنا رجل محسن يوزع طعاما وخبزا ولحما على الفقراء، التهم كل واحد حصته دون أن ينظر إلى وجه من كان بجانبه . ورحت أتلفت حولي هل بقي أحد دون طعام ؟ فلم أر إلا قطة تموء جائعة مثلي . أشفقت على القطة ووضعتُ أمامها حصتي من اللحم والخبز . أكلتْ حتى شبعت ثم غادرتني وهي تموء لعلها كانت تشكرني ولا أفهم ما تقول . ثم أكلتُ بعدها ما فاض عنها من الخبز واللحم . وهكذا غفر الله ذنوبي بواسع رحمته وإحساني للقطة المسكينة .
سكت الرجل قليلا فقلت له : والله إن في منامك لعبرة يرق لها القلب يا صديقي، وسأذكره في مجلس سيدنا سليمان، فلا أظن أن أحد منكما جاء بقصة أعجب من قصتي . تنحنح الجان الثالث وقال : بل قصتي هي الأعجب، وبها يغفر زلتي سيدنا سليمان . أتيت بأخبارها من قرية طاب هواؤها وكثرت بساتينها ورقت صفحات مائها .
وبينما كنت سائرا في أحد مراعيها يا صديقي، أتفقد أحوال الحيوانات التي كلفت بالعناية بها، والاهتمام بشؤونها وسماع شكواها، تناهى إلى سمعي بكاء خافت، بحثت عن مصدر الصوت حتى توصلت إليه . كان البكاء ينبعث من زهرة حمراء باهتة اللون، حينما لم ينفع توسلها للسماء التي قطعت عنها المطر، فذبلت وبهت لونها وتغيرت عن قريناتها من زهور الحقل .
وحينما سألتها : علام البكاء أيتها الزهرة ؟ لم تجبني واستمرت في البكاء، فقلت لها : أنا عفريت سيدك سليمان، ومن أنصف النملة يا صديقتي وسائر طير الأرض والسماء، وله سخر الريح والإنس والجان؟ لن يرضيه بكاء زهرة حمراء فاتنة مثلك تنشر عطرها على الكون . قالت الزهرة : ولكن ما بالك يا صديقي بحال من يعشق حلما مستحيلا لن يحققه الزمان ؟
كان هناك راعٍ يمر بنا كل ليلة مع قطيعه، يتوسط الأزهار ويحمل بين يديه نايا ينفخ لنا فيه أجمل الأنغام وأعذب الألحان، يحنو على خرافه لا يضربها بالعصا، ولا تدوس قدماه الحشرات من النحل والفراش، ثم يدنو مني ويقبلني . وهكذا تسلط سحره على قلبي وصرت أراقب حركاته وسكناته، حتى دبّ الحب في خافقي وفي كل خلاياي، ودعوت الرب ليهبني لهذا الراعي الطيب القلب.. وإذ بي في ليلة قمراء أتحول إلى امرأة لا تقل فتنة وجمالا عن الأزهار، وأسرعت أفتش عن الراعي ووجدته يسكن كوخا صغيرا، يركع أمام تمثال امرأة لها تقاسيم وجه ناعم مغرور، عرفت أنه يعود إلى امرأة ثرية تسكن القصور ويعمل على راحتها خدم وخلق كثير .
عشق الراعي تلك السيدة، فهجر مهنة الرعي وتفرغ إلى نحت تمثال لها يعبده ليل نهار، في كل ليلة يسهر على إضافة لمسة جديدة إلى التمثال، ويزيده جمالا يحاكي جمال ساكنة القصر وصاحبة التمثال، ثم يدنو منه بإجلال وتعبد واحترام ويعكف يمسح عنه الغبار، وصار يحدثه ويقبله ويناجيه معظم الأوقات . وعدت إلى حيرتي وتمنيت لو كنت هذا التمثال فيقع في غرامي، وإذا بي بقدرة قادر أتحول روحا تسكن التمثال، وفرحت أشد الفرح بما آلت إليه حالي وصورتي الجديدة، ورحت أحدثه ذات مساء فوقع حديثي عليه بصدمة وأصابه الذهول، وفم التمثال يتحرك وينطق بالكلام . أعجبه الحديث ووجد فيه سلوى ومنفذا للبوح بمشاعر قلبه .
أحببته حبا ألهب كبدي وكياني كله، وتملكني حب في عمق أحشائي وشعرت معه أني زهرة تتفتح من جديد، ووعدته ما أن ينتهي من صنعي حتى يتحقق له مايريد، وأكون له ويكون لي كما يشاء ويشتهي . وقررت أن أعلن للراعي حقيقتي ما أن ينتهى من صنع التمثال الذي سكنته . حتى جاء يوم رأى فيه السيدة الحقيقية تمشي في الجوار ثم تختلس النظر من النافذة تراقب صنع الراعي وكيف صورها بعد أن شاع خبره في القرية، وما أن رآها حتى ترك صورتها التي سكنتها وهرع إليها كالمسحور، لان قلبها وتحركت عواطفها تجاهه ثم عاد وخرّ أمامي يقبلني، إذ ظن أني حققت له ما وعدته به ووجد محبوبته حقيقة من لحم ودم ماثلة أمامه .
لم يرني إلا تمثالا وخرافة وخيالا لا يزيد عن الصنم، لا امرأة تأسره وتملكه بروحها وجسدها . وصار يقابل السيدة في قصرها حينا وأمامي أحيانا أكثر، ثم هجرني أياما وليال طويلة وكأنما مات وانتقل من الدنيا إلى فردوس محبوبته . فتركت التمثال وليتني لم أفعل، فقد تحولت إلى روح هائمة لا تدري ماذا تريد أو تفعل .
هكذا عدت إلى طبيعتي الأولى، وحقيقتي كزهرة حمراء تنتظر قدومه وانشراح صدره وغرامه . وهكذا مرت الأيام والليالي وأنا انتظر عودته ولم يأت، فدب اليأس في قلبي وكاد يقتلني الشوق إليه، فجف ساقي واختفى لوني وتوارى عبيري... فارفع أيها العفريت شكواي إلى سيدنا سليمان، قل له زهرة حمراء غاب محبوبها ولم يسعفها قطر الندى، ولم يعد يجدي معها غوث مطر ولا صلاة استسقاء .
وهنا كفت شهرناس عن الكلام، وتساءل بدر الزمان عن أحوال الثلاثة من الجان.. ماذا قال لهم سيدهم سليمان وأي حكم أصدر عليهم بعدما قصوا عليه الحكايا وجاءوا إليه بالأخبار؟ إلا أن شهرناس أفاقت من السبات . وبقي بدر الزمان ينتظر بلهفة المشتاق ليالي ما يأتي من ليالي شهرناس .