يرى الآخرون
زهرة الأنبياء
مهدي محمد علي
"أعرف أنني سأعود يوما، أبحث عن زهور النرجس تحت ساعة البريد، عن طريق ينحدر عبر حقول القمح إلى محطة القطار، عن أعمدة المرمر وتيجانها ترتمي في ساحة دار كانت ذات يوم دارنا، وأعرف أنني لن أجد شيئا من ذلك. لقد بحثت مرة عن غابة حور انسللت يوما بين أشجارها فابتلت قدماي بماء لم أره، ينساب تحت العشب الغض يترصد الخطوات الفضولية، غابة لا طريق للسابلة فيها، لم يكن قد مر على ذلك سوى بضع سنوات، بحثت عنها فما وجدت سوى جدار أصم من التوتياء كُتبت عليه إعلانات بحروف ملونة كبيرة."
هكذا تبدأ الكاتبة (سالمة صالح) حكاية (زهرة الأنبياء) حكاية الموصل (أم الربيعين) التي ترسمها (سالمة) رسما خاصا ومؤثرا.. رسم الكاتبة المبدعة بلسان طفولتها.. طفولة مدينتها، الأمر الذي يجعلني مدفوعا ضد الرحلات السياحية إلى أي مدينة في هذا العالم.. لأن الزيارة العابرة لا تعني بأي شكل من الأشكال - المدينة التي نزورها زيارة عابرة .. المدينة بأهلها، وطفولتها، طفولة أبنائها.. وها هي (سالمة صالح) تكتب الموصل بذاكرتها القديمة الجديدة، فلا تكون مثل كارت سياحي، بل صندوق أسرار من الخشب الأبنوس المرصع بمسامير الفضة!
عن الأيام الأولى .. السنوات الأولى للدراسة ترسم (سالمة) أكثر من صورة مألوفة ومدهشة في الوقت ذاته: "كانت المدرسة الجديدة بعيدة عن بيوتنا، ولم تكن قد حصلت على ما تحتاجه مدرسة من أثاث، فجلسنا على الحصر بضعة أسابيع قبل أن نحصل على القماطر. لكن كل شيء ما لبث أن انتظم وأصبحت للمدرسة مكتبة أعارتنا المعلمة منها قصصا للقراءة، إلا أنني لم أجد في قصة "الفأر فرفر"، في كلماته الموجزة وجمله القصيرة ما يمكن أن أعتبره مسليا وكنا قبل ذلك قد قرأنا في الكتاب المدرسي قصصا من كليلة ودمنة وحفظنا عن ظهر قلب أخبار حلم معن بن زائدة. لكن جحا الذي دخل على قومه دون أن يبلله المطر المنهمر في الخارج وادعى أنه سار بين القطرة والقطرة بدا لي أكثر ذكاء من الفأر الذي يدلي ذنبه في قارورة العسل.
وتروي (سالمة) أن الطريق من البيت إلى المدرسة كان طريقا طويلا، وفيه مشاهد كثيرة:
".. اعتدنا أيضا مشهد ذلك البيت على الطريق، يفتح بابه في الصباح وتصف أمامه وفي مدخله سلال فيها ليمون، سكاكر، علب كبريت وأشياء أخرى، الدكان الوحيد في الطريق، نشتري منه ليمونة بفلسين، نضغطها حتى تكتسب رخاوة بين أصابعنا، ثم نحدث فيها ثقبا فينفجر منها العصير مثل نافورة، نمص عصيرها الحامض ونحن في طريقنا إلى المدرسة، أو نحتفظ بها للفرص بين الدروس."
وتمضي الكاتبة (سالمة صالح) بنا في دروب الطفولة مثلما في دروب الكتابة الأليفة والمدهشة، فتحكي لنا الكثير الكثير، ومنه حديث "السنونوة" الذي تقول فيه مما تقول: "انعقدت بيني وبين هذا الطائر الذي ظننته نفورا صداقة ما كنت أنتظرها. أصبح يتبعني وأنا أصطاد له الحشرات. ثم أني خفت على سنونوتي من القطط فاشتريت لها قفصا وضعتها فيه في المساء. وفي الصباح وجدتها تستلقي مفرودة الجناحين، ميتة. ما كنت أعرف أن هذه الطيور الصغيرة التي تبني أعشاشها في الغرف العتيقة، غير قابلة للامتلاك."
هذا هو مسار (زهرة الأنبياء)، ولا مجال هنا للاستشهاد بأمثلة أخرى، بل أن نقول إنه كتاب جميل جميل ولا ينوب عنه شيء سوى قراءته مرات ومرات.
طريق الشعب ، العدد 2 السنة 62، أيلول - تشرين الثاني 1996
أنظر أيضا:
من روائع الأدب العراقي ... زهرة الأنبياء
فائق محمد حسين
في جريدة الجريدة
http://www.aljaredah.com/paper.php?source=akbar&mlf=copy&sid=12177