معنى الحقيقة أو حقيقة المعنى في شعر يحي السماوي

2014-11-01
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/e06dedac-612d-41ba-8ba5-e4ec928cdd73.jpeg
(قراءة إنطباعية)

................................................................
    يمثل يحي السماوي الصوت العالي بين أصوات الشعراء العرب المعاصرين..
وهو سليل مدينة قريبة من السماء تحفل بالمآثر الوطنية والاجتماعية والثقافية، وبطيبة الإنسان وصفائه، لكل هذا فهو يطير بإبداعياته بسماء بلا حدود.
    نجده حين تفرض عليه اللحظة الإبداعية ، لايغفل أن يؤجج بداخلها موقفه الأيدلوجي ، دون عبودية دوغماتية ، حيث يستوعب الإطار الزمكاني للرسالة التي يريد أن يوصلها آخذا ً بنظر الاعتبار الأفق المعرفي للمتلقي.
    لقد كتبت مرة معلقا ً على إحدى قصائده ، بأني كثيرا ً ما يتردد على سمعي ذلك القول لدوناتوس:   ( سحقا ً لمن سبقونا فإنهم قد قالوا أقوالنا.أي لم يتركوا لنا شيئا ًنقوله).
    وهذا القول ينطبق على موقفي الآن بعد أن قرأت الكثير من النقد والثناء على البراعة الشاعرية التي يتمتع بها  شاعرنا يحيي ، فماذا يسعني أن أقول.
    لقد  تسنى لي قراءة إبداعيته الأخيرة (مجموعته الشعرية أطفئيني بنارك) ، والتي وصلتني عبر البريد مرسلة من يديه الكريمتين ، واليوم بعد أن تذوقت تلك الأصالة من الغلاف إلى الغلاف وقد غرب الشاعر بديوانه هذا وشرق بحسه الجمالي الحديث وسماته المميزة للنهوض بالشعر العربي المعاصر. وليجد له استغراقات جمالية تتسع في ضوئها حرفنة الإتجاهات الفنية الجديدة.
    أردت أن أكتشف شيئا ً جديدا ً لم يتطرق له النقاد ويتجاوبوا معه في تأويلهم لنصوص هذا الشاعر المتألق بتميزه وتفرده.
    وقد وجدت في ثنائية الحلم والواقع لديه  باعتبارهما أنبل ما ينبغي الحرص عليه في التجارب الإنسانية العريضة ، بأنه يتماهى ويمتزج مع الحقيقة.
      لاشك وأن جمال الطيور والأسماك يكمن في إحتوائها على حقائق عضوية لازمة للطيران والسباحة ، من أجنحة ممتدة وزعانف تتحرك وذيل يوجّه وشكل انسيابي يخترق بأقل مقاومة من الماء والهواء . وكل المخلوقات العضوية ومنها الإنسان،جميلة لأنها تمثل تجسيما ً وحقيقيا ً ومتكاملا ً مع وظيفتها وبيئتها . والنظام الكوني لم يلجأ إلى الخداع والتمويه إلا في أمثلة قليلة في الدفاع عن النفس.وتعد الحقيقة من القيم التي تمس الشاعر الملتزم والمبدع وترتبط به كإنسان،وتنعكس عليه كمبدع ومتلق ٍ.فالإنسان الشاعر(يحيي السماوي) الراصد لمواقف الحياة وتفاصيل الأشياء لطبيعته يحب الحقيقة ويكره التكلف والزيف والخداع. ومن ثم فالحقيقة لديه سمة أخلاقية طبيعية ، وهي لازمة لشعوره كمبدع مرهف الحس بالأمان ، وإظهار الحقيقة لا يهدف بالطبع إلى استعراض أخلاقه كمبدع ، وإنما يهدف إلى الوصول للتأثير الفني والحسي والفكري المناسب على المتذوق والمتلقي لإبداعه..والتعبير عن الحقيقة وتأكيدها،هو أقصر طريق للوصول إلى التعبير المتوائم عن العمل الإبداعي ذاته.وسماع النبض وهو يخفق من قلب كبير بسعة قلوب كل الناس في أبيات قصائده المصبوغة بأكثر من هيئة وشكل.
   فهو يحاول أن يخلق حقيقة للمعنى ما يزال في عتمات العدم ووسيلته في الخلق هي نفسها الطرائق التي يفتشون عنها النقاد ،ل كنها عنده تأتي بعنوان الأدوات المنتجة لمعنى الحقيقة.
ففي قصيدته المعنونة  عيناي نائمتان،وكأنه طيرٌ يرفرف فوق غصن ميت..يتحرق كيف تخذله الفصول ليقول بكل معاني الحقيقة:..  
(فـخُـذي بأمـر ِ خُـطـايَ ..
هـا أنـذا أتـيـتـكِ 
رافِـعـا ً قـلـبـي عـلـى ضـلـعـي :
أســيــفـا ً ..
خـاشِـعـا ً ..
مُـسْـتـسـْـلِـمـا ً ..
تـعِـبَـتْ خـيـولـي مـن حـروبِ مـتـاهـتـي ..
كـلُّ الـمـعـاركِ خـاسِـرةْ
 
إلآ انـتـصـاري حـيـن يـقـتـلـنـي هـواكِ ..
فـألـتـقـيـكِ 
عـلـى سـريـر ٍ مـن زهـور الـتـيـن ِ والـرّيـحـان ِ
يـومَ الآخـرةْ)
 وأما في قصيدته التي بعنوان محاولات فاشلة فإنه يصرخ متفاخرا ً بالنتائج الوخيمة التي خذلته ليقول في المقطع الثاني من القصيدة :
 
(جـرّبـتُ أشـطـبُ مـن كـتـابِ الـقـلـبِ :
بـاديـةَ الـسـمـاوةِ ..
والـفـراتَ الـمُـجـتـبـى ..
ومـآذنَ الـلـهِ الـنـخـيـلْ
 
والـكـوخَ والـفـانـوسَ ..
تـنّـورَ الـصّـبـاحِ ..
وطـاسـة َ الـلـبـنِ الـخـضـيـضِ ..
ونـخـلـة َ الـبـرحـيِّ وسْـطَ الـحـوشِ ..
والـفـقـرَ الـجـلـيـلْ 
 
فـنـشـرتُ أشـرعـتـي
وأبْـدَلـتُ الـلـسـانَ بـغـيـرِهِ ..
غـيّـرْتُ أثـوابـي .. 
وأبْـدَلـتُ الـسـواحـلَ بـالـسّـواقـي ..
والـمـراقـصَ بـالـمـآذنِ ..
والـكـمـنْـجـةَ بـالـهـديـلْ  

جربت يوما                                                                    أن أمسد غير جذعك ..
أن أمشط غير سعفك..
أن أشم سوى رحيقك..
فانتبهت إلى يدي حجرا ً
وكأسي خمرها الغسلين 
والزقوم في صحني 
وحقلي دون عشب 
ورأيت قلبي يستحي مني..
فيا سبحان غارس جذرك الضوئي 
في بستان قلبي!) 
وعندما يستمر في الإنغمار بالوهم اللذيذ في قصيدته المعنونة الوصول إلى اليابسة ، ليقول بكل صدق وهو يصوغ من اللغة وطاقاتها التعبيرية ألوانا ً من معاني الحقيقة التي تتصف بالتوتر الانفعالي والدهشة الذهنية والجاذبية الجمالية:..
( حـيـن اسْـتـبَـدَّ بـمَـوجِـهِ الـطـوفـانُ 
وانـفـتـحَـتْ مَـرازيـبُ الـغـيـوم ِ 
وعَـرْبَـدَ الإعـصـارُ 
وابْـتـلـعَ الـظلامُ الـشّـمـسَ .. 
والـقـمَـرَ .. 

الـنـجـومَ .. 
كـأنّ يـومَ الـحَـشْـرِ بَـكّـرَ بـالـنّـشـورِ 
فـأخـرَجَـتْ أحشـاءَهـا الـحِـمَـمُ الــسَّـجـيــنـةْ
 
غـاصَـتْ جِـبـالٌ
كـنـتُ أحْـسَـبُـهـا الـدَّريـئـة َ
والـمَـلاذاتِ الـحَـصـيـنـةْ
 
جَـفَّ الـصُّـراخُ عـلـى فـمـي ..
والـدَّمْـعُ جَـفَّ ..
وفَـرَّ هُـدْبـي نـافِـرا ً وجـهـي ومُـنـتـبِـذاً جـفـونَـهْ ..
 
فَـصَـنـعْـتُ أضـلاعـي
سَــفـيـنـةْ
 
 
 
أطـلـقـتُ قـلـبـي ..
وانـتـظـرتُ ... فـلـمْ يَـعُـدْ !!
خـارَتْ قـوايَ
وكـدتُ أرمـيـنـي إلـى حـيـثُ الـقـرارُ ..
فـصـاحَ " صـوفـائـيـلُ " بـيْ :
إنـهَـضْ وغُــذِّ الـنَّـبـضَ
نـحـو
ظِـلالِ نـخْـلـتِـكَ الأمـيـنـةْ
 
وأقِـمْ حَـضـارتَـكَ الـجـديـدةَ
حـيـثُ لا مـاءٌ سـوى الـصّـلـواتِ ..
لا خـبـزٌ سـوى الـقُـبُـلاتِ ..
لا حـربٌ سـوى حـربِ الـمـحـبـةِ والـضّـيـاءِ
عـلـى الـدّيـاجـي والـضَّـغـيـنـةْ
 
فـانْـشُـرْ تـعـالـيـمَ الـحَـمـامَـةِ والـغـزالِ الـحُـرِّ
فـي
الـوطـن ِ الـرَّهـيـنـةْ !)
  أخيرا ً أجده وفي رقة من العنف كمظهر من مظاهر التصرف المتحضر لديه فهو شاعر ينزع إلى البحث والتفاعل مع الأصالة الشعرية ، ودون أن يوجه جلُّ إهتمامه إلى ألوان التجارب الشعرية وموجات ما بعد الحداثة والسوبر حداثة بل أنه راح يتخذ من محاكاة الأدب العربي الراقي محكا ً لإختيار قدراته ومواهبه حد أن يكون ذلك طريقا ً للتحدي والمنافسة.





 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved