معاناة المُعوّقين عبر التأريخ والهندسة السلوكية المطلوبة

2009-10-05

تُشير المصادر التاريخية إلى معاناة المعاقين في جميع العصور الماضية من نظرة المجتمع السلبية نحوهم، ومن جراء القوانين والقواعد الظالمة التي جعلت منهم هدفاً للتنفيس عن النزعات العدوانية في المجتمع بشكلٍ أو آخر، نتيجة للخوف والجهل من جهة، ونقصان المعلومات من جهة أخرى، فقد حصلت مآسي تعرّضت لها بعض فئات المعوقين، وبعض ذويهم وأقربائهم، فقد أرجع الناس من قديم الزمان شذوذ تكوين المخلوقات إلى قوى غيبية، أو تصورات غير منطقية، فأقدم تسجيل لمثل هذه الحالات ما ورد على لوحٍ فخاري اكتشف في بلاد ما بين النهرين (العراق)، يرجع تأريخه إلى حوالي ألفي عام قبل الميلاد، أي في عهد آشور بانيبال ملك نينوي، وفيها ذكرت بعض حالات شواذ المخلوقات وما صاحب ولادتها من أحداث اعتبروها نذير شؤمٍ بمقدمها إلى الحياة، أو هي دلالة على غضب الآلهة، ولهذا كان من عادة القدماء أن يقتلوا كل وليد يجيء بشيءٍ شاذ في جسمه، وأحياناً ما يحكمون بالموت على أمه، ظناً منهم أنّ ذلك إرضاء لآلهتهم الغاضبة.

ودائماً ما كانت الإعاقات (كالعمى، والقصور،...) مرتبطة في العصور الأولى بغضب الآلهة، وإن الرجوع إلى الميثولوجيا الأغريقية والرومانية والجرمانية والسلتية، يُساعد الدارس على الوقوف على مئات الأساطير من هذا النوع. وكان العمى بصفةٍ خاصة مرتبطاً بانتقام الآلهة التي حرمت عبدها من نورها ومن التمتع بجمال كونها، نتيجة فواحش ارتكبها أو قربان لم يقدمه لها. أما الإعاقة الذهنية فكانت مرتبطة بعالم الشياطين.. لذا تحتّم أن يُبعد ذو الإعاقة الذهنية من عالم الإنس.

كانت كل فئات المعوقين منبوذة من المجتمعات القديمة في أوروبا، وقد ظلّت هذه النظريات المتعلقة بالإعاقة سائدةً حتى منتصف القرون الوسطى، حيث كانت الكنيسة تقول بأن المرض بجميع أنواعه قصاصٌ على ما اقترفه الإنسان من ذنوب، وأنّ الإعاقة تقهقر فكري تضعف فيها الروح وتُسيطر عليها المادة.

لقد كانت مواجهة الإنسان للمشاكل منذ فجر التاريخ تكسوها مسحة من التحليلات الخارقة للطبيعة، فكان ينظر إلى المعوّقين على أساس أنهم فئة شاذة، ولذا وفقاً لقاعدة البقاء للأقوى، فقد كان هؤلاء يتعرّضون للموت تحت وطأة الظروف المناخية الصعبة، أو بسبب عدم قدرتهم على مواجهة أعدائهم والتغلّب عليهم.

وإذا عدنا إلى الوقت الذي عرف فيه الإنسان القديم التنقّل والترحال في جماعات بحثاً عن الطعام، فسنجد بأن معظم المعوّقين، بحكم إعاقتهم، كانوا غير قادرين على المساهمة في نشاطات جمع الثمار وعمليات الصيد والقنص ورعي الحيوانات أو الدفاع عن أنفسهم أو أفراد مجموعتهم، وبالتالي فإنهم لم يسلموا من أذى معارفهم وأعدائهم على السواء. وحتى عندما ظهرت بعض الاتجاهات المنادية باعتبار المعاقين فئة تحتاج إلى العلاج، وكان ذلك في بداية التاريخ، فقد كان التشخيص يعتمد على تعريفات أدت إلى نكبة المعوقين أكثر مما عملت على توفير العناية لهم، إذ كانت التعريفات ترد بشكل أوصاف منفردة تتعلق بتقمّص الجن لبعض الأجساد أو لحلول لعنة الآلهة على من وقع عليهم الغضب، مما أدى إلى تحوّل تلك التعريفات في العصور الوسطى إلى مفاهيم تشاؤمية ساهمت في إعداد عقول مواطني تلك الحقبة من الزمن لتقبّل فكرة التخلّص من المعوقين تحت ستار محاربة السحر ومطاردة السحرة.

ولم يكن حظ المعوّقين في العصر الإغريقي أفضل منه في العصور السابقة، إذ نادى أفلاطون بوجوب التخلّص من الأطفال المعوّقين عن طريق قتلهم للمحافظة على نقاء العنصر البشري في جمهوريته، أما في أسبارطة، فقد طغى على أهليها الاتجاه إلى اعتبار الأطفال من سقام الأجسام غير صالحين للقيام بأي عمل، ولا يبعثون على فخر أولياء أمورهم بهم، بالإضافة إلى ثقل أعبائهم ومتطلباتهم على والديهم وأسرهم، ولذا عمدوا إلى حمل الطفل بعد مولده إلى مكانٍ معين، حيث يتم فحصه بمعرفة شيخ القبيلة وأكبر أفراد القبيلة سناً، فإذا وجدوه قوي الجسم ومتناسق العضلات والتكوين أمروا بتربيته وتعليمه، وبمنحه قطعة مخصصة له من الأرض. أما في حالة ضعف الطفل وسوء تكوينه أو إعاقته، فقد كان يُلقى به إلى مكانٍ سحيق بقاع الجبل، نظراً لأنه يُمثّل عبئاً على نفسه وغيره من جهة، ولأن الطبيعة (الآلهة) قد حرمته من القوة وجمال التكوين. ولكل هذه الأسباب مجتمعة، فلم تكن الأمهات يغسلن أطفالهنّ بالماء بعد الولادة، وإنما بالنبيذ لتجريب طبيعة جسمه، ظناً منهنّ بأنّ الطفل السقيم أو المُصاب بالصرع سوف يغرق ويموت بفعل التجربة، في حين يزداد الطفل السليم صحةّ وقوة، ويذكر بعض المؤرخين إلى أن كثيراً من التقارير تؤكد على أنه كان يتم التخلّص من المعوقين بالقتل في أسبارطة، كما كان يتم قتل الصم بأثينا، والتخلّص من المعوقين ذهنياً إما بالقتل أو النفي خارج المدينة.

أما في العصر الروماني، فقد بقى مصير المعوقين بيد شيخ القبيلة، الذي كان بيده وحده تقرير مصائرهم اعتماداً على درجة تقديره للإعاقة وعلى ما تحتاجه من خدمات اقتصادية أو اجتماعية، ولذا فلم يكن هناك قاعدة ثابتة يُمكن الرجوع إليها في التعامل مع مختلف حالات الإعاقة. ويُشير بعض الكتاب إلى أنه كان يتم التخلّص من المعوقين عن طريق إلقائهم في الأنهار أو تركهم على قمم الجبال ليموتوا بفعل الظروف المناخية المتعاقبة.

وتُعتبر العصور الوسطى بأوروبا بما صحبها من مظاهر الجمود الفكري، وطمس الأفكار المعارضة لاتجاهات رجال الكنيسة عصر نكبة حقيقية للمعوقين، إذ عملت محاكم التفتيش على اضطهادهم وإيذائهم بدعوى تقمّص الشياطين لأجسادهم، وبذلك فقد أصبحوا صنائع للشيطان. كما عمدت إلى اتهام بعضهم بممارسة السحر، مما جعلهم عُرضةً لأبشع صنوف التعذيب الذي كان يُفضي إلى الموت بإحدى الوسائل المتعددة والمعروفة في ذلك العصر.

وهنا أود أن أُشير إلى أن بعض الأنظمة الغربية في القرن العشرين (كالنازية الألمانية مثلاً) سعت إلى التضييق على المعوقين ومعاملتهم على أساس أنهم عناصر غير مرغوب في وجودها عن طريق القتل (إباحة الإجهاض، أو الإجبار عليه)، أو العزل أو التعقيم لمنعهم من الإنجاب على اعتبار أنهم من العناصر التي لا تستحق الحياة.

ومع تقدّم الحياة، وفي وقتنا الحالي، فقد انتصرت النظرة الإنسانية، إذ عمل المفهوم الحديث لمكونات الشخصية وما توصّل إليه العلماء من معلومات عن طبيعة الإعاقة وأسباب حدوثها إلى تغيير الإتجاه نحو المعوقين، مما أدى إلى القضاء على الأفكار القديمة التي كانت ترى فيهم صنائع للشيطان، حيث بدأ الناس في العصر الحديث يهتمون بقضايا المعوقين وضرورة توفير الخدمات اللازمة لتحقيق فكرة المساواة الكاملة والاندماج الكلي في المجتمع، وذلك بعدما انمحت الفكرة التي سادت أوروبا في العصور الوسطى، والتي كانت ترى أن مجيء وليد به بعض الشذوذ في الخِلقة، يرجع إلى تدخّل الشيطان أثناء عملية الجماع.. فمِن الناس من أرجع الشذوذ في الخِلقة إلى تلوّث في نطفة الرجل، أو إلى أثر الكواكب والنجوم أثناء عملية الإخصاب، أو إلى هواجس أو تصورات رديئة تتعرض لها الأمهات أثناء الحمل.

وأصبحنا نشعر في يومنا هذا بأن الإعاقة سواء كانت حسيّة أو نفسية فهي لا تخلو من التأثير في نفسية الفرد وسلوكه من ناحية، وعمل المحيطين به من قريبٍ أو بعيد من ناحيةٍ أخرى. ولا يقف تأثير الإعاقة عند هذا الحد، ولكنها تستدعي من البيئة الاجتماعية المتمثّلة في الأسرة والمؤسسات المجتمعية والمجتمع ككل اتخاذ خطوات معينة لمقابلة ما تتطلبه قدرة التعامل مع كل نوعٍ من أنواع الإعاقة المختلفة. ففاقدوا القدرة العقلية يختلفون حتى فيما بينهم تبعاً لأسباب الاضطراب وطبيعته، وسواءٌ كانت أسبابه عضوية أو وظيفية. فالأسباب العضوية قد ترجع إلى أسباب تكوينية، وقد تكون طارئة كما قد تكون نفسية أو بيئية.

وقد برز تخصص جديد ضمن الأتجاهات الحديثة لإحتواء المعوقين و إحتظانهم ، يسمى بالهندسة السلوكية ، والتي تؤهل المتخصص به ليشارك في التخطيط لتعديل سلوك المعوق لكي يكون أكثر توافقا مع البيئة المحيطة به من جهة وعلى العمل لتهيئة البيئة لإحتواء هذا المعوق ، ومقابلة متطلباته من جهة أخرى. ولن يتم للمهني بهذا الإختصاص تحقيق ذلك . دون إحاطة تامة بماهية وإحتياجات هذا المعوق او ذاك ، وطرق التعامل مع كل حالة على حده والمعرفة التامة بأساليب الهندسة البيئية

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved