بدا مشهد الحرب والرعب والقلق والآمال، وقد اطبق على ذلك الحوار العجيب الذي ضمني الى الملحن والمغني والمؤلف الموسيقي رائد جورج، في بيته بمنطقة الدورة ببغداد، ذات مساء حار وتحديدا في 6/8/2003 ، وكان شاهدا على جزء منه، الزميل والصديق الكاتب والناقد فلاح المشعل .
وكان الفنان جورج عاد من مقر اقامته في الولايات المتحدة الى بيته قبيل فترة من اندلاع الحرب على بلاده، وشهد فصولا من أهوال تلك الحرب ورعبها، وما أنتجته من أسئلة مخيفة عن راهن البلاد ومستقبلها إنسانيا وثقافيا .
الحوار بدأ باستعادة علاقة شخصية ضمتني الى صاحب الالحان والموسيقى التصويرية، بدأت منذ العام 1993، وتواصلت من خلال اقامة جورج المؤقتة في عمّان قبيل سفره للإقامة في اميركا، ومن ثم بغداد مجددا، التي وصلها هو قبيل أيام من الحرب وانا بعد اسبوع من نهاية سلطان موتها الأوحد .
واذا كان الحوار بدأ "مشرقا" مع اضاءة غامرة وتكييف لحرارة المكان، الا انه تواصل لاحقا في عتمة وحرارة خانقتين، اثر انقطاع التيار الكهربائي.
الحوار الذي جاء معفّرا أحيانا بغبار الحرب وظلامها، ضاع لنحو 12 عاما بين ثنايا ارشيفي المتجول معي بين عشرات المنازل والامكنة من الشرق الاوسط حتى اميركا وبالعكس، حتى عثرت عليه أخيرا، وانا أكاد انتهي من كتابي عن سبعة عقود من النغم العراقي المعاصر .
علي عبد الأمير: لاحظت لك صورة تعزف فيها وانت بكامل وسامتك، وقد أخترت خلفية هي عبارة عن مشهد من الخراب، هل ترى في ذلك تعبيرا عن ذاتك، بمعنى ان لديك القدرة على ان تمنح امكنة مخربة ملامح من الحياة ؟
رائد جورج: نعم، هذه هي الفكرة من ذلك، لقد إختار المخرج هذه الخلفية لإضفاء طابع الخلق لحياة جديدة، وفي ذلك رمز لحياة العراقيين في الوقت الراهن.
علي: ما حكاية هذه الصورة؟
رائد: تمثل هذه الصورة الـ (سبوت) الذي قمنا به للإتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر العراقي. وقد إخترنا هذا المكان المخرب بسبب الحرب، ليكون رمزاً لإمكانية إعادة الحياة من جديد للعراق .
علي: وصلت إلى البلاد وهي على أعتاب مرحلة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها مرحلة خطيرة، ولا نبتعد عن الحقيقة عندما نقول أنها مرحلة دموية ومرحلة عاصفة، كيف يمكن لك كموسيقي وكإنسان أن تتعامل مع هذه المرحلة وكيف يمكن لك وأنت مرتبط بهذا المكان بحيث انك غادرت مكان كان مفترض ان يوفر لك الراحة وجئت إلى مكانك الأول مهجوساً بهواجس عدة، كيف تقرأ قدرتك كموسيقي على تفسير هذا الإرتباط بالمكان ؟
رائد: صحيح انني كنت في خارج البلاد، ولكنني في نفس الوقت كنت بجزء كبير مني أعيش في العراق حتى ترى أن اغلب أعمالي كانت تتحدث عن العراق، وقد عملت مؤخراً لتحضير عمل خاص عن العراق سوف يأخذ طابعا كلاسيكيا ممتزجا بالشرقية، وهو عمل متنوّع أيضاً وبالحقيقة فأن العمل يحاكي سمفونية بتهوفن "سمفونية البطولة"، وهي السمفونية الثالثة . أرى في هذا العمل أن الخلاص الحقيقي للعراق يكمن في وحدته الوطنية، ولذا فأنا في صدد إدخال مقاطع من جميع مناطق العراق في نهاية العمل ليغطي مساحات واسعة من العراق، من المنطقة الكردية ومن الوسط والجنوب والصحراء الغربية .
علي: من المتعارف أن اي بلد دخل في مراحل دمار كالتي مرّ بها العراق، تميل لاحقاً التجارب الفنية والثقافية إلى نوع من العدمية وتظهر تيارات عدمية نابعة من إحساسها بالدمار واليأس، هل تعتقد انك كموسيقي قادر على أن تبتعد عن هذه العدمية وتحاول رسم ملامح جديدة، وهل تتوقع انه ثمة امل في عمل ما ؟
رائد: نعم، انا اتوقع أنه ثمة أمل كبير في تطور الموسيقى العراقية لأننا كعراقيين نتملك إمكانات كبيرة جداً سواء في الأدب أو الفنون المختلفة وبضمنها الموسيقى طبعاً . أما بالنسبة للتيارات العدمية التي أعقبت إنتهاء الحرب العالمية الثانية والتي توالت أنواعها كالدادائية والسريالية، فأنا أعتقد أن دورنا كموسيقيين عراقيين هو ان نلم شمل الكتنوقراط الموسيقي إن جاز التعبير. حيث أن لمثل هذا التجمّع أن يقود حركة الموسيقى في العراق، خصوصاً في ظل التطورات المتوقع ان يشهدها العراق والتي يُراد بها أن يكون العراق النموذج للمنطقة جمعاء. الإمكانات متوفرة في شباب عراقيين، ولنأخذ على سبيل المثال الفرقة السمفونية الوطنية العراقية، نرى أن شباب هذه الفرقة راحوا يبادرون في التطوّع في أي عمل يخدم الموسيقى في العراق وقد لاحظت أنهم ما أن علموا بطلبنا بأن يشاركوا في "السبوت" الذي تكلمنا عند قبل قليل، حتى أتوا متطوعين للمشاركة وهنا أود أن اضيف أني كنت قد تكلمت مع مدير الفرقة الأستاذ هشام شرف بغرض الإتقاق على أن تقوم الفرقة السمفونية الوطنية العراقية بتقديم نتاجات عراقية وأن لا يكون دورها مقتصرا فقط على تقديم الأعمال العالمية الكلاسيكية.
علي: على هذا الاساس، هل تعتقد ان الصبغة المميزة للموسيقى العراقية هي صبغة شرقية بحيث لا يمكن إخدال تعديلات عليها بحيث تصبح قابلة أيضاً لأن تتجه نحو الشكل الغربي، أو أنها يجب أن تبقى محافظة على الشكل الشرقي وعدم الخروج عنه؟
رائد: هناك أناس يحافظون على الاصالة والطابع العراقي التراثي في الجانب الموسيقي ودورهم تاريخي في الحركة الموسيقية في العراق، ولكنني ارى انه يمكن لفنوننا ان تتصل بالعالمية عبر حوار مع الحضارات. وأنا شخصياً أعتقد أنه إذا ما أردنا تقديم شيء للغرب، فعلينا تقديم شيء من العراق أي بمعنى أن يكون ذات طابع تراثي عراقي شرقي، كيما نمثّل المنطقة الجغرافية التي نحن منها، على أن يتم هذا وفق قواعد التأليف الموسيقي العالمية وليس الغربية فقط، فنحن نتحدث عن موسيقى عالمية وليست غربية، بدليل أنها موسيقى إنسانية نمت وتطور مع تصادم الزمان والحضارات، حتى أصبحت ذات سمة إنسانية وهنا تكون الموسيقى حواراً للحضارات.
علي: هل تتوقع من مهام الموسيقي الآن خلق مساحة من الرومانس في حياة الناس في الوقت الذي تضيق هذه المساحة ولأسباب كثيرة.
رائد: انا أؤمن انه الآن لو قمت بتأليف شريط رومانسي كامل سوف يلاقي نجاحاً أكبر من كثير من الاشرطة المطروحة حالياً والتي هدفها ترفيهي كالرقص وما إلى ذلك. تتذكر عندما بدأت أنا والفنان إسماعيل الفروه جي والفنان عادل عكلة مشوارنا الفني كانت هناك مجموعة من الأغاني الرومانسية والتي لاقت نجاحات كبيرة. واستطيع القول بأن اغلبية اغنياتي ذات طابع رومانسي وأغنية "لا ترحلين" كانت واحدة من أهم أعمالي الفنية ذات الطابع الرومانسي والتي لاقت قبولاً واسعاً عند الجهمور. وكما تعرف فإن الرومانسية كحركة فنية بدأت بالأدب والفنون الأخرى حتى وصلت إلى عامل الموسيقى. لو أخذنا على سبيل المثال الموسيقار بتهوفن، نرى أنه اول من أرسى قواعد الموسيقى الكلاسيكية وبدأ ينطلق تدرجياً نحو الرومانسية حتى أن الرومانسيين إتخذوه معبوداً لهم في هذا اللون من الوان التأليف الموسيقي. ثم أتى شوبرت ومجموعة بعده خرجت عن إطار التأليف الكلاسيكي حيث بدأوا بالعمل ضمن مساحات من التأليف الموسيقي غير خاضعة لقواعد الهاروموني الكلاسيكي. أما في العالم العربي فأنا شخصياً أعتبر الراحل عبدالحليم حافظ مثالاً لي في الرومانسية، بينما عند مقارنته مع الفنان الراحل صباح فخري نرى أن صباح كان مؤدياً أو مطرباً ولكنه لم يكن رومانسياً بقدر ما كان فنان طرب. وهنا لا أقصد فقط إداء الفنان بل أيضاً آلات العزف والتوزيع الموسيقي وما إلى ذلك من هيكلية التأليف الموسيقي.
علي: في هذا النطاق، هل ترى ان هناك حرية في أشكال التأليف؟ ولا وجود لشئ يمكن إعتباره مقياساً للتأليف؟
رائد: نعم، اعتقد ان هناك حرية في الـتأليف الآن، حيث ان قواعد التأليف القديم الكلاسيكي لا يُعمل بها اليوم، حيث ترى ان التأليف الموسيقي في العالم الآن أبعد من أن يكون خاضعاً لقاعدة أو مدرسة هارمونية معينة، وإنما يتم التأليف ضمن مساحات تغطي كل ما يكون مستساغاً للأذن البشرية وذات صفة جمالية حتى وان لم يخضع لقاعدة هارمونية معينة، ولكن هذا بطبيعة الحال لا يعني إهمال دراسة القواعد التأليف الكلاسيكي بل على العكس، كما ان هذا لا يعني أيضاً عدم وجود إطار عام للتأليف الموسيقي في العالم اليوم.
علي: لو إعتبرنا هذا واقعا متحققا على الارض، إذا قلنا أن رائد جروج كان ملحناً ومؤدياً ومغنياً ومؤلفاً موسيقياً، لكنك كنت تؤدي اللحن كمؤلف موسيقي، هل يعنى هذا أنك تجد نفسك ضمن إطار التأليف الموسيقي؟
رائد: نعم، هذا صحيح، فقد وجدت نفسي في السبعة أعوام الأخيرة في ميدان التأليف المويسقي حتى أنني تركت العزف، فكما تعلم على العازف التمرّن لساعات طويلة يومياً وأن يكون ذلك بإنظمام لمدارس العزف. وبالحقيقة فأن هناك ثمة سبب وراء تركي للعزف اهمها انني لم أرد أن أتحوّل إلى عبد للآلة يطبّق المتوفر فقط. ولو أخذنا مشاهير المؤلفين الموسيقيين في العالم أمثال بتهوفن وموزارت وباخ فإنك تجد أنهم كانوا مؤلفين خلّاقين أكثر من كونهم عازفين مهرة.
علي: في قراءتك للموسيقى العراقية، يبدو أن الغناء هو الحاضر بقوة على حساب الموسيقى الصرفة؟
رائد: نعم ولهذا تجد أنني إنصرفت إلى الغناء في السابق كي أضمن وصول موسيقاي للناس، حيث أنني لو كنت قد قدمت موسيقى مجردة لكان قلة من الناس سمعوها وهذه حقيقة قديمة، فلو أخذنا مغني الأوبرا في أوروبا نرى أنهم المسيطرون على الساحة، وهنا في العالم العربي ترى ان للكلمة أثرا أكبر على اللحن، بينما يراد للموسيقى ان تكون فنا مجردا يدخل الاذن بدون الحاجة لأي حرف.