كان جسد المرأة على مر العصور، وحياً وإلهاماً للفنانين والشعراء، نحتوا له أجمل الأعمال، رسموا له أجمل اللوحات، نظّموا له أجمل القصائد .
ألمرأة هي صاحبة المكانة التي أعطاها إياها الفكر والفن والإبداع، المرأة هي شاعرة، هي مفكرة هي أديبة، هي رسامة وموسيقية ومغنية، هي أم ومربية، ومثل أعلى لكل طفل، وسند لكل زوج، ونجاح لكل عائلة، هي امبراطورة المهام الصعبة التي أوكلها إياها المجتمع، هي من تهز المهد بيد وتهز العالم بالاخرى ...
في جسد المرأة سر الخلق والإبداع، وكيانها يفرض في المجتمع هيبته، إصرارُها يسند ضعفَه، ومكانتها تتجاوز حدودَ الكلمات، لكن يبقى السؤال الأهم، هل المرأة كيان أم جسد ؟ ...
من هنا ... ومن رحم هذا التساؤل، انطلق المعرض الذي حمل "ما وراء الجسد" عنواناً، المعرض الذي كانت فيه الفنانة زينب شعبان منظمة، مصممة ومشاركة، كان الإفتتاح يوم 18 10 2018 بمشاركة سبعة من فنانات الإغتراب :
امل الركابي، أفانين كبة، زينب شعبان، فائزة البيروتي، رانيا سعد، سمر طارق، گايا الخالدي .
شاركن بأعمال، حاولن من خلالها ترجمة مفهوم ما وراء الجسد، كلٍ حسب طريقتها وإسلوبها وملكتها بالتعبير باللون والفرشات وما استطاعت من مواد ...
كانت زينب شعبان كالفراشة تتنقل بين حشد الحاضرين، لكنها مع ذلك وجدت الوقت كي تجيبنا على سؤالنا :
* لماذا اخترت "ما وراء الجسد " عنواناً للمعرض ؟
أجابت :
"الحب لا تحدده جغرافيا جسد المرأة"
نزار قباني
هنالك بيت شعر استهواني كثيرا منذ بداية فكرة تشكيل المعرض، للشاعر الكبير نزار قباني " الحب لا تحدده جغرافيا جسد المرأة " هذا البيت استوقفني كثيرا بالمعنى العميق الذي يعنيه، وهو ان المرأة ليست فقط جسد، أو متعة أو إغراء وإنما هي شريكة حقيقية مع الرجل في بناء أي مجتمع، هي روح، وعقل، وفكر، ومدرسة كبيرة تساهم في تكوين المجتمع . ومن هنا جاء إسم المعرض ما وراء الجسد ، ولأول مرة يقام معرض فني تشكيلي مستوحى من أَشعار نزار قباني، وبما أن أشعار نزار قباني أصبحت مغناة، فالفكرة هنا أن تصبح أشعاره مجسمة في لوحات فنية، أيضاً .
وأما عن أَعمالي المشاركة في هذا المعرض، فكانت كلها مستوحاة من هذا البيت فعبرت عن مشاعري كإمرأة، عن ماهية دورها كما في لوحة ( ما وراء الجسد )، وأيضا معاناتها ونضالها في العمل النحتي كما في ( استراحة مناضلة ) وبأحلامها وتطلعاتها وآمالها في لوحة ( الكون في عيون امرأة ) وتاريخيا بليالي شهرزاد وشهريار، وكيف سهرت شهرزاد الليالي لتُلهي شهريار عن عدم قتل زوجاته وهذا يتجسم في لوحة ( الف ليلة وليلة ) .
* سألت السيدة شذى عبد الكريم ( عراقية تقيم في مونتريال )
ماذا يدور في ذهنك وانت تسبحين افتراضياً بين هاته المعروضات ؟
أجابت :
متمردةٌ .. تبتسم في غموض .. تهدئ روعها .. تلتقط الود وتغزل منه نجوماً ورديه، ترسلها لتقبل قمر السماء، تزيح من طريقها الأَحجار .. ترتقي الصعاب تتسلق الازهار .. بشعاع خدها المخملي، وبأناملها تلون، فيشرق ليلها نهاراً، هذا أحمرٌ قرمزي وذاك بنفسجي ... قد تنهزم مرة وتستكين، لكنها تواصل ... فخيالها لا ينضب والأَلوان كثار، أصفر .. أخضر .. وفي خاطرِها صبّْاغ يحاكي توهجها ...
هنا مونتريال، ولكن هنالك فن عراقي بأنامل عراقيه، جسّدت الفن التجريدي والتراثي والفن الواقعي بأناملِها ... وأنت تجول في معرض المهارات تسبح في عالم لا متناهي من السعادات والبهجه، عالم بلوري التكوين ...
اليوم فناناتنا العراقيات المبدعات ابدعن بما قدمن، شكراً لهن ولكل من شارك من الفنانات، ومني لهن كل الود ..
أمل الركابي هي إحدى المشاركات، ( فنانة عراقية تعيش في مونتريال ) أجابت عن سؤالنا : ماذا عن مشاركتك في المعرض، وهل استطاعت أعمالك ان تجسد فكرة ما وراء الجسد ؟
ما وراء الجسد، حسب مفهومي، إن المرأة ليست جسد بتضاريس فقط، المرأة أُم تحمى وتحن وتربي أولادها، المرأة يدها بيد زوجها في كل متطلبات الحياة، هي عاملة تساعد عائلتَها ماديا على متطلبات الحياة، وكذلك بعملها تثبت وجودها بالمجتمع، وهي مصدر أُنس وراحة وطمانينة لزوجها ...
لوحاتي، تحدثت عن المرأة كمفهوم إِنساني، كعاطفة وحنان وصبر ونضال، كانت وافية للغرض، حسب فهمي للموضوع، وانها أَعطت فكرة رفض تشيئ المرأة واعتبارها جسد لا غير ... ولكن لا أعرف ماذا كان رأي الحضور، هل وصلتهم الفكرة أَم لا، لكل شخص وجهة نظر، يفسر ما يراه حسب تجاربه، ووعيه وثقافته ... أما عن المعرض، فإنه كان ناجحا بامتياز .
من بين الحاضرين كانت الأُستاذة المغربية د. لطيفة حليم، فوجدناها فرصة ان نسألها :
هل جسَّد المعرض مفهوم "ما وراء الجسد" ؟
جوابي عن السؤال، نعم، ففيه كثير من الصدق والنقاء في التعبير.. فلو أخذنا لوحة الفنانة زينب شعبان وعلاقتها بما وراء الجسد، إِنها بوح صريح، إنها تفصح عن الجسد دون مراوغة، وتترك المشاهد يقرأ في ذكاء ما وراء هذا الجسد، إِنه الحب، انه روح شفافة، إِنه حنان إنه تضحية وصبر ... ونقترب من لوحة أَمل الركابي : أمهات عجزة، ودموع نساء تفضح الألم الذي يسود في بلدها العراق .
يتجسد عمل الفنانة افانين كبة، بالبحث عن الجسد المختفي وراء لوحتها الموسومة ب ً البحث . ً إِنه البحث عن الحب الذي يتلاشى داخل جغرافية الجسد، فتحلق بِنَا في شطحات صوفية معلنة انتصار الحب على الرغبة، فتذكرنا بحب قيس ل ليلى . وحب جبران لمي زيادة،
المعرض يجسد انتصار الحب على الرغبة، وهو ما وراء الجسد، المعرض ناجح بامتياز، معذرة لانني لم استطع عرض باقي اللوحات .
الفنانة أفانين كبه ( فنانة عراقية تعيش في مونتريال ) شاركت باربعة أعمال، سألناها :
ماذا عن مشاركتك بمعرض ما وراء الجسد، وهل جسمت اعمالك الفكرة ؟
لوحتي ( البحث ) تعكس مفهوم عنوان المعرض، انه البحث عن الحب الذي لا تحدده جغرافيا جسد المرأة، فعدت الى الوراء منذ خُلق ادم وحواء، وحتى وقتنا الحالي، إن البحث مستمر من خلال الصوفيين المعروف عنهم بممارسة طقوس البحث عن الله، لكن في لوحتي بحث عن الحب النادر ! .
اما اللوحة التي تمثل شهرزاد تشرب نخب الانتصار، لانها استطاعت ان تروض شهريار، وهي تنظر الى السماء وتتخيل النساء اللواتي قتلهن شهريار انتقاما من النساء . هنا جسد المرأة أًستغل من قبل شهريار لغرائزه من غير حب .
في اللوحتين الأُخريتين، جمال روح المرأة سواء أن كانت قروية، أو انها ابنة المدينة، فجمالهما مختلف، لكنه يشع بالحيوية .
ماوراء الجسد موضوع فيه عمق وفلسفة وتحدي، ولم أكن اريد ان أُقدم فيه المرأة كحضور مباشر، لذا استعنت بالتأريخ لأبحث ان كان هذا النوع من الحب موجود ام لا، وأول ما خطر بذهني هو الحب العذري أو الحب الصوفي . فلقد كتب قيس بن الملوح أجمل القصائد في حب ليلى ولم ينال جسدها . ترى هل كان سيكتب لها بنفس القوة لو كان قد تزوجها ؟ أيضا الحب بين جبران خليل جبران ومي زيادة، الذي دام عشرون سنة بالمراسلة فقط ولم يلتقيا أبدا . أَلحب بين أحمد رامي وأم كلثوم الذي كتب لها أَجمل القصائد التي غنتها ، كان حب عذري بعيد عن شهوة الجسد . كذلك روميو وجولييت، وغيره من الأمثلة .
في لوحتي الثانية التي عنوانها ( إلى الذين رحلوا من قبل ) إنها شهرزاد التي تخاطب ضحايا جنون شهريار الذي كان يحمل روح الإِنتقام في قتل نساءه بعد معاشرتهن . أي أنه كان يرى وينظر إلى المرأة على أنها جسد فقط ولم ينظر إلى عقلها وروحها وشخصيتها ولم تأخذه الرأفة والرحمة بهن ولم يستطع ان يحب أية واحدة منهن .
ويستمر البحث عن الحب الذي لا تحدده جغرافية جسد المرأة، وان وُجد فسيكون مكتوب بحبر ذهبي لأنه نادر . هذه الخواطر عشتها وأنا أرسم هاتين اللوحتين، فأنهما من وحي الخيال .
الفنانة رانيا سعد ( فنانة مصرية تعيش في مونتريال ) :
ماهو رأيك بمشاركتك في معرض ما وراء الجسد ؟
سعدت كثيرا بدعوة الصديقة الفنانه زينب شعبان، للإنضمام لمجموعة متميزة من فنانات المهجر . مثل هذه التظاهرات الفنيه تتيح لنا مشاركة أفكارنا ورؤانا والتعلم من بعضِنا البعض . بالنسبة لأعمالي المشاركة في المعرض، أهتممت بتجسيد المعنى غير المرئي لجسد المرأه . ذلك المعنى المطموس خلف عادات ومفاهيم قيدت المرأة وحسرت دورها في مهامها البيولوجية . المرأة في لوحاتي هي كيان كامل يبحث ويصارع من أجل التحقق والإندماج مع النفس والطبيعة . أختلف كثيرا مع نزار رغم إعجابي بإشعاره فقد ركز في تصويراته الشعريه على أنثى الرجل، وجسد كل مشاعرها وصراعاتها وتضحياتها في سبيل الحب . أنا أرى المرأة كطائر العنقاء من المستحيل وصفها كامله في كلمات.. هي كائن المواقف والحالات، هي الطبيعة بكل عطاءها وعنفوانها، طيبتها وجبروتها، ربيعها وخريفها، وحتى في فنائها تتجدد أسطورتها ولا تنتهي ...
كان حضوراً ملفتاً، عدداً ونوعاً، ضاقت بهم قاعة العرض على سعتِها ... وكانت أميرة بغداد نجمة أحلى صوت للأَطفال ( The voice kids ) ميرنا حنا، أميرة بامتياز، حيث أضفت مع المايسترو الرائع مؤيد الخالدي على جو العرض بهجة وفرح أنسى الجميع لبرهة، ما يعيشه عالمنا من انتهاكات وسَحقٌ للإِنسانية، وتَرَبُع قوى الشر على عرش تقرير مصائر الشعوب .
من الشاعرة المغربية لطيفة الغراس وصلتني رسالة هذا نصها :
راسلتني الأستاذة لطيفة حليم حول المعرض المشترك، لفنانات عربيات بمونتريال، ونقلت لي صورا للّوحات المعروضة وكانت مشدودة لبعض هاته اللوحات ومنها لوحة الفنانة أفانين .
كتبت لطيفة عنها ولم تترك مجالا لإضافة .
* لست متخصصة في ميدان الفنون التشكيلية ولكن قد تأخذني بعض اللوحات إلى عوالم تتقاطع مع وسائل إبداعية أخرى، كالشعر مثلا .
كلٌ يعبر بأدواته ولكن المواضيع قد تكون ذات وقع يحملك خارج المكان وتفضي إليك بأسرار المبدع .
تتنوع الدلالات في كل لوحة وفي كل قصيدة وهي تحمل مشاعر ترتبط بمكنون المبدع، وما يشغل باله .
توقفت الروائية لطيفة حليم حول ورودي في ديواني : الحروف الباقية، وتوقفت عند ورود الفنانة أمل الركابي في لوحتها الرائعة : بائعة الورد .
المعرض يحمل تيمة خارج الجسد ولذلك فالمرأة فيه تحمل معاني القيم الفكرية والإنسانية، فالمرأة ليست جسدا فقط ولكنها هي الإنسان بعمق هذه الدلالة .
توقفت عند هذه اللوحة وما تزخر به من إيماءات رسمت بالألوان لتعلن عن جزئيات للورد، بين النوع واللون والعطر وهي تمثل الجمال والصفاء والسلام والحب .
الورد عنوان للمحبة والرحمة ولكنها في لوحة أمل وهي فنانة عراقية تحمل أمل التغيير ويبدأ هذا التمثل للأمل بطبق كان يوما لبيع الخضر وتغير ما يحتويه إلى ورود .
عندما نجعل من الليل البهيم والظلام الحالك رمزا للخوف وغياب الأمان والخوف من اللامرئي، فالفنانة تستلهم الورد ليكون نداء للتغيير وصنع أحلام السلام .
لاشك أنها تخاطبنا بألوان وصور مجسدة الأمل في غد أفضل . وهنيئا لهذه الفنانة ولكل الفنانات العربيات في منتريال .
أضغط ( كلك ) على الصورة للتكبير