لا يذكر المطرب الرائد حضيري ابو عزيز، إلا بكونه صاحب "الورد" الأغنية والأسلوب والظاهرة الاجتماعية، فلطالما كانت أغنيته "عمي يا بياع الورد" سفيرة الروح العراقية الى البلدان العربية، وهي بشكلها " السهل الممتنع" في كلماتها ولحنها، كانت قادرة على ان تؤنس الأرواح لما فيها من صدق وعفوية، بل انها طغت على ما سواها من اغاني الورد مثل "الورد جميل" و"يابدع الورد يا جمال الورد "، واغنية "انا ليلي ونهاري مشغولة بأزهاري"، وصارت لاحقا رمزا لملمح جميل: " الورد الجوري " العراقي.
وكان صاحب الأغنية لمولود في العام 1909 والذي تأثر في طفولته بمن سبقوه من مطربي الريف مثل "ملا جادر" و"غريري "، عرف بحلاوة الصوت وجلائه ونقائه، وارتحل الى مدينة الناصرية ليعمل مع ابن خاله في محل للخياطة، غير ان الخياطة لم تحقق له مبتغاه، فانتمى الى شرطة الخيالة بصفة" شرطي سائس"، وكان يردد الاغاني الشائعة في تلك المرحلة خلال نوبات عمله، مما جلب انتباه زملائه من الشرطة وعلى رأسهم مدير المركز فأرسل بطلبه قائلا له: "يا حضيري ان وزارة التربية في بغداد والمسؤولة عن اذاعة بغداد تطلب أصواتا ريفية جميلة فلماذا لا تذهب الى بغداد وتغني هناك ؟". وجد حضيري في تلك الدعوة "فرصة لتحقيق أمنية النفس العزيزة".
وعند افتتاح اذاعة بغداد سنة 1936 كان صوت أبو عزيز ( حضيري حسن إرهيف ) من الأصوات الأولى التي انطلقت من تلك الاذاعة، فيما تكونت لجنة القبول من عدد من اعلام الغناء في العراق بينهم : رشيد القندرجي وسيد جميل البغدادي وافراد فرقة "الجالغي" البغدادي . وتكاد تجمع الصحف الصادرة في بغداد تلك الحقبة، على ان انطلاقة ابو عزيز، تؤرخ بداية انتشار الغناء الريفي في العاصمة العراقية .
وكان المطرب الريفي ناصر حكيم، قد سبق حضيري في الوصول إلى أوساط الموسيقى والغناء في بغداد، ودعا حضيري إلى مقهاه في منطقة "علاوي الحلة "التي كانت مركزا لتجمع مطربي الريف وقتذاك - حيث كان يتردد على هذا المقهى الكثير من المطربين مثل عبد الأمير الطويرجاوى، وجخير سلطان، والسيد محمد، وعبادي العماري، وحسن داود . وهناك توالت طلبات شركات التسجيل على مطربي الريف مثل شركة "كولومبيا" و"بيضافون" لتسجل لهم الكثير من الإسطوانات التي ساعدت على رواج غنائهم وانتشاره في العراق والبلدان العربية، الأمر الذي دعا الاذاعة العراقية لتخصيص حفلة اسبوعية لمدة نصف ساعة لبث أغنياتهم على الهواء مباشرة، يوم لم تكن لإذاعة بغداد أجهزة تسجيل، وكان ان ضاع الكثير من ابداع هؤلاء الرواد في الغناء الريفي، مثلما كان حضور ( أبو عزيز ) الى الاذاعة، سببا لتجمهر المعجبين لحظة خروجه لتحيته وابداء آيات الاعجاب بالفنان الذي نال منهم الثناء والتقدير.
وفي خمسينات القرن الماضي سافر صاحب " الورد " الى بيروت ، لتتعرف الذائقة اللبنانية نمط غنائي جديد، هو غناء الريف العراقي الذي استطاع، رغم محليته الثقافية والإجتماعية، من ان يكتسح مسارح الغناء في بيروت، وسارعت نجمات الغناء اللبناني الى ثنائيات تجمعهن بأبي عزيز الذي حصد النجاح ذاته في القاهرة . وكان لـ" فصاحة" ألحان جميل بشير وخضير الشبلي تأثيرها في مغالبة نمط من الصعوبة تصاحب عادة التلقي العربي للغناء العراقي، والريفي منه على وجه التحديد . ومع تلك المساعدة اللحنية إلا ان اغلب ألحان أغنياته هو من وضعها على الرغم من كونه "مطربا فطريا" لم يدخل معاهد الفن ومدارسه، وأجاد معظم الأطوار الغنائية الريفية المستقاة من نهر "المقام العراقي"، واذا كان الرائد الغنائي ابو عزيز قد رحل الى دار البقاء والخلود اوائل سبعينات القرن الماضي، فانه خلّف ثروة غنائية ستظل مصدر متعة للأجيال القادمة، ثروة معطرة "بالورد الجوري" العراقي .
ناظم الغزالي (يمين) وحضيري أبو عزيز (يسار)
مطرب الرومانسية العراقية النادرة؟
وبمقابل هذا الحضور المؤثر الذي قاد أغنية "عمي يا بياع الورد" الى تقديمها من قبل مطربي العراق والبلدان العربية، ثمة الرقة النادرة كما في أغنية "ريحة الورد ولون العنبر" ( 1961 )، للمطرب ناظم الغزالي . وبحسب كلام رقيق صاغه الشاعر الغنائي جبوري النجار، ولحن تعبيري وضعه باقتدار ناظم نعيم ( ثمة من يقول ان اللحن وضعه العازف الشهير المرافق للغزالي خضر الياس )، جاءت الأغنية احتفاء بالورد والعنبر عبر تجلياتهما البشرية "ريحة ( رائحة ) الورد ولون العنبر بخدودك يا حبيبي الاسمر".
واذا كانت هذه اللازمة تبدو بسيطة، فان كلمات الكوبليهات وبالذات الثاني والثالث في الأغنية، تسجل تعبيرا رومانسيا صافيا:
"يا نسمة فجري وانواره/ يا سلوة ( سلوى ) روحي المحتارة
يا زهرة أنسي لا تذبل/ بدروانت من البدر أجمل
ما أتذكر شفتك وين/ شاعر واتعشق بأثنين"
ثم نستمع الى رهافة كهذه:
"بإكليل الورد انت مصور/ والشعر الفاتن يتموج
يا أطيب من نسمة صيف/ مرت بين اليقظة وطيف
ما اتذكر شفتك وين شاعر بأثنين"
واذا كان هناك من يسأل ضمن باب المقارنة: مغنيا الورد العراقيان ( أبو عزيز والغزالي ).. ماذا سينشدان اليوم لو قدر لهما ان كانا ممن ينتجون الغناء حاليا ؟ فانه لن يستغرب اذا كان الجواب بانهما لن يكونا سوى من قماشة الفظاظة والسوقية الغنائية السائدة اليوم . فالأغنية الشعبية هي ابنة عصرها الاجتماعي بامتياز، بل هي بارومتر الوعي الفني والفكري لأي شعب من الشعوب في فترة انتاجها . لذا فان أي نظرة الى أغنية، مهما بلغ شأو أصحابها ومطربيها، دون ربطها بمحمولاتها الاجتماعية وظروف انتاجها الفكرية، سيجعلها نظرة لا تصل الى توصيف الصورة بوضوح ودقة .