في العام 1947، وأنا لا أزال في مرحلة الدراسة الثانوية (ثانوية العشّـار بالبصرة)، ظهرت على أحد حيطان المدرسة، لوحة من الورق المقوّى، بيضاء، تعلن بخطّ يد متعدد الألوان، عن مجموعة شعرية مشتركة، ذات أربعة أسماء : بدر شاكر السياب، أكرم الوتري، رشيد ياسين، محمود البريكان . هذه المجموعة الشعرية لم تصدر البتّـة، لسبب أو لآخر متّصل كما أظنّ بصعوبة النشـر في بلد مثل العراق آنذاك، وفي مدينة مثل البصرة ظلّـت تابعاً مهملاً للعاصمة منذ تأسيس (الحكم الوطنيّ ) .
لكنّ هذا الأعلان الذي ذهب مع الريح، يُـعتبر، كما أرى، مؤشراً لصلة محمود البريكان المبكرة والأساسية بحركة التحديث الأعمق أثراً في الشعر العراقي فالعربيّ .
مع مرّ السنين، عُـرف محمود البريكان، حاضراً كبيراً، وغائباً أكبر، أعني أن الشاعر البريكان معترفٌ به أسمى اعتراف، لكنه متاح أقلّ الأتاحة، نصّـاً وشخصاً . هذا ما رآه الناس فيه وحوله، أمّـا أنا فبمقدوري القول إني عرفته نصّـاً وشخصاً معرفةً معقولة، وتُـمكنني الإشارةُ في السياق هذا، إلى أربع مدن كنت ألقى البريكان فيها كثيراً هي: البصرة، بغداد، دمشق، الكويت . هل كان البريكان ذا حلِّ ومرتحلٍ ؟ أزعم هذا، وإلاّ، كيف قُـدّر لــي أن ألقاه حيث حللت، في دمشق والكويت مثلاً ؟
في الكويت، التي لم تكن استقلّت بعدُ، والتي هربت اليها ملتجئاً، في العام 1957، كان البريكان يدرّس في ثانوية يديرها خالد المسعود، الوطني الكويتي المرموق، الذي تولّـى وزارة التربية والتعليم في ما بعدُ . البريكان عـرّفني على المسعود، وكان فضل المرحوم المســعود عليّ أن أوصى عبد العزيز حسين بي خيراً، فهو مدير التربية الذي يعيّـن العاملين، وكان، بحقٍّ رجل علم وتعليم .
سنوات الكويت كانت للبريكان من أغنى السنوات وأكثرها اطمئناناً : ظروف عمله مريحة، وأهل الزبير في الكويت كثارٌ، وحرية الفكر والإطّلاع مكفولة بلا مقايسة، والبصرة قريبة .
كتب البريكان كثيراً في مقامه بالكويت، كتب قصائد مطوّلةً من تلك التي كنّـا نسـمي الواحدة منها، ملحمة، في تلك الأيام . وقد كان لي شرف الإطّـلاع المبكر على بعضــها .
دمشق، كان البريكان يأتيها، مثل ما كان يأتيها العراقيون : يتبضّعون ويتنعّمون ببردها، لكنّ بضاعة البريكان كانت كتبا يشتريها، أمّـا نُـعماه فتلك البهجة المتحضرة، وتلــك الطلاقة في اللسان، كما أن صديقه ذا اللسان الذرب، رشيد ياسين، لائذٌ بها . لكن محمـوداً كان يحرص على أن يظلّ الزائر المجهول، كان يرقب حياة دمشق الأدبية بدقّـةٍ، لكن من بعيد، اذ لم يقدّم نفسه إلى أوساطها، ولم ينشر في صحافتها، لا عن موقفٍ مسبقٍ إزاءها، لكنـــه العزوف الأليف الذي ظلّ به معروفاً .
في فترة مقامه الأخيرة بالبصرة، كان يدرّس في معهد اعداد المعلمين (لا أدري إن كان اسـم المعهد تغيّـر)، وسكن، في زواجه القصير، حيّ الجزائر، غير البعيد عن المكتبة العامـــــة وعن نهر العشّـار .
في أواخر العام1978، آنَ قررت أن أخلِّـف غاشية الخنوع ورائي، لم أخبر بقراري أحداً، حتى زوجتي لم تكن تعرف ما اعتزمته . لكني ذهبت إلى البصرة، أزور أهلي المنتشرين المتناثرين بين البصرة والفاو، مع تأكيد خاصّ على أبي الخصيب، ذهبت اليهم زائراً، وان كنت فـي قرارتي مودّعاً . زرت ايضاً محمود البريكان في منزله . أسـررتُه أمري فكان الوحيد العارف قراري. أخبرني، وهو المقتصد في الكلام، أن حياته العملية لم تعد تطاق .
والموسيقى ؟
نعم مازلت أسمع الموسيقى. والشعر؟ ما زلت أكتب البيت شبه معتم، الهدوء شامل، حتى كادت الأنفاس تُسـمع . يضحك محمود البريكان ضحكته المكتومة، ساتراً زاوية فمه بيده، كعادته . أحسست بنوع من الخمود والأسى، وتملّـكني قلقٌ ممّـا قد يحدث لنا نحن الأثنين، في بُـرهةٍ ما، بل في هذه اللحظة .
وحين خرجت إلى الشارع، حيث الضوء، ظلّت عتمة البيت سائرةً معي، زمن لغير الشعر .
تعلمت من محمود، لا ما تعلمت من بدر (السياب)، ولكن كما تعلمت من بدر . تعلمتُ أن الشعر هو في الموضوع ذي الجوهر، وان كان البريكان أقرب الى الموضوع الجوهرِ في الشعر .
ان قصيدة مثل "رسالة من قلعة المنسيين"، وهي عن سجناء نقرة السلمان، الشيوعيين أساساً في الذاكرة المحايدة، معنيّـة بموضوع العزلة والفراق، أكثر من القضية الملتهبة لتحرير العراق من ملوكه ووزرائهم الفاسدين، بل أكثر حتى من قضية السجين السياسي التي منحها أناس مثــل بيكاسو وريتسوس والجواهري ما تستحقّ من تصنيف في الأقلّ .
هل يعود الأمر الى توجّسٍ من اختلاط الأنواع ؟
أزعمُ أن محمود البريكان كان يصدر في هذا الأمر عن نوع من التعالي الخفيّ ، هو وريث ما سمّـاه العرب القدامى "كره العامّـة"، بمعنى أن على الشعر الاّ يتورط بدعاوى" الدهماء" .
وتعلمت من البريكان درساً غايةً في الأهميّـة التطبيقية :
كنت أقرأ له إحدى قصائدي الجديدة، وأظنني أوردت فيها كلمة "قلب". استمع الرجل إلى قصيدتي، ولربما أثنى على شيء منها، ونسينا الأمر، ونحن في مقهى بالبصرة نتداول الحديث حرّاً كالماء في شط العرب (ألم يتغير اسم النهر بعدُ ؟ )، واذا بمحمود يقول لي، ضاحكاً، سـاتراً بيده اليمنى زاوية فمه : أتعرف ؟ كلمات مثل كبد - فؤاد - رئة - قلب - ضلع : هي قاموس بائع المشاوي (الفشافيش بتعبيره)، وليست قاموس الشاعر .
تعلمت من محمود البريكان، وهذا ما تعلمته من بدر أيضاً، الحرص على صفاء اللغة، مع الإنتباه إلى قدرتها على أن تُتداوَل بين الناس . أحياناً تبدو لغة البريكان صافية حدّ التجريد، أقول "تبدو" لأن النظرة التالية سوف تعلِّـمنا كم هي ملموسةٌ ومحسوسةٌ لغته.. الشعر عذاب .
ماذا نقول اليوم ؟
ماذا نقول، ونحن نحتفي بمحمود البريكان بيننا ؟
لنقُـل، في الأقلّ، لو رضيَ محمود، اننا أصدقاؤه الأوفياء .
لندن،7/ 3/ 2002