لا يمكن الحديث إلاّ عنهما معا، وكل عملية عزل أحدهما عن الآخر، يعني الكلام عن نصف حياة عراقية ثقافية ريادية، فالمثقف حسين علي صائب الرحال قبل سفره إلى ألمانيا كان قد ( تتلمذ على يد أرسين كيدور ) الماركسي الأرمني الذي أقام فترة في العراق، وحين وصل حسين الرحال كطالب بعثة لدراسة الهندسة إلى ألمانيا، تلقفه العراقي المقيم ( توفيق الخالدي ) فقد كان حسين الرحال يحمل رسالة ً إليه من قريبه ( صبيح نشأت ) ومن خلال الخالدي الذي كان ينظّم كل يوم أحد جلسة حوارية للطلبة العرب، يدعو من خلالها للفكر الليبرالي ومناصرة الحكم الجمهوري، ولقد أزداد وعيا حسين الرحال من هذه الجلسات وستكون الفائدة أكبر حين تنتصر ثورة السبارتاكيون في 1918 وهو يصغي للخطب الثورية بصوت المناضلة روزا لوكسمبورغ وكذلك من خلال منشورات الثورة التي كان يطلع عليها بشغف، وعندما حلت الهدنة في 1919، خيرت الحكومة العثمانية طلابها في ألمانيا بين البقاء لاكمال دراستهم على نفقتهم أو العودة...، فكان قرارا حسين الرحال العودة وهكذا لم يكمل دراسته، وذلك لصعوبة التحويل الخارجي، بشهادة الرحال شخصيا في حوارٍ أجراه معه الدكتور عبد الرضا حسين الطعان في تموز 1970/ مجلة الثقافة الجديدة/ ع4/ 1975
(*)
وحين عاد الرحال وجد هناك من سبقه بالتأثر بالماركسية : منهم حمدي الباجه جي ومزاحم الباجه جي والصحفي محمد عبد الحسين وكذلك المحامي عبد الرزاق عدوه، وكانت اشتراكية الباججين، ملتبسة : بالنسبة لحمدي الباجه جي فقد كان معجبا بالقائد الهنغاري بلاكون، حيث ( اعتاد حمدي أن يتناول الطعام في نفس المطعم الذي كان يرتاده بلاكون ) وعندما قامت الثورة وأصبح بلاكون زعيمها، سيزداد اعجابا بالزعيم الهنغاري، وبشهادة الرحال ( لم تكن اشتراكية حمدي الباجة جي أشتراكية علمية واضحة فقد كان كثيرا ما يصرح بأن الاشتراكية تضرب بين عصا الراعي والصولجان ) وبشهادة زكي خيري وعبد القادر إسماعيل وعبد الفتاح إبراهيم ( أن مزاحم الباجه جي كان متأثرا بحزب العمال البريطاني ) .
(*)
حين عاد إلى العراق استطاع الرحال أن يقنع ( محمود حلمي ) صاحب المكتبة العصرية، فأخذت تصل بعض مؤلفات لينين بالفرنسية منها ( الدولة والثورة ) ( الأمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية ) وفي الأدب كان الرحال هو أول من أوصل إلى العراقيين قصائد الشاعر التركي الشيوعي ناظم حكمت، كما حصل من مكتبة ماكنزي على نسخة كاملة من كتاب كارل ماركس ( رأس المال ) وفي هذه الأثناء تعرّف في بغداد على محمود أحمد السيد وستتطور العلاقة بينهما وتشهد على ذلك :غرفة في جامع الحيدرخانه كانوا يجتمعون فيها : حسين الرحال، محمود أحمد السيد، عبدالله جدوع، محمد سعيد فتاح، وإبراهيم القزاز ومصطفى علي وعوني بكر صدقي وكمال صالح وفاضل محمد البياتي وآخرون.. وهذا النشاط سيذكره حنا بطاطو والأسماء الآنفة الذكر، هي بالنسبة للتحقيقات الجنائية مجموعة من الماركسيين وبشهادة الدكتور عامر حسن فياض ( والحقيقة أن هذا التقرير يؤشر ظهور أول حلقة من الماركسيين العراقيين، حاولت تأسيس أول منظمة شيوعية ضمّت كلا من : حسين الرحال، عوني بكر صدقي، مصطفى علي، محمد سليم فتاح، محمود أحمد السيد، عبد الله جدوع وفاضل محمد . وبهذا الخصوص ينظر في ( موسوعة سرية خاصة بالحزب الشيوعي العراقي السري – أصدارات مديرية التحقيقات الجنائية – ص ع بغداد – 1948- ص 68- /1 وقد صدرت طبعة جديدة لهذه الموسوعة قبل سنوات قليلة وللأسف لا يوجد تاريخ الطبعة الجديدة وهي من كتابين، كل كتاب يحتوي ثلاثة أجزاء .
(*)
نقلا عن ( الثقافة الجديدة ) ع4/ 1975من مقالة للدكتور عبد الرضا الطعان :
أثّرّ.. حسين الرحال على أصدقائه تأثيرا كبيرا بسبب ما كان يملكه من قدرة على القراءة بلغات أجنبية متعددة، الأمر الذي لم يستطع الآخرون بلوغه، وقد أثّر حسين الرحال بوجه خاص، على محمود أحمد السيد،الذي كان يأخذ أفكار الرحال، ويستنتج منها، بذكائه الخاص وبطريقته الخاصة، بعض الصيغ الفكرية الخاصة به، وقد عكس محمود أحمد السيد، فعلا قسطا كبيرا من أفكار صديقه حسين، ولو بصورة مبسطة في قصصه التي نشرها في الصحف والمجلات ..
(*)
من جانب آخر علينا أجمعين أن نتعامل مع محاولات السيد القصصية والروائية بمشروطية التحقيب، بعيدا عن المبالغة سلباً/ إيجابا، فكيف يكون التأسيس على يد محمود أحمد السيد وليس أمامه سوى روايات الغرام والمغامرات، أو ربما يصله كتاب من ترجمات المنفلوطي، ومؤلفات جبران خليل جبران، من هنا لايمكن مطالبة محمود أحمد السيد بإجتراح معجزة روائية، وهو ليس مثل أستاذه الرحال الذي يتقن عدة لغات ويجيد قراءة الروايات الفرنسية بلغتها، كما أن الترجمة لم يكن سوقها بذلك الرواج وما ترُجم يومها كان بالتصرف وبهذا الصدد يقول حسين الرحال في مقدمتة لرواية ( في سبيل الزواج ) ( ومما يؤسف له،أن قطرنا ( قطر العراق ) ليس له نصيب مما ذكرناه أبدا ( يقصد الفن القصصي ) فالمهذبون عندنا يكتفون بقراءة ما يردهم من التأليف والروايات الأفرنجية أو العربية، المصرية أو السورية، ولم يلتفت أحد منهم الى تقليد الأفرنج أو المصريين أو السوريين ) .. وقد سبقنا إلى ذلك أستاذه حسين الرحال، في المقدمة التي كتبها لرواية ( في سبيل الزواج ) وهو يطلب من القراء ( أن يشدوا من أزر الكاتب ويتغاظوا عن الجانب الفني، ولا يلتفتون الى أسلوب الرواية ووضعها ونسبتها الى الروايات الراقية، بل إلى الغاية التي وضعت من أجلها ) في كلام الرحال نرى وعيا في تقنيات الرواية، فهو مطلع على النتاج الاوربي من خلال اللغات التي يتقنها، لكن من جهة ثانية يقدّر الجهد الريادي للروائي محمود أحمد السيد، من هنا ستكون ( جلال خالد ) هي الدرس الروائي الأول الذي توفق فيه محمود أحمد السيد، واستوعب مايملي عليه الوعي المتقدم والمميز للرائد الماركسي حسين الرحال، الذي يعي تماما أهمية الرواية في استقطاب المثقفين من خلال عناصر التشويق والتوعية والتحريض .
(*)
لم يكن اشتغال الحلقة الماركسية الأولى فقط على الأدب القصصي والروائي، فقد اصدرت الحلقة أعدادا من مجلة ( الصحفية ) لفترة من الزمن، ثم اشترك حسين الرحال مع ميخائيل تيسي في ( كنّاس الشوارع ) ثم أسس ( نادي التضامن ) وقبل ذلك وتحديدا في 1929، رفعت جماعة حسين الرحال تقريرا مفصلا الى لينين قائد ثورة، تضمن التقرير المكتوب باللغة الفرنسية، وسافر أحدهم إلى إيران الى هذا الغرض ومنها الى موسكو...
(*)
من جانب آخر يؤكد الدكتور علي إبراهيم، وهو يغترف من مصادر تاريخية : ان العلاقة بين السيد والرحال : هي علاقة حلم ثوري مشترك وتشارك في النشاط الإعلامي فقد امتهن الرحال والسيد الكتابة الصحفية وإن تميز السيد عنه بكتابة القصة والرواية فضلا عن كتابته للمقالات، وكلاهما السيد والرحال عشقا الحرية والتقدم وكانا رائدين في فهم واستيعاب الجديد، وكان للرحال قراءات متنوعة للرواية بلغتها الأجنبية وتتضح إمكانياته في هذا الجانب النقدي من خلال المقدمة التي كتبها حول رواية محمود أحمد السيد الأولى ( في سبيل الزواج ) وقد تعززت الصداقة بينهما حيث أهدى روايته الثانية ( مصير الضعفاء ) ،، إلى الحر الأبي حسين بك الرحال،، وهذه الصداقة شجعتهما للتشارك في كتابة المقالات، حيث يتوفر الرحال على اللغة الفرنسية والسيد يتميز بتمكنه من اللغة العربية، وبلغت العلاقة ذروتها، في شخصية ( جلال خالد ) وهو عنوان رواية لمحمود أحمد السيد : وشخصية جلال خالد : مركبة من شخصيتي الرحال والسيد...
(*)
من كل هذا نريد أن نؤكد أن للرحال تأثيره الفعّال في تطوير الوعي الأيدلوجي والأدبي، لدى الروائي محمود أحمد السيد...
------------------------------------------------------------------------------*أقترضت مقالتي مِن
*د. عامر حسن فياض / حسين الرحال / رائد الفكر الاشتراكي العلمي في العراق
*د علي إبراهيم/ المرتكزات الجمالية والفكرية في قصص وروايات محمود أحمد السيد
*د. شجاع العاني /قراءة جديدة في أدب السيد القصصي
*د.صبيح الجابر/ محمود أحمد السيد/ والفكر الواقعي النقدي
المقالات / في (الثقافة الجديدة) ع312/ سنة 2004