رسالة الأماني والأمل التي توقعتها وصلتني هذا الصباح . حطَّت برفق فراشة علي يدي، مع إطلالة شمس تنير الأرض وتنعش قلبي من جديد . كل رسائلك لطالما انتظرتها بنهم الأطفال الرضع إلى أثداء الأمهات؛ وما لمسته أناملي لم يكن ورقة انتظرتها بصبر يلامس الاحتراق، ولا قلما خطَّ حروفها المكتوبة وحركاتها المسكونة في عمق الكلمات، بل تخفق حناياها بآلاف المعاني وتنطوي صفحتها على فسيفساء من الزمن القديم وآلهة الإغريق، محفورة في صفاء قلبك على امتداد الزمن، وأنفاسك الحرى تشعل خيالي نارا لا تنطفىء أو تتحول إلى رماد، وعطر عرقك ينساب كالمخدر إلى روحي وجسمي أطيب من عطر الياسمين.. فليس غيري في النساء من يغريها وتعشق عرق حبيبها حتى ثمالة الأشياء..!؟
ها أنا أراك من آلآف الفراسخ تخط رسالتك بأناملك الرقيقة وتطويها، فينطوي قلبي على الآهة الحرى ويذبل في غيابك، فأغدو كآخر منازل القمر لا يكتمل إلا بعودتك بدرا من وراء الجبال، حينما ينساب اسمي كساقية جذلى من شفتيك الشهيتين القرمزيتين، الآتيتين في صباحات باردة تحملها ريح الشمال . شفتاك أشهى من طعم العنب بنكهة البخور أو عسل النحل يجنيه من الزعتر وزهر البرتقال .
حينما فتحت رسالتك هالني عذاب روح أضناها البعاد، وجرفني نهر دافق لم تروِ مياهه الغزيرة قلبي المشتاق . غير أنني رأيت نقطة في متن الرسالة، كأنها دمعة تختصر معاني اللهفة والحنين، ونبض قلم يحكي بالفواصل والسكون أحلى تباريح الهيام .
النقطة وخزة حب أضناه ليل الصحراء، ولم يدرك سرها الشوك.. ولا البلسم يعرف حقيقة الأشياء، لتلهج النفس بآلام عشق لا يهدأ ولا يستكين، وآخر تنهيدة واستغاثة حنين سمعتها ورأسي على صدرك وبين خافقيك . تلك لحظة نادرة في الزمن حيث يضيع فيها الفكر، ولا يرى سوى وجه غاب في عتم الليالي، وانتظار أطول مما يخطر في بال اللهفة والحرمان .
طيف قبلة كانت تلوح من البعيد يتعالى معها وجيب قلبي، وتتفاعل الروح مع الروح، وتحطَّ الشفاه على الشفاه ولا تنتهي القبلة إلا في الزمن السحيق، وغياب روحي عن كل الوجود . ونقطة الباء في مستهل الرسالة دائرة نور وحب وسكون، وضمة تنتظر حضن عاشق ومعبود . كانت النقطة تسألني سر المعاني في خمر الوجود... ليبقى في سحر الكلام ما يستحيل على الإدراك وقدرة اللسان على البوح والتعبير .
يا سر قلبي بين القلوب يا ذلك الوجه بين ملايين الوجوه، حينما تعالت الأنفاس واتحد الجسد بالروح . إنه وجه الذي أحببت.. والروح التي امتزجت بدمائي وخالطت لحمي وعروقي وعظامي، واستقرت في فضاءات نفس بلا حدود، تبعث خواطرها في فكري ويسلب طيفها الكرى من أجفان عيوني، فتبعدني عن نوم كنت أشتهيه، توقد نارها بين جوانحي والضلوع وتموج شمسها وتضطرم، فلا أحصد إلا دخانا يتلاشى ويضمحل مع الريح، حيث ترفرف أجنحة من النور في فضاء رب العالمين .
هل أناديه عيسى..؟ يا لنبوءة الرسل ممن لا يموتون، يا لقدرة عيسى يحيي القلوب أول ما يحيي، أم أناديه وجه القمر وما خلق الله القدير؟ يبث أنواره على قلبي وشعاعه يبعث الأمل في نفسي بعد الموات، أم أناديه نعمة العطر خرجت من أطيب زهر في فردوس الجنان، أتنسم طيبه فينسكب عافية على جسمي، وينفذ إلى أعماقي يبعثر لمسات أشواق طال انتظارها على الخصر والجيد ؟
أم أناديه آدم ولا أحسب الله خلق غيره من الرجال على الأرض، وأنبته وحده مخلوقا من الرقة والعطف من بين الضلوع ؟ أم أناديه الساحر لسطوته وقدرته عليّ، وبناء نواميس الحب في كياني كقدرة الإله على الخلق، وإبداع قوانينه في هذا الكون العجيب؟ أم ألجأ إلى زنديه محرابي الأخير ؟ أم أناديه أنت..؟ يا أنت مالي سواك في هذا الوجود .