صدر العدد الرابع الجديد (2013) من مجلة "أديان" التابعة لمركز الدوحة الدولي لحوار الأديان. وهي مجلة متخصصة في التراث الديني العالمي، تتطلع إلى ترسيخ تقاليد علمية مستجدة في معالجة الظواهر الدينية والتقاليد الروحية. فلاشك أن الدراسات العلمية للأديان من المجالات التي تشكو نقصا في الثقافة العربية الحديثة، في وقت غدت فيه الظواهر الدينية عاملا حاسما في التحولات الاجتماعية التي يشهدها العالم. ما يميز هذه المجلة الواعدة وهو التطلع إلى مقاربة مسائل الدين من زوايا تنفتح على آفاق عالمية رحبة، وبأسلوب عميق وجاد، عبر الحرص على التركيز على مسائل مشتركة تمس تقاليد دينية وروحية متعددة.
تركّزَ الاهتمام في العدد الأخير على موضوع "المسؤولية البيئية"، حيث تناول باتريك لود الأستاذ في جامعة جورج تاون في افتتاحية المجلة الخطأ الشائع بين المتدينين المعاصرين، والمتمثل في اهتمامهم الضئيل بالبيئة، ومرد ذلك إلى اعتبارهم في كثير من الأحيان البيئة محلّ الحياة الدنيا التي عزموا على الترفع عليها. كما جاء في بيان الافتتاح للسيد عبدالله بن حمد العطية استعراضا للمخاطر التي تتهدد البشرية جراء التفريط في العناية بالبيئة، مبرزا ما تسعى إليه مجلة "أديان" من بث وعي بيئي حقيقي. ومن جانب آخر تناول جورج تامر في بحث بعنوان "خواطر لاهوتية في الحفاظ على البيئة" البعد التأصيلي في الكتب المقدسة لمسألة البيئة. وأما الدكتور عبدالحكيم مراد، الأستاذ في جامعة كمبردج، فقد تعرض إلى "مفهوم الشخص الإنساني في الإسلام". وتناول الدكتور محمد حبش في بحث قيم بعنوان: "البلد الحرام أول محمية حقيقية في بلاد العرب" أصالة العناية بالبيئة ورياديتها في تاريخ العرب. كما تعرض الأستاذ مصطفى أبوصوي من جامعة القدس إلى مفهوم "فقه البيئة في الإسلام"، وهو مبحث عريق في التصور الإسلامي يستمد أصوله من المبادئ السامية للدين الحنيف. وفي بحث موسع تناول عالم الاجتماع التونسي الأستاذ محمود الذوادي موضوع "بيئة الإنسان المترامية الأطراف في القرآن الكريم". وتناول عزالدين عناية المختص في علم الأديان والأستاذ في جامعة روما موضوع: "المسألة البيئيّة في اليهودية والمسيحية والإسلام". فوحدة التراث الإبراهيمي بين الأديان الثلاثة، يجعلها على موعد حاسم مع تحمّل مسؤوليتها في عالم اليوم، نظرا لاتساع رقعة أتباعها ولما تحوزه من مخزون تراثي عريق. كما تضمن العدد مجموعة من الأبحاث لكل من الأساتذة عبدالباقي مفتاح وعلي بن مبارك وأنس كاريتش.
كانت قد انطلقت الكتابة في موضوع علاقة البيئة بالدين في الغرب مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكان ذلك مع ريني ديبو، ليشهد الموضوع منعرجا مع دانيال هرفيو ليجي؛ وبالمثل شغلت المسألة بال اللاهوتيين أيضا، منذ أن تناول رجال الدين الموضوع من زاوية دينية صرفة، كما كان مع توماس بيري، وليوناردو بوف، ويورغن مولتمان. وهو ما تطور لاحقا مع ما بات يعرف باللاهوت البيئي -Theoecology-. وأما في المجال الإسلامي فلا يخفى على الدارسين أن الخطاب البيئي لا يزال فخريا ومفتقرا إلى تأسيس علمي. لكن هشاشة التناول الإسلامي الراهن للموضوع، لا يمكن أن تحجب أصالة حضور المسألة في التصور الإسلامي، وهو ما عبر عنه الحديث النبوي: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"، هذا فضلا عن حثّ المجتمع المسلم المبكر على إنشاء المحميات البيئية، وهو ما ورد جليا مع نهي المصطفى (ص) عن قطع شجر المدينة وما جاورها: "لا يخبط -يقلع- شجره ولا يعضد -يقطع- إلا ما يساق به الجمل". وأورد أبو يوسف في "كتاب الخراج": "حدّثنا مالك بن أنس أنّه بلغه أن النبي حرّم عِضاه –شجر المدينة- وما حولها اثني عشر ميلاً وحرّم الصيد فيها أربعة أميال حولها".
فما يجمع بين الأبحاث الواردة في مجلة "أديان" وهو الحرص على إبراز الفلسفة العميقة، التي تعبر عن أصالة الديانات الإبراهيمية بشأن البيئة. ففي تعاليم تلك الديانات ما يشي بعمق وجودي في الحفاظ على الطبيعة. ولعل ضوابط الكاشير وغير الكاشير في اليهودية، والخطيئة وغير الخطيئة في المسيحية، والحلال والحرام في الإسلام، التي تنظّم المأكل والمشرب والفعل، بالإضافة إلى محطات التفرّغ المقدسة، مثل السبت، والجمعة، واليوبيل، والصوم الكبير، والأشهر الحرم، والإحرام وما شابهها، من الأدوات التي تناهض العبثي والمنفلت.