عبد الكريم العبيدي : ( ثمانية أيام في باصورا ) : قصص بنكهة مضمر إحناسية جديدة في الرواية العراقية
من روايات عبد الكريم العبيدي : ( ضياع في حفر الباطن ) ( الذباب والزمرد ) ( معلقة بلوشي ) والآن (ث مانية أعوام في باصورا ) من خلال هذه السرديات نحصل على المدونة الشعبية الحقيقية لتاريخ البصرة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، مدونة تقف وجها لوجه ضد كل ( الأخريط ) الروائي الرسمي أثناء تلك الفترة الشرسة عسكريا واستخباراتيا وأمنيا، ضد أهل البصرة حيث دأبت سلطة الطاغية في مطاردة الرافضين للحرب ورميهم بالرصاص في البرجسية وجبل سنام وتصفية عوائل الشيوعيين والإسلاميين، وسجن وإعدام وتسفير العوائل التبعية، على حقول الإلغام ومصادرة أموالهم وعقاراتهم ..
(*)
ما يكتبه العبيدي يكتبه بمهارة فنية حبرها لا يرتجف بل يضغط فكيه بحقد مشروع ضد التعسف وتواطىء المثقفين آنذاك، ولا مسافة بين المؤلف وكتاباته، فهوغير موجود باسمه بل بفعله الرافض للحرب ولوحشية أزلام الطاغية، ومتواجد من خلال صحبته مع ( الفرارية الأبطال ) فهم يعيشون الموت كل لحظة ويرون في هذه العيشة، منزلة أرفع كرامة من كل شيء .
(*)
المطبوع لم يجنّس الكتاب، في الصفحة الخاصة نقرأ سنة الإصدار والجهة التي صدرت الكتاب منها، لكن العتبة المعلنة من قبل المؤلف تؤكد( هذه القصص .....) إلخ لكن هذه القصص تتجاور مع سردياته الروائية، من ناحية الفضاء الروائي وكذلك من الشخوص، ولا ضير في ذلك فقد كرس الروائي الألماني إريك ماريا ريمارك معظم رواياته للحروب التي أضرمتها ألمانيا : ( كل شيء هادىء في الميدان الغربي )، ( وقت للحب وقت للحرب )، ( الأصدقاء الثلاثة )، ( ليلة لشبونة ) .
(*)
ترى قراءتي أننا أمام متواليات سردية مميزة، الشخصية الرئيسة هي البصرة
أعني البصرة هي الشمس والشخوص كواكب حولها البصرة/ الشمس
واستناداً على العنونة فالنصوص كلها مؤطرة في إطار لحظة بصرية واحدة
إذاً نحن في زمكان مؤتلف سرديا ( ثمانية أعوام في باصورا )، وقبل التوغل في قراءتي المنتجة،أعلن أن في ( ثمانية أعوام في باصورا ) ملامح إجناسية روائية جديدة مضمرة، تلتقطها فطنة القارىء النوعي المبتلى بوعي حداثي يناصر إجتراح إجناسيات تليق بما يجري الآن على مستوى السرديات الروائية، خصوصا ونحن بحاجة إلى إجراء إنزياحات واعية لمفهوم الرواية العراقية الراهنة، وتأثيل منصات إنطلاق جديدة . وإبرام عقد قراءة جديد، يتجاوز العقد المطمئن للقارىء المسترخي جسديا والمباحة ذاكرته أثناء القراءة تحديدا لعناكب النت .
(*)
يستقبلنا نص سردي غير معنون، يرتقي هذا النص إلى قصيدة نثر عالية الجودة، تتضوع القصيدة بكل ما في المتكلم من أسى ممض، نقتطف منه مسك ختامه حيث تتبادل فيها الأدوار :
( هل أنت حي
هل أنا الميّت ؟
اتفقنا إذن ؟ )
هنا نكون أمام عقد ٍ مبرم بين طرفين تربطهما آصرة حميمة جداَ .
(*)
العنوانات الفرعية، من كلمتين الثانية ثابتة تسع مرات والأولى متغيرة بنفس العدد
: ( صدمات مرحة، ضياع مرِح، شيوعي مرِح، ريبورتاج، صواريخ مرحة، وجودية مرحة، حياة مرحة، خيانة ليست مرحة ) يلي ذلك عتبة بعنوان : حواش .
(*)
كل فصل ينقسم قسمين : سرد مفصل، يليه وجيز سردي، يمكن تنضيده ما بعد السرد، وأعتقد أول من بادر بهذه التقنية هو الروائي الأمريكي وليم فوكنر، في روايته العظيمة ( الصخب والعنف ) ترجمها المثقف الموسوعي جبرا إبراهيم جبرا
حيث تنتهي الرواية بصفحة، يخبرنا السارد عما جرى للشخوص بعد زمن الرواية، ومنذ سنوات قليلة صحت السينما العالمية من غفوتها، واستعملتها بعد نهاية بعض الأفلام .. في ( ثمانية أعوام في باصورا ) السرد الوجيز/ مابعد النص .. أطلق عليه المؤلف : (خواتيم) .
(*)
سرديا أرى ( ثمانية أعوام في باصورا ) تجيد توظيف أسلوبية الحكي الذي يقترب من الشفاهية المحلية، مع حفاظه على اللغة الفصحى، كما أن المؤلف أستطاع أن يتناول وجع البصرة، بسخرية سوداء، أشهد أنني قرأت الرواية بجلسة واحدة، وحين أعدت قراءتي للنص بعد فترة، حدث الأمر نفسه، ثمة سحرية سردية تجعلك تواصل قراءة مرحة، لا دخل لها بالروائي كونديرا في غرامياته المرحة.. وأشهد أن قراءتي في المرتين لم تتوقف أبتسامها التي تتعالى منها أحيانا القهقهات .
(*)
البطل الدائم والمتجدد لدى عبد الكريم العبيدي هو البصراوي الرافض للمشاركة في حروب الطاغية، والبطل مثقف وشعبي في الوقت ذاته، مثقف مثل (نصّار) يعي جيدا أن الحياة في البصرة إنمسخت بمشروطية إرهاب وملاحقة وقلق وفزع وأصبح ابن البصرة ( لابد من زنبور يلاحقهُ ليهرب، وزنبور يطارده ليختبىء ومن زنبور ثالث يتوعده ليتحفز.. / 85 ) وهكذا لاوجود لملائكة البصرة الآبقين ( خارج حُمرة الزنبور المخيفة، ولن يكون ذاتا واعية خارج خطر الزنابير والرفاق وما يولد من شرورهم.. ) والمثقف مرة شيوعيا ( شيوعي مرِح / ص36 ) وفي الأغلب هو مزيج من البوهيمية والوجودية المحليتين/ البصريتين وقبل أن يعتبر البطل من ( الفرارية ) فهو ( متخلف عن السوق ) كما هو الحال في الفصل الأول ( صدمات مرحة ) .
(*)
خمس وسائل تتحصن بها شخوص الروائي عبد الكريم العبيدي في كل سردياته، وآخرها ( ثمانية أيام في باصورا ) :
*التمرد على النظام الغاشم
*معاقرة الخمر
*قراءة الكتب
* مؤثرية المخيلة
*تماسك الكتلة المجتمعية
بهذه الوسائل تحافظ على جوهرها من التلوث، بمؤثرية المخيال في فصل ( صواريخ مرحة ) يتحرر ( سويف ) من خنوعه ونكوصه، ( .. فخاخ الخيال تمكنت منه، في ضحى صيف ساخن رطب، شعرَ أن دخانا لذيذا يتصاعد من بين فخذيه ../61 ) .
وبشهادة السارد ( أحدنا نحن الثلاثة فقد رشده، فقد نصف عقله، ثم أستغل مخيلته وأبتدأ لعبة المتخيلات الصباحية تلك، ظل يحدق في سقف الغرفة وزواياها المليئة بشبكات العناكب، ثم همس بصوت متهجد، تشوبه بحة واضحة : كنت أقضي أجمل أمسية مع ربة القصيد، غورنكو، نلهو معا في سهوب أوديسا وسيفاستوبل على ساحل البحر الأسود، ... /15 ) وكذا سيفعل متخلف، ويسرد حلمه على بقية المتخلفين عن السوق للعسكرية، وحلمه مشبع بالفلكلور البصري : رقصة الهيوة وأغنيات الخشابة.. إلخ، أما سارد النص والمشارك بالحدث، فأنه يتأمل حائط الغرفة ويحاول ترميم قصيدة مكتوبة بخط رديء على الحائط.. ( فأجهدت ُ فكري بإصلاحها، وتركتهما يمارسان متخيلتيهما بهدوء../17 )، لكن الواقع بشراسته العسكرية، يجرد المخيلة كما يجرد الحلم من الأجنحة ويتركهما عاريان تحت شمس تموز البصرة .. حيث صباح الثكنات يبدأ، ب ( رفسة بسطال، من ضابط صف، مع جملة عسكرية لا تنسى،،أكعد.. ماعدنه نوم للظهاري،،! قفز الشاب فزعا، لم يستغل مخيلته في ذلك الصباح، ولم يمارس لعبته، تخلت عنه،، ربة القصيد،، وبدلا من الاستيقاظ على أنغام قصائدها المموسقة، نهض برفسة بسطال.. /18 ) لكن هذا المتخلف عن السوق العسكري، لم ينتكس، بل ( راح يدندن بحزن،، أفضل طريقة لإنهاء الخدمة العسكرية هي أن تهرب منها سريعا ) يكتشف صديق السارد أن الجنود ليس كأسنان المشط، فالتفارق الطبقي والتراتبية في حزب السلطة، تحدث تمايزا فيما بينهم، ( بعضهم يبقى متمتعا بحياة مدنية هادئة، وآخرون يتم زجهم في وحداث عسكرية مستقرة داخل المدن، وهناك من يجد مكانه بيسر في مقرات الفيالق والفرق والألوية/ 20 )، هؤلاء كلهم في كفة وفي الكفة الخايبة : أولاد الخايبة حيث ( يتم قذفهم في جبهات القتال.. هذا ما يحدث في بلدٍ في حالة حرب، وفي جيش يحارب دفاعا عن نظام ٍ، بات احتفاضه بالسلطة مرهونا بهذه الحرب . والله لن أذهب إلى الجبهة... سأهرب / 20 ) هذا كلام إنسان واع ٍ يرفض الإتلاف مع ما يجري من إستبداد وتحطيب أولاد الخايبة دفاعا عن أولاد العوجة . لكن رفض المشاركة بالحرب، هل تجعل عراقي الداخل محافظا، على صيانة روحه وذاكرته وأحلامه، وهو يدرك بوجع خالص : أن الحياة في مكان آخر.. أو الحياة غدت عبدة ً لمن لا يستحق أثر نعليها ؟ وبشهادة السارد ( لن تستطيع مياه أنهارك ياوطني غسل خلايا ذاكرتي من بشاعة الحروب، ستبقى تُشوه أحلامي، حلما شامخا بعد آخر . لا أدري كم جثة تلزم مقابرك ؟ هل كُتِب َ عليّ أن أمارس ميتات ويقظات متناوبة، حتى أبقى عالقا بين الحياة والموت ؟ 21 ) وأي دولة هذه ؟ (دولة تلغي اعترافها بصحة صدور وثيقة رسمية /61 ) والوثيقة هي البطاقة الشخصية ( يروي،، أسويف،، كارثة سوقه إلى الجيش ببرود، رغم أنها واقعة مذهلة لا تنسى، حصلت بإشارة إصبع زنبور، في مدخل ( أم البروم) قرأ بصعوبة اسمي وتاريخ ولادتي فأدرك أنني أحتاج إلى أكثر من عامين حتى يتم شمولي بقانون الالتحاق بالجيش، انزعج ففضّل رميي في قفص الحبس داخل سيارة.. /60 ) ثم جعلوه يمثل أمام لجنة خاصة من الضباط القساة، قررت اللجنة منحه سنتين إضافيتين ليتم زجه في جبهات القتال !!
(*)
بين ( ضياع مرِح )، ( وجودية مرحة )، ( خيانة ليست مرحة )، وشائج تكافل جمعي، هناك من تحول جرس إنذار للفرارين، وهناك من صار بيته – رغم عقوبة الإعدام – ملاذا لفرارية .
(*)
السخرية :21/28/33/41/43/51/54/82/83/
(*)
أزلام السلطة بتنويعاتهم سيكونون بالتوازي مع كتلة الفرارية تتكون من خلية مخابرتية قام بصناعتها الفرار نصّار وثلة من الرافضين للحرب ( خلية مخابراتية واسعة من الفتيان والعجائز والصبية وربات البيوت وأصحاب الدكاكين والباعة المتجولين، كل منهم يظهر حماسا وتعاطفا لإبلاغهم بدنو خطر ما تنذر به أي شاردة أو واردة مشبوهة تحدث في الشوارع.. /76- وجودية مرحة )، ومن ضمن هذه الكتلة الشعبية، بالطبع صاحب المقهى في ( ضياع مرِح ) أعني العم مشتت الذي ما أن يلمح زنابير الحكومة، حتى يغرّد بمقطع من أغنية عراقية ( مرّوا علي الحلوين /22 ) هنا الأغنية العاطفية الدافئة للمطرب العراقي ناظم الغزالي، تتعرض لإنزياح علاماتي شرس، يفرغها من دفئها ويجعلها جرس إنذار، وإذا كان بعضنا كان يرقص نشوانا وهو يسمع ويشاهد ناظم الغزالي يغنيها بتوقيت تلفزيون أبيض وأسود، فأن العم مشتت يصوّتها متقمصاً شخصية طرزان ( يصنع من كفه اليمنى ما يشبه البوق ثم يلصقها بفمه، كأنه يقوم بحركة مسرحية اعتاد أدائها ) وبدل نشوة الرقص، فأن ( جماعات من الهاربين تتنافس قبالة فتحة في جدار المقهى الخلفي ) ليس بشبكة المتعاونين مع الفرارية وحدها يتحصنون هؤلاء الرافضون للحرب المنحدرون من عوائل توزعت شبانها بين ناريّ السجون المؤدية إلى مجهولة التراب الجماعي ودخان الحروب التي تحسن الحد إلى مابعد الآن، بالنسبة لبائع اللبلي، فقد موه رفض للحرب، وبشهادته أمام غسان وهما يلتقيان مصادفة في أحدى بارات البصرة ( كنت فرارا مثلك ! لم أكن معاقا كما يظن الجميع، كان عكازي أحد أكسسوارات لوحتي كبائع معاق قبالة عربته، وقد نجحت ُ في حيلتي البارعة، لكن التهمة التي لصقت بي أكبر من مكيدتي بل فضحتها فيما بعد/ 95 ) ومن أجل أن يتخلص فوقي بائع اللبلبي من كثرة الأطفال الذين كانوا يدورون حولة العربة ويطارد بعضهم بعضا، هددهم مازحا، وكان توقيت تهديد بساعة نحس ودليل غباء مفرط من قبله حين يخاطب الأطفال ( اليوم سيكون القصف المدفعي الإيراني على أشده، شوفوا منوا الي راح يحميكم ؟/ 96 ) فإذا بصوت بائع اللبلبي، يخترق أذني جزاع وهو يعبر أثناءها، وبسرعة الضوء وبقدرة جزاع تحول بائع اللبلبي ( مجرم وخائن وعميل، يقف في صف العدو الإيراني، ويخيف أطفال العراق العظيم من حفنة شظايا خائبة، عجزت عن ثني هؤلاء الطلائع والفتوة من اللعب في الشوارع ) في ( خيانة غير مرحة ) هناك من يخون الكتلة، ويحاول الإيقاع بالفرارية، فتكتشفه الكتلة أنه ( عويدل المطيرجي )
(*)
للمقالة بقية...
*المقالة منشورة في ( طريق الشعب) 3 تشرين الثاني 2018