من حكايا الزمان وبعد كان يامكان يا سامعين الكلام..؟ أن أسدا عظيما من أصحاب الحكمة والرصانة والبيان، حكم مملكته بالعدل والقسطاس، فأشاع في أرجائها العدالة والمحبة والسلام، وصار مرجعا في الحكم العادل وخدمة بني جنسه من سائر أنواع الطير والحشرات والحيوان. فازدهرت مملكته وبلغت رخاءَ أفضل البلدان . كذلك قاد رعيته نحو الأمام وبلغ بها شاطىء الأمان. وهكذا عاشت الحيوانات في ظله حياة تنعم بالمحبة والتعاون، والحلال من الأمور دون الحرام .
ثم توالت السنوات الطوال وتراجعت أحوال الأسد، فرق جسمه ووهنت عظامه وضعفت قوته ونال منه الهزال . فخاف على مملكته من الضياع . وحينما شعر بدنو أجله واعتراه القلق على مملكته من الزوال، راح يفكر ويفتش عن حل يضمن استمرار الحكم ليطمئن من بعده على أحوال البلاد والعباد . ولهذا فقد استدعى إلى مجلسه مستشاره ووزيره "سمعان".. وسمعان فيل عجوز راجح العقل، أكلت وشربت على ظهره السنوات الطوال .
قال الفيل للملك بعد أن سمع منه السؤال : يا ملكنا العظيم حكمت الرعية بالعدل، "ولو دام المُلْكُ لغيرك لما صار العرش إليك"..! لكن لا ينبغي أن تشعر بالقلق يامولاي السلطان، ما دامت الغابة مترامية الأطراف..؟ فلن تخلو ممن يتولى شؤون الحكم من بعدك أطال الله في عمرك يا مولاي . لكن عليك أن تتبصر في اختيار ملك عادل وتطمئن لترك المملكة بين يديه .
قال الأسد: أحسنت فيما أشرت به أيها الوزير الحكيم، فاجمع لي خيرة حيوانات الغاب ممن يصلحون لتولي الحكم، فنختار منهم من يتولى المنصب وينجح في الامتحان .
أوفد الوزير المنادي يشيع الخبر، ويعلن على الرعية عن موعد الامتحان، ليكون الناجح وليا للعهد على العرش في الغاب، ومن كان يجد في نفسه الكفاءة للمنصب..؟ فعليه الحضور إلى العرين غدا والمثول أمام السيد السلطان . وهكذا قدمت في اليوم التالي مجموعة من الحيوانات، ممن أغراهم المنصب وحب السلطة والجاه، وفي عيونهم تلتمع سطوة الكرسي والصولجان، فتوالى الجميع على الكلام، كل واحد تحدث عن نفسه ومهارته ليبرهن أنه الأفضل ليحكم الغاب .
كان النسر أول الماثلين بين يدي الملك . أتى يتهادى متعاليا يبالغ في التيه أمام الجميع، يمشي منفوخ الصدر والريش مرفوع الرأس إلى فوق . قدم خضوعه أمام السلطان وقال : يا أعظم وأعدل من تولى الأحكام بين الرعية..؟ من لا يعرف من الحاضرين الأكارم حدة بصري ومدى رؤيتي وبعد أفقي وسرعة بديهتي وشدة بطشي وعقلي الرشيد . من كان من الحضور يضاهي قوتي وعزمي وسرعة انقضاضي، فليتقدم ويبرهن للملك العظيم أنه أفضل مني ..!؟
ثم تقدم الأرنب وهو يتحدث بلهجة الملهوف ابتغاءً للمنصب الرفيع وهو يقول: أيها الملك العظيم والوزير الوقور الرشيد، المُلك يحتاج إلى سرعة في العمل، وذكاء في التفكير وحنكة في التدبير، وخفة في ركض يسابق الريح ويمارس على الرعية العطف واللين، وذريّة كبيرة تشد من أزري في عدد البنين، وعندي منهم في كل موسم ما يزيد عن العشرين . العشرون بأمرتي كلهم فأنا ممن يحسنون التربية والتعليم، ووحدي خليق بهذه المهمة وهذا المنصب العظيم .
والغزال عصفت بقلبه الغيرة من بلاغة الأرنب، فتنحنح بصوت خفيض يشبه الهمس والتغريد، وتقدم كعروس ترفل بثوب الزفاف ليلة الدخلة والأمل الموعود، ومن ياقة قميصه كان يبرز عنق ريم جميل، حينما تقدم من الملك بغنج ودلال كأنما خوفه من الوشاة الحاضرين يشرِّده ويضنيه؛ ليناجي الملك وهو يقول: ولمَ لا تكون مملكتنا موطنا للسياحة والسفر، وعرض الأزياء وانتخاب ربات الجمال..؟ من يبصر الفتنة في عيني الواسعتين، يفقد رشده وعن وعيه يضيع، وهكذا يا مولاي بفعل نرجسيتي وجمالي، ستكون لي سلطة على الجميع فتوليني الحكم وحدي دون سواي من الآخرين .
وهنا ضحك الغراب من مقال الغزال وقال: بل الدهاء ما يحتاج إليه استقرار الملك ليعم السلام، فتهدأ الأحوال من الاضطرابات.. ويخيم على البلاد الرخاء . فمن يجاريني أو يماثلني من الحاضرين في الحنكة واختلاس الجبنة بخفة ودهاء، والوقوف على فنن الأشجار، لاستحضار الأخبار من الجوار، وتدابير الحيطة والاحتراز في حماية الغاب من الأشرار..؟ لقد جبت السهول والجبال والوديان، ولم أتوانَ عن اقتحام القفار للحصول على ما ينفع العرش من الأخبار .
وحينما تقدمت النملة.. أزاحها القرد بأصبعه من الطريق وهو يقول لها : ابتعدي من طريقي أيتها المخلوقة الهزيلة الحقودة، التي لا تملك مقدار ذرة من التجرد والحب وفعل الخير، حينما لم تمنحي حبة قمح للجندب المسكين . لاحول لك ولا قوة لكي تحققي بين الرعية العدل والإيثار . دعك من الطمع بالسلطة، وهيا ابتعدي من طريقي أيتها اللئيمة الحقيرة . تنحي جانبا واتركيني أتحدث عن نفسي، ثم رفع صوته على مسامع الجميع وهو يقول :
لا يصح للغابة أن يحكمها إلا القردة..؟ فأنا أملك قدرة الغراب وحنكته ودهاءه في استقدام الخيرات على العباد، وحراسة الغاب في أعالي الأشجار من الأشرار، ولي سرعة الأرنب وخفته في العدو، والطلوع إلى أعلى الأغصان والأشجار وأمهر من الأعناز في بلوغ الصخور على قمم الجبال فقوتي وبأسي لا يقل عن النسر بحال..! وعلاوة عن هذا وذاك فأنا أذكى وأبرع الحيوانات على الإطلاق . لم ينتهِ القرد من كلامه حتى ارتفعت الجلبة وعلت الأصوات وعم الجدل وتصاعدت حدة الاختلاف، حينما تدخل سمعان فأمرهم بالسكوت والمغادرة للتشاور مع الملك واتخاذ القرار .
في اليوم التالي ولدى اجتماع الحيوانات للاستماع إلى نتيجة الامتحان..؟ دوى صوت إطلاق نار سُمِع صوته من قريب، ووصل على الفور أحد الحراس من جنود الطير، يطلع ملك الغاب عن قدوم بشري صياد، وهو من أطلق الرصاص على يمامة في الجوار صادها ووضعها في جعبته، ثم جلس يرتاح في ظل شجرة وارفة من الصفصاف .
وهكذا شعر الملك العجوز بالقلق على المملكة، موطن أتباعه من سائر الحيوان والطير والهوام، وخاف أن يكون قد غدر به الزمن وتولاه العجز وضاعت قوته وبات عاجزا عن المواجهة والقتال . وهكذا ذُعر من كان مع الملك في الاجتماع لصوت إطلاق النار . وقال الوزير للملك : قدوم الصياد مناسبة للحكم على الحاضرين من منهم يستحق ولاية العهد..؟
قال السلطان لوزيره سمعان : وكيف يكون ذلك وكل الحيوانات كما ترى، في خطر من هذا البشري الصياد..؟ فرد الوزير على الملك وهو يقول له بثقة وهدوء وابتسام : هذا هو السؤال..؟ فمن يبرهن لنا من الحاضرين عن قدرته وشجاعته في حماية الغاب ورعاياه، ويخلصنا من الصياد يكون ولي العهد بلا نقاش أو جدال .
قال النسر : ولو أنني لا أخاف المصاعب، وقد بطشت بالعديد من الطيور والحيوانات، وارتكبت كثيرا من الآثام كما تعرف أيها الملك العظيم، إلاّ أنني سريع التهور وشديد الغضب وهذه الصفات ستؤول إلى الطيش والخطأ في اتخاذ القرار . وهكذا تضيع المملكة منا، وأكون السبب في ضياعها فلتختر سواي وتعذر خوفي على المملكة من الضياع .
وتحولت الأبصار إلى الأرنب من جديد.. لكنه قال مذعورا : لا يجوز للمملكة أن يلحق بها الذل والعار على يدي، بعد الهزيمة والمذلة التي منيت بها عبر الزمن، ووصمت جباه بني جنسي لاستهتاري بسرعة صديقتي السلحفاة . ثم التفت للغزال وقال : مالك ساكت يا صديقي..؟ ولماذا لا تنقذنا من إنسان يقتل ولا يرحم كل من يدب على الأرض من المخلوقات .
قال الغزال : على الملك أن يتحلى بالصلابة، والشجاعة والقدرة على حسن التحمل والثبات، ويمضي بمملكته قُدما إلى الأمام، ولو أنني لا زلت في ريعان الصبا..؟ فلا تغرنك سرعتي في العدو، لأنني أقف إزاء البرك والأنهار أنظر إلى هيأتي في الماء، ومن كان مثلي لا يصح أن يقوم، على حماية الغابات من الأشرار، وهذا عجز لايليق بالملك كما قال الغراب .
ضحك الغراب من حرج التلميح وقال للغزال : سامحك الله يا رشيق الجسم، يا أرق وأجمل من يهوى السكن في الغابات قرب الأنهار . كيف لعاشق مثلي مشغول العقل مسلوب الفؤاد؟ أن يعي ويفكر بحكمة وإدراك ليقضي بالعدل والإنصاف..؟
لقد اُبتليتُ بهوى الذهب وما يلمع من الأشياء، فلزمت أغصان الشجر وأخشى ما أخشاه من الشغف أن يصرفني عن الاهتمام بالشأن العام..!؟ وما أقوله ليس خوفا من الصياد على الإطلاق . ماذا لو ركبني الطمع بزاد ما في جعبة المسافرين من السكان، ونسيت التزامي بمقاليد العدل والأحكام . فليعذرني جلالتكم على عجزي بمهام البلاد الجسام .
قال النسر : ما من أحد أجدر بالمُلك من القرد فماذا تقولون..؟ وهنا علا التصفيق وارتفعت الأصوات بالموافقة والتأييد . أنصف النسر ذو الرأي السديد واستقرت مهمة العرش على القرد دون الآخرين . وهكذا ابتلع القرد ريقه وأحس بالورطة لكنه استدرك الموقف وقال للجماعة : لكنني أتنازل عن المُلك طوعا لغيري..!؟
فبعوضة واحدة تطن في أذني أو تبيت في رأسي، كفيلة أن تقض مضجعي وتصيبني بالأرق وتصرفني عن القيام بواجبي . فكيف لي بالثأر من مخلوق كهذا الباغي، ممن لا يشفق ولا يرأف ببني جنسه ؟ لكن البعوضة تململت في مقعدها وقالت : للبشر هواية التشهير بحقارتي . وهل ترضون أن يكون ملككم مهانا؟ وأن تكونوا تحت حكم من هي بحقارتي وتفاهتي..؟
عمّ الصمت المكان وأخذ الأسد يفكر، في حل لمشكلة الصياد حينما قال الوزير : خسئت قلة شرفكم وتخاذلكم . وهكذا نكّس الجميع رؤوسهم . بينما كانت النملة تغادر الاجتماع وتتوجه ناحية الصياد النائم تحت الشجرة، تلسعه في قدمه ثم تتسلل من تحت ثيابه وتلسعه في أنحاء جسمه الحساسة، حينما أفاق مذعورا من نومه وراح يحك جسده بقوة في كل مكان، والنملة تنتقل بسرعة وخفة ورشاقة وتلسعه حيثما وصلت .
شعر الصياد بالحكة في سائر انحاء جسده وراح يبتعد هربا من المكان . وهكذا انتهت الحكاية وارتفع شأن النملة في عين الملك الأسد وسائر حيوانات الغابة، وتجرع الجميع الحسرة والندامة وجاشت صدورهم بالحسد من شأن النملة، حينما عينها الملك خليفة له على الغاب من بعده.. لتأمر وتنهي وتطاع، وتحكم بين سائر الحيوانات بالعقل والحكمة والقسطاس .