تمخضت انتخابات حزب الإتحاد الديموقراطي المسيحي في المانيا على الصعيد الداخلي فيه عن فوز السيدة أنغريت كرامب كارينباور (56 سنة) لتعقب الرئيسة السابقة والمستشارة الألمانية الحالية الأكثـر تميزاً أنجيلا ميركل (64 سنة) . حصل هذا في الوقت الذي يرعى فيه العالم حملات أممية للتوعية بشأن مكافحة العنف ضد المرأة لتقدم ألمانيا إنموذجاً ساطعاً لإنتصار النساء على مستوى سياسي في حزب يوصف بأنّه أحد أقوى الأحزاب الكلاسيكية القديمة والكبيرة المتبقية في أوروبا، اليوم، فازت السيدة كارينباور برئاسة حزب الإتحاد الديموقراطي المسيحي في انتخابات وصفتها بالنزيهة ضد منافسها السيد فريدريش ميرز بعد حصولها على (517) صوتاً مقابل (482) صوتاً مما يرشحها لإحتمال الفوز بمستشارية ألمانيا في الإنتخابات المقبلة عام 2021 .
من امرأة إلى امرأة، كان هذا هو العنوان العريض الذي تمخض عن فوز كارينباور بمنصب الأمين العام للحزب وهي أم لثلاثة أبناء وصفت بالبراغماتية وبساطة المظهر والعلمية والهدوء . يذكر إنّ زوج السيدة كارينباور مهندس معادن ترك وظيفته ليتفرغ لرعاية أولادهما الثلاثة كجزء من مساهمته لدعم مسيرتها المهنية والطموح في الحزب . جلس السيد كارينباور في خانة الضيوف أثناء أعمال مؤتمر الحزب لخوض الإنتخابات وظل بعيداً عن الأضواء . ومثله فعل السيد يواخيم زاور الذي يعمل أستاذاً للكيمياء في جامعة هومبولدت في برلين وهو الزوج الثاني للسيدة إنجيلا ميركل التي صارت منذ أيام قليلة فقط الأمينة العامة السابقة للحزب . بقي زاور بعيداً عن الأضواء هو أيضاً بعد تولي زوجته منصب المستشارية في ألمانيا كجزء من النزعة الألمانية المعروفة بالتنظيم وفصل الخاص عن العام حتى سرت شائعات حول كونها غير متزوجة مما أدى بهما إلى الكشف عن ذلك . أطرت ميركل على دعم زوجها لها في أكثر من مناسبة الأمر الذي عبرت عنه مرة بالقول: يدعمني دائماً . فهو يقوم على سبيل المثال بالتسوق لنا في أغلب الأحيان" .
لم يكن الطريق الذي اختارته ميركل سهلاً . فقد إنضمت إلى الجناح اليميني للحزب قبل شهرين من توحيد الألمانيتين عام 1990 وشاركت بفعالية في الحركة الديموقراطية الداعية لإسقاط جدار برلين وتولت وظيفة المتحدث الرسمي بإسم حكومة ألمانيا الشرقية بعد التوحيد .
عملت فيما بعد وزيرة لشؤوون المرأة والشباب في حكومة هيلموت كول ولكنّها كانت من بين من طالبوه بتقديم استقالته فور الكشف عن تورطه بفضيحة رشوة . أنتخبت لقيادة الحزب عام 2000 مما مهد الطريق أمامها للدخول في انتخابات 2005 والفوز فيها لتسجل سبقاً تاريخياً كونها أول امرأة تشغل منصب المستشارية في ألمانيا المعاصرة .
لم يكن ينظر إلى ميركل وهي الحاصلة على شهادة الدكتوراه في علم الكيمياء الفيزياوية من أكاديمية العلوم في برلين – أدليرشوف عن أطروحتها في مجال الكيمياء الكمية (1986) عشية توسمها أعلى منصب سياسي في البلاد على أنّها شخصية كارزمية ومثيرة للإهتمام . بل على العكس من ذلك وصفت بالبسيطة والضعيفة وحتى الرثة في مظهرها وأطلق عليها لقب "الأرملة السوداء" أو الأرملة سيئة الحظ .
برزت على نحو مؤثر خلال الأزمة المالية التي عصفت بالعالم في العقد الأول من الألفية الثالثة حيث أتبعت سياسات اقتصادية جنبت ألمانيا مشاكل الركود الاقتصادي وعادت بها إلى مرحلة النمو والإزدهار . وتغيرت صورتها منذ ذلك الحين إذ وصفت بـ "أم الألمان" بل وحتى "امبراطورة أوروبا" . بيد أنّ سياسة الباب المفتوح التي اعتمدتها والتي أدت إلى فتح أبواب ألمانيا لما يزيد على مليون لاجئ سوري تسببت بتوجيه سلسلة انتقادات حادة لها أسهمت بخفض شعبية الحزب الذي تقوده في عدد من المقاطعات الألمانية إلى مستوى غير مسبوق منذ عام 1966 . وهذا ما حدا بها إلى الإعلان عن عدم الترشح لزعامة الحزب حفاظاً عليه وبالتالي عدم الترشح للمرة الخامسة على التوالي لمنصب المستشارية . وكانت ميركل قد رشحت كارينباور لزعامة الحزب بعد أنْ عينتها بمنصب السكرتير العام للحزب في شباط من العام الجاري 2018 كجزء من الإستجابة للضغط عليها من قبل أعضاء الحزب لدفع دماء جديدة في بنيته التنظيمية وكوسيلة لإختبار قدراتها ووضعها على المحك وتمكين الآخرين من التعرف عليها . فازت كارينباور بمنصب الأمين العام للحزب في انتخابات داخلية جرت مطلع كانون الأول الجاري بعد أنْ حظيت بثقة واحترام أعضاء الحزب لمقاربتها العلمية في وضع السياسات العملية . وكانت عززت هذا التصور الإيجابي عنها عندما واصلت عملها في مفاوضات الإئتلاف الحاكم من على فراش المرض بعد حادث سير الأمر الذي أثنت عليه ميركل بقوة . وقد أعتبر أمر قدرة ميركل من تمكين كارينباور بالفوز برئاسة الحزب إنجازاً تاريخياً يضاف إلى سجلها السياسي إذ يحدث هذا لأول مرة في تاريخ ألمانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية . مع ذلك ميزت كارينباور نفسها عن ميركل من خلال مواقفها المحافظة والأوروبية وكونها سليلة الصعود التدريجي المنتظم في منظمات النساء والشباب في الحزب . درست العلوم السياسية والقانون وتولت عبر مسيرتها المهنية وزارات السياسة الداخلية والأسرة والمرأة والتعليم والثقافة والعمل والشؤون الاجتماعية . خاضت حملة انتخابية لقيادة الحزب بعد أنْ رشحت من قبل ميركل على مدى ستة أشهر فيما سمي "جولة استماع" تجولت فيها في أنحاء ألمانيا اجتمعت من خلالها بنواب محليين في خمسين مدينة من أجل الحوار وتبادل الآراء . حرصت كارينباور على تقديم نفسها بإعتبارها شخصية مختلفة عن سابقتها ميركل وتساءلت عن مبررات احتفاظ البعض من الألمان بجنسية مزدوجة في إشارة واضحة إلى الأقلية التركية الألمانية وهي أكبر الجاليات المهاجرة ذات الأصول الأجنبية حجماً في ألمانيا . يذكر إنّ ألمانيا تسمح بإزدواج الجنسية بعد أخذ الموافقات الرسمية اللازمة . حال فوزها بقيادة الحزب قالت : أستطيع، أريد وسأفعل ولهذا السبب أكرس نفسي لخدمة الحزب".
بالعودة إلى ميركل يلاحظ أنّها غادرت المنصب دون زيادة في ثروتها أو تغيير في نمط حياتها ولم تحظ بحكم عملها كمستشارة لأقوى اقتصاد أوروبي بتقاعد خاص بها بل عادت إلى ما تتأهل له بحكم خدمتها الوظيفية خلال مسيرة عملها . كما أعلنت أنّها لن ترشح للعمل السياسي بعد اليوم . في خطاب الوداع توجهت إلى مؤتمر الحزب الذي قادته لثمانية عشر عاماً متتالية بالقول : أيها الأصدقاء ..." . وقابلها المؤتمرون ممن يقدر عددهم بألف عضو فقط في مجتمع يقرب تعداده من (83) مليون نسمة بعاصفة مطوّلة من التصفيق وبكى البعض فيما حمل البعض الآخر لافتات برتقالية اللون كتب عليها "شكراً أيتها الرئيسة ..." و"وداعاً أيتها الرئيسة ...". قالت ميركل في هذا الخطاب : يغمرني شعور بالإمتنان لكم بعد العمل معكم أيها الأصدقاء . لقد دافعنا عن طريقتنا في الحياة وقيمنا التحررية الليبرالية".
هذا انتقال لافت للقيادة في بلد مثل ألمانيا، من إمرأة إلى إمرأة . إنّه انتقال يقدم دحضاً لفكرة "أحقاد النساء" أو "حزازاتهن" أو "امتناعهن عن دعم بعضهن البعض" . فعندما يكون هناك برنامج وعمل وتصور واضح عما يتوحد عليه المتشاركون من أجل بلد قوي وأكثر وحدة وإندماجاً يتنحى متغير الجندر ليفسح الطريق لصاحب الوعد الصادق والحقيقي غير المبالغ فيه . ورغم أنّ تعاقب السيدتين في ظل انتخابات صعبة في بلد ديموقراطي حر لا يدعي أو يبشر بغروب النظام الأبوي الذكوري السائد في العالم حتى اليوم الا إنّه يقول إنّ للإستقرار والبناء قيادات تتأهل لحكم البلاد ليس مهماً أي جندر تعود إليه إنّما المهم أنّها تعد بتحقيق التغيير والتقدم والرخاء وتعمل عليه . شهدت فترة حكم ميركل منذ عام 2005 لأربع دورات متتالية اهتماماً بنظم الرعاية الاجتماعية وتطوير نوعية الحياة والتشديد على الوسطية على الضد من التطرف والإنعزال . إنّه انتقال يقدم إنموذجاً فريداً لممارسة السلطة وإدارتها من قبل نساء مؤهلات لا يقبلن أنْ يكنّ "أدوات" في صفقات سياسية مشبوهة . نساء لم يعملن وفق وصفة شكلية لمجرد إيهام الرأي العام والعالم بمظهر حسن توافقاً والرغبة في الإدعاء بتمكين المرأة والإكتفاء عملياً بإستخدامها كصورة وعنوان . إمرأتان عملتا معاً وتدرجتا بالمسؤولية ولم تنزعا إلى تأسيس تنظيمات رديفة أو موازية لتحقيق أغراض محددة غير معلن عنها بل تعاونتا وأختبرتا من خلال العمل ونوعية ومستوى الأداء فيه . وعندما سمّى الإعلام الألماني كارينباور بـ "ميركل الصغيرة"، لم يؤد ذلك إلى غضب وحملات إعلامية مقابلة بل أدى إلى مزيد من العمل لتقديم صورة بديلة تضع مصلحة الحزب وأهدافه من أجل الصالح العام على بساط التداول العلني والصريح حتى توفرت القناعات بتحرر "الصغيرة" من "الكبيرة" . تجربة في العمل السياسي بإعتباره جهد مخلص ومثابر وليس حزمة فجة من الحيل والمكائد والمؤامرات المكشوفة سلفاً .