ما كان لنبض حيوي أن يتواصل في الثقافة العراقية المعاصرة، وصورة بغداد المدنية، لولا شخصية فريدة كالتي يعنيها منذر جميل حافظ
تولى الرجل شخصيا إدامة الفرقة السمفونية الوطنية العراقية في أوقات عصيبة، لا يعرف عنها كثيرون، ففي الفترة بين الغاء الفرقة في 1966 حتى عودتها 1971 بقرارين حكوميين، كان منزله الشخصي في شارع أبي نؤاس، محطة للقاء أبرز عازفي الفرقة، لا لتزجية الوقت إنما للتمرين والعزف المشترك حفاظاً على تجربة بدأت مع "فرقة بغداد الفلهارمونيك" والتي صارت فرقة سيمفونية 1959 بمبادرة مع ورشة الحداثة الفنية والثقافية : معهد الفنون الجميلة الذي درس فيه العزف على آلة الفيولا وتخرج منه العام 1963.
وكان الوقت العصيب التالي، هو مع هجرة عازفي الفرقة السيمفونية في عقد الحصار الأصعب، في تسعينيات القرن الماضي، فمع شخصيتة العميقة والمؤثرة فنياً التي جسدها في إدارته للفرقة 1996-1999، إمكنه من اقناع عدد غير قليل من عازفي الفرقة رغم كل ما يعنيه هذا من شظف وعناء، أملاً بالإبقاء على جذوة تلك العلامة الفريدة في الثقافة العراقية المعاصرة .
هذا الإرتباط الحي القائم على الوفاء والاخلاص، ليس غريبا على المولود ببغداد 1931، الذي أنهى دراسته الموسيقية في العزف على آلة الفيولا في معهد الفنوان الجميلة 1963، فهو من الأعضاء المؤسسين للفرقة السيمفونية، فصلا عن كونه أحد أعضاء "رباعي بغداد الوتري" الذي تأسس في بداية ستينيات القرن الماضي وكان له دور بارز في تقديم الأعمال الموسيقية الكلاسكية التي كانت تستضيفها الجمعيات العلمية والثقافية وتقديمها عبر برامج تلفزيونية، وبخاصة أثناء فترة تجميد الفرقة السيمفونية 1966-1971(1) .
منذر جميل حافظ بين زمنين: عازفاً ورسّاماً
وإذا كانت النخبة العراقيّة تحافظ على وجود “الفرقة السيمفونيّة الوطنيّة العراقيّة“، وإلى جانب وجود عازفين بارزين فيها، كان موسيقيون عراقيون، يكتبون وفق أشكال تناسب الأوركسترا السيمفوني، مثل: فريد الله ويردي، منذر جميل حافظ، عبد الأمير الصرّاف، عبد الرزاق العزاوي، محمد عثمان صديق وغيرهم .
ولا يكاد حدث يتعلق بتنشيط الحياة الموسيقية الرصينة في العراق، إلا وكان منذر جميل حافظ في مركزه، فقد تم في العام 1975 تأسيس دائرة المستشار الفني مرتبطة بوزارة الاعلام، برئاسة منير بشير، لدى عودته للعراق، لتعنى بتنفيذ (الخطة الخمسية) التي كان قد تقدم بها اثناء مجيئه اواسط العام 1974 بصحبة وليد غلمية (لبنان) .
ففي العام 1974، وبعد عودة الموسيقار منير بشير من لبنان، تم تخصيص غرفة واسعة بجانب غرفته ( لأجل تنظيم العمل للفرقة السمفونية الوطنية العراقية ) في الطابق الرابع من مبنى الوزارة في الباب الشرقي، وضمت كلاً من منذر جميل حافظ، إحسان أدهم، وأسعد محمد علي، وباسم حنا بطرس . لذلك "يمكن اعتبار اللجنة أول هيئة التحقت للعمل في دائرة المستشار الفني المستحدثة"(2) .
وبموازاة ذلك، أعيد تشكيل "اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى"، وهي هيئة استشارية للوزارة مرتبطة بالمجلس الدولي للموسيقى (يونسكو) ضمت: منير بشير رئيسا، منذر جميل حافظ نائبا للرئيس، باسم حنا بطرس أمينا للسر، والناقد الموسيقي عبد الوهاب الشيخلي، د. صبحي أنور رشيد، عبد السلام جميل مدير . الموسيقى العسكرية، محمد صديق الجليلي، فؤاد عبد الرضا السادن، د. حسام يعقوب أسحق، باهر فائق وفاروق هلال كأعضاء .
وفي العودة إلى بيت عائلة جميل حافظ المطل على نهر دجلة، ثمة "طفلة عراقية سحرها منظر ضفاف دجلة ونسائمه التي ترعرت بين شواطئها، وجدت نفسها تلعب مع أقرانها الصبية في أزقة بغدادية كرّادية علمتها أصول التعايش والتسامح والمحبة، تفتح وعيها المبكر منتصف أربعينيات القرن الماضي بتأثيرشقيقها الموسيقار منذر جميل بتجاه اليسار وأفكار العدالة الاجتماعية ونصرة المظلومين والمسحوقين، برغم ولادتها في بيت أرستقراطي وأسرة موسورة الحال" . هي الناشطة والأديبة سافرة جميل حافظ، التي ولدت وترعرعت في بيت بغدادي تلاقت فيه كل الآيدلوجيات من دون صراع أو كراهية، فأخوها القومي الأفكار والمسار، المحامي زكي حافظ الذي يعد شاهداً على مجريات الأحداث العراقية لمايزيد على النصف قرن، وفيها اليساري الموسيقي والفنان وهوشقيقها منذر جميل حافظ مستشار الفرقة السمفونية العراقية ورئيس المجمع العربي للموسيقى، وأختها التشكيلية الانطباعية حياة جميل حافظ . هو، إن شئت، أحد الحالمين البغداديين على وجه الخصوص والعراقيين على نحو عام، ممن توفروا على جناحين : الموهبة الإبداعية والقيم الفكرية القائمة على الحداثة والانتصار للإنسان .
نهجه التأليفي:
هذه الإشارة إلى الأصول الفكرية لمنذر جميل حافظ، تشير إلى مسار انعكس في نتاجه الموسيقي، كمؤلف بارز، لجهة حضور الهوية الثقافية الوطنية عبر النهل من التراث النغمي العراقي وتقديمه بشكل أوركسترالي، فهو يعتبر رائداً في كتابة الأعمال الموسيقية وتقديمها من خلال الفرقة السيمفونية وفق مبدأ خلق موسيقى وطنية وجعله سياقاً ثابتاً، حين "أخذت تظهر فبمطلع السبعينيات من القرن الماضي، مؤلفات موسيقية لمؤلفين عراقيين، تعزف لهم الأوركسترا مؤلفاتهم الموسيقية، وهي تحمل تجارب وأفكاراً متنوعةً في بناء الشكل الموسيقي للأوركسترا، وهو شكل له قواعد وأسس ثبتت على مدى العصورالتاريخية التي مرة بها الموسيقى"(3) .
وإلى جانب النهل من التراث العراقي، ثمة الاتصال مع الموروث النغمي العربي والشرقي كما في مؤلفة لمنذر جميل حافظ مبنية على موشح "لما بدى يتثنى" وقدم في مؤتمر المجمع العربي للموسيقى 1974 و"إيحاءات شرقية" 1978 وعمله "كونشيرتو العود والأوركسترا الوتري"، الذي قدمته الفرقة السيمفونية العراقية عام 1978 وجاء في حركتين، تبدأ الأولى بلحن تدخل فيه آلة العود مع مجموعة الوتريات وهي تعزف معا لحناً واحداً يأخذ العود فيه أحيانا أبعاداً موسيقيةً يشكل بها انسجام توافق عمودي مع الآلات الوترية . يعاد اللحن بنفس الطريقة بعد اكتماله ثم ينتقل إلى لحن اخرمختلف عن الأول، وبشكل واسع في انسيابية جريانه. يعاد مرة أخرى ثم ينتهي اللحن ببداية اللحن الأول .
وتبدأ الحركة الثانية، سريعة عبر الآلات الوترية، ثم تدخل آلة العود ( العازف سالم عبد الكريم )، وتكون الجملة هنا حوارية بين الآلالت الوترية . تعاد الجملة مرة ثانية بعدها تتوقف الآلات الموسيقية لتدخل آلة العود بشكل منفرد تتبعها بقية الآلات الوترية عبر حوار آلي موسيقي، ويكون اللحن هنا هادئاً وبطيئاً، ثم وبحركة مفاجئة ينشط اللحن ويعاد جزء من اللحن الأول وتختتم الحركة الثانية .
وثمة عمله "فلسطين"، الذي جاء وفق شكل حر ( لا قالب محدداً له )، ويبدأ بجملة لآلة الفاكوت مع آلة الكلارنيت، بعدها كل الآلات الخشبية بشكل متتال ثم تدخل الأوركسترا، ليكون هناك حوار بين الآلاتالهوائية الخشبية والوترية تعاد هذه الجملة اللحنية كاملة، والذي يكون محورها الأساسي أغنية "يغزيل" لفيروز، ويعاد عزف الأغنية من قبل الأوركسترا مع تداخل وحوار وتصعيد في الأداء، بعد ذلك تنتقل الأوركسترا إلى لحن آخر يمتاز بالتضاد والصراع . يستمر هذا اللحن بصيغته تلك الى أن يعاد اللحن الأول "يغزيل"، ثم دخول الأوركسترا مجتمعةً لتعزف اللحن المضاد له ولينتهي العمل الموسيقي .
ولو راجعنا مؤلفاته التي قدمتها الفرقة السيمفونية لوجدنا تأكيداً لمعنى "موسيقى وطنية عراقية" في العديد من الأعمال التي كتبها على امتداد أربعة عقود :
*سيريناد(4) للوتريات / بغداد 1972 بقيادة المايسترو جورج مان.
*سيريناد شواطىء دجلة/ بغداد 1974 بقيادة المايسترو جورج مان، وهو عمل قدم في بيروت خلال جولة للفرقة السيمفوني.
*إيحاءات شرقية/ البصرة 1977 بقيادة جيرزي بروسنر.
*كونشيرتو العود والوتريات/ بغداد 1978 بقيادة جيرزي بروسنر.
*خيط المغزل (مقطوعة للوتريات)/ بغداد 1980 بقيادة جير مكيلوش
*إفتتاحية(5) للحياة / 1994 بقيادة المايسترو محمد أمين عزت.
*إفتتاحية البناء / 1995 بقيادة المايسترو عبد الرزاق العزاوي
*دعاء للسلام/ 1999 بقيادة المايسترو محمد أمين عزت
*عراقيات/ 2000 بقيادة المايسترو محمد أمين عزت
صلاته
لم تتوقف أشكال الحضور الثقافي لمنذر جميل حافظ على الموسيقى، فهو على صلة بمعظم من شكلوا الثقافة العراقية المعاصرة في النصف الثاني من القرن الماضي، ومنهم التشكيلي الرائد حافظ الدروبي الذي لم يكن بارعاً في الرسم والتشكيل فحسب هو الآخر، وانما كان بارعاً ومولعاً في الفنون الأخرى، مثل العزف على الكمان والغيتار، كما يقول أحد اصدقائه المقربين وهو منذر حافظ الذي مازال يحتفظ بغيتاره وبعض من صوره ولوحاته الأخيرة . وعلاقته بالمشهد التشكيلي العراقي لم تأت من باب الصداقة بل عبر النتاج الشخصي فهو رسّام انطباعي عنى بالحياة المحلية البغدادية والعراقية على نحو عام .
نشاطاته
أعد وقدم منذر جميل حافظ مع باسم حنا بطرس برنامج "مع الموسيقى العالمية"، وهو أول برنامج ثقافي من نوعه في تلفزيون العراق، خصصت له مدة ساعة كاملة كل أسبوع، كان يُعرض في بغداد، وينتقل للعرض تباعاً إلى البصرة ( جنوب ) ومن ثم إلى الموصل ( شمال )، يوم كان البث لا يغطي كل البلاد، فتأسست محطات في مناطق مهمة جغرافياً وبشرياً . كما كان مديرا تنفيذياً للمجمع العربي للموسيقى، وعبر ذلك الموقع تعرفت الموسيقى العربية والعالمية على خلاصة فنية وانسانية نادرة مثلها منذر جميل حافظ .
المصادر
(1)حسام الدين الأنصاري، تأريخ الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية في خمسين عاما 1962-2012
(2)باسم حنا بطرس في رسالة لأستاذ المقام العراقي حسين الأعظمي.
(3)فراس ياسين جاسم، جامعة بغداد / كلية الفنون الجميلة- بحث بعنوان بناء الشكلفي مؤلفات موسيقى االوركسترا العراقية/ مجلة كلية التربية الأساسية.
(4)"السيرناد"عمل موسيقي هادئ وخفيف، وهو بالأصل أغنية ليلية تغنى تودداً للمحبوب.
(5) "الإفتتاحية" قطعة موسيقية تُعدّ لتكون مقدمة لعمل موسيقي كبيرمثل الأوبرا والإنشاد الديني ويمكن أن تعزف مستقلة.