منزل المتنبي متحف يحمل اسمه

2008-06-15

يجري العمل حاليا لتحويل الموقع الذى كان يسكن فيه الشاعر العربى ابوالطيب المتنبى فى القرن الرابع الهجرى بمدينة حلب شمال سوريا إلى متحف يحمل اسمه.

وفى هذا الشأن، ذكرت صحيفة (تشرين) السورية يوم الخميس 16/10/2008  إنه يأتى ذلك بموجب قرار رسمى بعد أن حدد الباحث محمد قجه هذا الموقع الكائن خلف خان الوزير أحد أشهر خانات حلب التي تتميز بتاريخها القديم في كافة العصور وتشتهر بآثارها الكثيرة مثل قلعتها الشهيرة وأبوابها وبكنائسها ومساجدها ومدارس العلم وبصناعاتها الشهيرة منذ زمن بعيد وبما تمتلكه من تراث عريق في كافة المجالات العلمية والفنية والادبية والثقافية.

وأوضح الباحث قجه التطورات التى طرأت على الموقع خلال الـ 11 قرنا الماضية حتى أصبح مدرسة تابعة للأوقاف يجرى الآن تحويلها إلى متحف.

ولفت الباحث قجه إلى أن هذا المتحف المهم سيضم مختلف الكتابات حول الشاعر المتنبى وقاعدة بيانات وقاعة محاضرات وغرفة متحف صغيرة لتوثيق الفترة الحمدانية فى حلب.

ترك المتنبي تراثا عظيما من الشعر، يضم 326 قصيدة، تمثل عنوانا لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير.

*أبو الطيب المتنبي، أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء. وهو شاعرحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. وتدور معظم قصائده حول مدح الملوك.. قال الشعر صبياً. فنظم أول اشعاره وعمره 9 سنوات . اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً.

كان المتنبي صاحب كبرياء، شجاع، طموح ومحب للمغامرات. في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة، وصف المعارك،  وجاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. يستدل من شعره الغزير كيف جرت الحكمة على لسانه .

* ابو الطيب المتنبي

303 - 354 هـ / 915 - 965 م

* هوأحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب، شاعرٌ حكيمٌ، وواحدٌ من مفاخر الأدب العربي، له الأمثال السائرة والحكم البالغة المعاني المبتكرة. ولد بالكوفة في محلة تسمى كندة وإليها يرجع نسبه، نشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلوم اللغة العربية .

*قال الشعر صبياً، وتنبأ في بادية السماوة (بالقرب من الكوفة في العراق) فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه.

وفد على سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب فمدحه وحظي عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الإخشيدي وطلب منه أن يوليه، فلم يوله كافور، فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه.

قصد العراق وفارس، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز. نسبه وقصة اللقب دس خصومه في نسبه الدسائس ، وقويت الآراء المتناقضة في نسبه الأمر الذي جعله لم يشر إلى أبيه في شعره أبداً . والغالب أن طفولته كانت تتميز بالحرمان ، وبالتنقل في العراق والشام حيث كانت الفتن تمور.

* آراء في لقبه

يقال أنها حادثة شهيرة في حياة المتنبي حيث إدعى النبوة في بداية شبابه ، في بادية السماوة، ولئن كان قد جوزي على ادعائه بالسجن بأمر من والي حمص ونائب الإخشيد الذي كان اسمه لؤلؤ ، إلا أن حادثة تنبؤه تبدو حيلة سياسية ليس إلا ، أو تدليساً من الحاكم ضد الثائر الشاب حيث كان قد تبعه كثير من الناس. و تقول الرواية أنه بعدما سجن تاب ورجع عن دعواه .

 يرى أبو العلاء المعري في كتابه معجز أحمد، أن المتنبي لُقب بهذا اللقب من النَبْوَة، وهي المكان المرتفع من الأرض ، كناية عن رفعته في الشعر. لا عن إدعائه النُبُوَة . وغيرها من الروايات ...


*المتنبي و سيف الدولة الحمداني

كان المتنبي قد عرف سيف الدولة من قبل وسمع عن أفضاله الكثير وكانا في سن متقاربه ، فوفد اليه وعرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا، وجازاه على قصائده بالجوائز الكثيرة وقربه إليه فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام ، وتعد سيفياته أصفى شعره . غير أن المتنبي حافظ على عادته في إفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحة ، فكان أن حدثت بينه وبين سيف الدولة جفوة وسعها كارهوه وكانوا كثراً في بلاط سيف الدولة .

وقيل أن ابن خالويه رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة ، فلم ينتصف له سيف الدولة ، و طعن في هذه الرواية كثيرون لأسباب متعددة . بعد تسع سنوات في بلاط سيف الدولة جفاه الأخير وزادت جفوته له بفضل كارهي المتنبي ولأسباب غير معروفة، قال البعض أنها تتعلق بحب المتنبي المزعوم لخولة شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها ، وكان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك . إنكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي وغادره إلى مصر حزيناً خائباً ليواصل النظر في أطماعه السياسية بعد أن قال في حضرته قصيدته الشهيرة:

وَاحَــرَّ قَلبــاهُ مِمَّــن قَلْبُـهُ شَـبِمُ    ومَــن بِجِسـمي وَحـالي عِنْـدَهُ سَـقَمُ
مـا لـي أُكَـتِّمُ حُبّـاً قـد بَـرَى جَسَدي    وتَــدَّعِي حُـبَّ سَـيفِ الدَولـةِ الأُمَـمُ
إِنْ كــانَ يَجمَعُنــا حُــبٌّ لِغُرَّتِــهِ     فَلَيــتَ أَنَّــا بِقَــدْرِ الحُـبِّ نَقتَسِـمُ
قــد زُرتُـه وسُـيُوفُ الهِنـدِ مُغمَـدةٌ      وقــد نَظَــرتُ إليـهِ والسُـيُوفُ دَم
وَكــانَ أَحسَــنَ خَــلقِ اللـه كُـلِّهِمِ    وكـانَ أَحْسَـنَ مـا فـي الأَحسَنِ الشِيَمُ
فَــوتُ العَــدُوِّ الِّـذي يَمَّمْتَـهُ ظَفَـرٌ      فــي طَيِّـهِ أَسَـفٌ فـي طَيِّـهِ نِعَـمُ
قـد نـابَ عنكَ شَدِيدُ الخَوفِ واصطَنَعَتْ    لَــكَ المَهابــةُ مـا لا تَصْنـعُ البُهَـمُ
أَلــزَمْتَ نَفْسَــكَ شَـيْئاً لَيسَ يَلْزَمُهـا    أَنْ لا يُـــوارِيَهُم أرضٌ ولا عَلَـــمُ
أَكلمــا رُمـتَ جَيشـاً فـانثَنَى هَرَبـاً    تَصَــرَّفَتْ بِــكَ فـي آثـارِهِ الهِمَـمُ
علَيــكَ هَــزمُهُمُ فـي كُـلِّ مُعْـتَرَكٍ    ومــا عَلَيـكَ بِهِـمْ عـارٌ إِذا انهَزَمـوا
أَمـا تَـرَى ظَفَـراً حُـلواً سِـوَى ظَفَرٍ    تَصـافَحَت ْفيـهِ بيـضُ الهِنْـدِ والِلمَـمُ
يــا أَعـدَلَ النـاسِ إِلاَّ فـي مُعـامَلَتي    فيـكَ الخِصـامُ وأَنـتَ الخَـصْمُ والحَكَمُ
أُعِيذُهــا نَظَــراتٍ مِنْــكَ صادِقَـةً    أَنْ تَحْسَـبَ الشَـحمَ فيمَـن شَـحْمُهُ وَرَمُ
ومــا انتِفـاعُ أَخـي الدُنيـا بِنـاظرِهِ    إِذا اســتَوَتْ عِنـدَهُ الأَنـوارُ والظُلَـمُ
سَــيَعْلَمُ الجَـمْعُ مِمَّـن ضَـمَّ مَجْلِسُـنا    بِــأنَّني خَـيْرُ مَـن تَسْـعَى بِـهِ قـدَمُ
أَنـا الَّـذي نَظَـرَ الأَعمَـى إلـى أَدَبي    وأَســمَعَتْ كَلِمـاتي مَـن بِـهِ صَمَـمُ
أَنـامُ مِـلءَ جُـفُوفي عـن شَـوارِدِها     ويَسْــهَرُ الخَــلْقُ جَرَّاهـا ويَخـتَصِمُ
وَجَــاهِلٍ مَـدَّهُ فـي جَهلِـهِ ضَحِـكِي    حَــتَّى أَتَتْــهُ يَــدٌ فَرَّاســةٌ وفَـمُ
إِذا رَأيــتَ نُيُــوبَ اللّيــثِ بـارِزَةً    فَــلا تَظُنَّــنَ أَنَّ اللَيــثَ يَبْتَسِــمُ
ومُهجـةٍ مُهجـتي مِـن هَـمِّ صاحِبِهـا    أَدرَكْتُهــا بِجَــوادٍ ظَهْــرُهُ حَــرَمُ
رِجـلاهُ فـي الـرَكضِ رِجْلٌ واليَدانِ يَدٌ    وفِعْلُــهُ مــا تُريــدُ الكَـفُّ والقَـدَمُ
ومُـرهَفٍ سِـرتُ بَيـنَ الجَحْـفَلَينِ بِـهِ    حـتَّى ضَـرَبْتُ ومَـوجُ المَـوتِ يَلْتَطِمُ
الخَــيْلُ واللّيــلُ والبَيـداءُ تَعـرِفُني    والسَـيفُ والـرُمْحُ والقِرطـاسُ والقَلَـمُ
صَحِـبتُ فـي الفَلَـواتِ الوَحشَ مُنْفَرِدا    حــتَّى تَعَجَّـبَ منَّـي القُـورُ والأَكَـمُ
يــا مَــن يَعِـزُّ عَلَينـا أن نُفـارِقَهم    وَجداننــا كُـلَّ شَـيءٍ بَعـدَكُمْ عَـدَمُ
مــا كــانَ أَخلَقَنــا مِنكُـم بِتَكرِمـة    لَــو أَن أَمــرَكُمُ مِــن أَمرِنـا أَمَـمُ
إِن كــانَ سَــرَّكُمُ مـا قـالَ حاسِـدُنا    فَمــا لِجُــرْحٍ إِذا أَرضــاكُمُ أَلَــمُ
وبَينَنــا لَــو رَعَيْتُــمْ ذاكَ مَعرِفـةٌ    إِنَّ المَعـارِفَ فـي أَهـلِ النُهَـى ذِمَـمُ
كَــم تَطلُبُــونَ لَنـا عَيبـاً فيُعجِـزُكم    ويَكــرَهُ اللــه مـا تـأْتُونَ والكَـرَمُ
مـا أَبعَـدَ العَيْـبَ والنُقصانَ من شَرَفي    أَنــا الثُرَيَّــا وَذانِ الشَـيبُ والهَـرَمُ
لَيـتَ الغَمـامَ الـذي عِنـدِي صَواعِقُـهُ    يُــزِيلُهُنَّ إلــى مَــن عِنـدَه الـدِيَمُ
أَرَى النَــوَى يَقْتَضِينـي كُـلَّ مَرْحَلـةٍ    لا تَســتَقِلُّ بِهــا الوَخَّــادةُ الرُسُـمُ
لَئِــن تَـرَكْنَ ضُمَـيراً عـن مَيامِنِنـا    لَيَحْـــدُثَنَّ لِمَــنْ ودَّعْتُهُــمْ نَــدَمُ
إذا تَرَحَّــلْتَ عـن قَـومٍ وقـد قَـدَروا    أَن لا تُفـــارِقَهم فــالراحِلُونَ هُــمُ
شَــرُّ البِـلادِ مَكـانٌ لا صَـديقَ بـهِ    وشَـرُّ مـا يَكْسِـبُ الإِنسـانُ مـا يَصِمُ
وشَــرُّ مـا قَنَصَتْـهُ راحَـتي قَنَـصٌ    شُــهْبُ الـبُزاةِ سَـواءٌ فيـهِ والرَخَـم
بــأَيَّ لَفْــظٍ تَقُـولُ الشِـعْرَ زِعْنِفـةٌ    تجُــوزْ عِنـدَكَ لا عُـرْبٌ وِلا عَجَـمُ
هـــذا عِتـــابكَ إِلاَّ أَنَّــهُ مِقَــةٌ    قــد ضُمِّــنَ الــدُرَّ إِلاَّ أَنَّـهُ كَـلِمُ


*المتنبي و كافور الإخشيدي

الشخص الذي تلا سيف الدولة الحمداني أهمية في سيرة المتنبي هو كافور الإخشيدي ، وكان مبعث ذهاب المتنبي إليه على كرهه له لأنه طمع في ولاية يوليها إياه . ولم يكن مديح المتنبي لكافور صافياً ، بل بطنه بالهجاء والحنين إلى سيف الدولة الحمداني ، فكان مطلع أول قصيدة مدح بها كافور:

كفى بك داء أن ترى الموت شافياً  وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وكان كافور حذراً، داهية، فلم ينل المتنبي منه مطلبه ، بل إن وشاة المتنبي كثروا عنده ، فهجاهم المتنبي ، و هجا كافور ومصر هجاء مرا ومما نسب إلى المتنبي في هجاء كافور:

لا تشتري العبد إلا والعصاة معه  إن العبيد لأنجــاس مناكــيد

واستقر في عزم المتنبي أن يغادر مصر بعد أن لم ينل مطلبه ، فغادرها في يوم عيد ، وقال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور وحاشيته ، والتي كان مطلعها:

عيد بأية حال عدت يا عيد   بما مضى أم لأمر فيك تجديد

لم يكن سيف الدولة وكافور هما من اللذان مدحهما المتنبي فقط ، فقد قصد العراق وفارس ، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز .


*مقتله

كان المتنبي قد هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدة شديدة هي:

مَا أنْصَفَ القَوْمُ ضبّهْ وَأُمَّهُ الطُّرْطُبّهْ
وَإنّمَا قُلْتُ ما قُلْـ ـتُ رَحْمَةً لا مَحَبّهْ
وَحيلَةً لَكَ حَتّى عُذِرْتَ لوْ كنتَ تَأبَهْ
وَمَا عَلَيْكَ مِنَ القَتْـ ـلِ إنّمَا هيَ ضَرْبَهْ
وَمَا عَلَيْكَ مِنَ الغَدْ رِ إنّمَا هيَ سُبّهْ
يَا قَاتِلاً كُلَّ ضَيْفٍ غَنَاهُ ضَيْحٌ وَعُلْبَهْ
وَخَوْفَ كُلّ رَفِيقٍ أبَاتَكَ اللّيْلُ جَنْبَهْ
كَذا خُلِقْتَ وَمَنْ ذا الّـ ـذِي يُغَالِبُ رَبَّهْ
وَمَنْ يُبَالي بِذَمٍّ إذا تَعَوّدَ كَسْبَهْ
فَسَلْ فُؤادَكَ يا ضـ بَّ أينَ خَلّفَ عُجْبَهْ
وَإنْ يَخُنْكَ فَعَمْرِي لَطَالَمَا خانَ صَحْبَهْ
وَكَيْفَ تَرْغَبُ فِيهِ وَقَدْ تَبَيّنْتَ رُعْبَهْ
مَا كُنْتَ إلاّ ذُبَاباً نَفتْكَ عَنّا مذَبّهْ
وَإنْ بَعُدْنَا قَليلاً حَمَلْتَ رُمْحاً وَحَرْبَهْ
وَقُلْتَ لَيْتَ بكَفّي عِنَانَ جَرْداءَ شَطْبَهْ
إنْ أوْحَشَتْكَ المَعَالي فإنّهَا دارُ غُرْبَهْ
أوْ آنَسَتْكَ المَخَازي فإنّهَا لَكَ نِسْبَهْ
وَإنْ عَرَفْتَ مُرَادي تكَشّفَتْ عَنكَ كُرْبَهْ
وَإنْ جَهِلْتَ مُرَادي فإنّهُ بِكَ أشْبَهْ

 

فلما كان المتنبي عائدًا يريد الكوفة ، وكان المتنبي في جماعة منهم ابنه محشد وغلامه مفلح ، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي ، وهو خال ضبّة ، وكان في جماعة أيضًا. فاقتتل الفريقان وقُتل المتنبي وإبنه وغلامه بالنعمانية بالقرب من دير العاقول غربيّ بغداد. ويقال أنه لما ظفر به فاتك... أراد الهرب، فقال له ابنه... اتهرب وأنت القائل
الخيل والليل والبيداء تعرفني    والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال المتنبي: قتلتني ياهذا, فرجع فقاتل حتى قتل، ولهذا اشتهر بأن هذا البيت هو الذي قتله. بينما الأصح أن الذي قتله هو تلك القصيدة

*منزلته الشعرية:
لأبي الطيب المتنبي مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من الشعراء العرب ، فقد كان نادرة زمانه ، وأعجوبة عصره ، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء ،يجدون فيه القوة ، والتدفق ، والشاعرية المرتكزة على الحس والتجربة الصادقة.

كان المتنبي شاعرا من شعراء المعاني وفق بين الشعر والحكمة، وجعل أكثر عنايته بالمعنى يسكبه في بيت واحد مهما اتسع ويصوغه بأبدع الصياغة التي تأخذ بالألباب. أطلق الشعر من قيوده التي قيده بها أبو تمام وخرج عن أساليب العرب المخصوصة، فهو إمام الطريقة الإبداعية في الشعر العربي.

فكان شعر المتنبي صورة صادقة لعصره ، وحياته ، فهو يتحدث عما كان في عصره من ثورات ، واضطرابات ، ويدلل على ما كان به من مذاهب ، وآراء ، ونُضج العلم والفلسفة . ويمثل شعره حياته المضطربة : ففيه يتجلى طموحه وعلمه ، وعقله وشجاعته ، وسخطه ورضاه ، وحرصه على المال ، كما تتجلى القوة في معانيه ، وأخيلته ، وألفاظه ، وعباراته .

يظهرالمتنبي في شعره شخصية واضحة ، حتى لتكاد تتبينها في كل بيت ، وفي كل لحظة ، بل هي تُضفي طابعاً خاصاً يميز شعره عن غيره . فبناءُ القصيدة بناء محكم منطقي متسلسل ، وهو يتناول موضوعه مباشرة  يقدم له بحكم تناسبه ، وقد ظهرت قصائده الموحَّدة الموضوع ، أو المتماسكة الموضوعات في كهولته ، حين كان في صحبة سيف الدولة ، وكافور ، وأما قصائده الأخرى فيسير فيها على نمط الشعر القديم ، ويمزج فيها بين فنون وأغراض مختلفة .وتمتاز معانيه بقوتها وفخامتها ، وسموها غالباً ، وكثيراً ما يركزها في صورة حقائق عامة ، ويصوغها في قوالب حكمة بارعة . وتختلف الأخيلة في شعره تبعاً لمراحل حياته ، ويمتاز خياله بالقوة والخصب : وألفاظه جزلة ، وعباراته رصينة ، تلائم قوة روحه ، وقوة معانيه ، وخصب أخيلته ، وهو ينطلق في عباراته انطلاقاً ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة .

*قال فيه ابو العلاء المعري

 إنه أشعر المحدثين. ضَمَّن شعره كثيرا من الأمثال والحكم، واختص بالإبداع في وصف القتال والتشبيب بالأعرابيات، وأجاد التشبيه وإرسال المثلين في البيت الواحد، وأبدع المديح والهجاء .

*وقالو فيه حديثاً

-محمد بنيس [شاعر وناقد من المغرب]
كان شوقي في مقدمة ديوانه، التي كتبها سنة 1898، ذكر أن المتنبي مات «عن نحو مئتي صفحة من الشعر تسعة أعشارها لممدوحيه». مر أكثر من قرن على هذا القول الصادر عن شاعر شاب، عاد من باريس بثقافة شعرية ابتدائية. ما ترسخ في الذهنية العربية هو هذه الرؤية القدحية التي اختتم بها شوقي كلامه على المتنبي. صورة ثبتت ونعمل يوماً بعد يوم على تخليدها، بما هي قراءة العرب الحديثين للمتنبي.

لكن لماذا غابت عن ذهنيتنا الثقافية «معجز أحمد» التي وصف بها أبو العلاء المعري ديوان المتنبي؟ ولمَ تناست هذه الذهنية ما كتبه ابن خلدون عندما وضع أبا تمام والمتنبي والمعري في مرتبة الحكماء؟ وأين ما كتبه ابن جني عن المتنبي؟ مجرد أسئلة.

لا يمكننا أن نعيد قراءة أمداح المتنبي إلا في ضوء هذه الوظيفة الإبداعية للشاعر في الحضارات الشرقية القديمة، كالصينية مثلاً. أو في ضوء رسامي بداية الحداثة الأوروبية لصور الشخصيات، كما لدى ليوناردو دافنشي ورامبرانت على الأقل. أعني تغيير مكان القراءة. لكن المتنبي هو صاحب تجربة المطلق الشعري في زمن انهيارات الحكم العربي في المشرق. وقد وجد عاشقاً له في المغرب، من أقصى الجنوب، المهدي ابن تومرت، الذي يعتبر نفسه محققاً لحلم المتنبي بإقامة دولة الموحدين. القدماء كانوا أقرب منا إلى فهم المتنبي. ولم يخطئوا. وذلك العلو الذي أقام فيه كان علو التائه، الذي أنشأ للعربية أرضاً شعرية في أقصى القول. أنا العلو، الذي للشعر. قديماً أو حديثاً. المتنبي، شاعر يبعد في القول حتى تبقى للعربية حياة، بها نتعلم من جديد كيف نكتب.

-محمد علي شمس الدين [ شاعر لبناني]


أهم ما يجعل المتنبي لقراء العربية مبهراً ومحط شغف كبير وتحيز يصل لحد الهوس أحياناً، إتيانه بإعجاز شعري في هذه اللغة، مؤسس على ضغط المعنى المحكم أو المتناقض بصيغ لغوية وشعرية، استطاع من خلالها كتابة أبيات شعرية وقصائد تكشف عما في النفس البشرية (وهي نفسه هو بالذات) من قلق وغربة وحكمة وعبث واستعلاء وشغف بالمجد واستخفاف بالناس أجمعين (حكاماً ومحكومين، ملوكاً وسوقة) وتحقيق ذاته العظمى المنتخبة على امتداد السلالات والأعراق وملء العالم بها من خلال الشعر. هو إنسان خارق شعري».

وأقول «قراء العربية» لأن شعره متصل اتصالاً عضوياً باللغة... ومن حيث ينزل المعنى في الصيغة والكلمات والإيقاع نزول الروح في الجـسد. فهو تـلميذ بـاديـة السماوة حيث العربية البكر، وتخرج على الزجاج والأخفش وابن دريد وأبي علي الفارسي كما تحزّب له أكبر فقهاء اللغة الذين عاصروه.

مشروع المتنبي ليس سياسياً، السياسة لديه جزء وتفصيل. مشروعه وجودي قائم على أنه هو السوبرمان المتحدر من قوم وأعراق ونفوس كأنها تأنف سكنى اللحم والعظم، وأنه من أجل ذلك لا بأس من تقتيل الناس (الذين يناديهم بهذا استخفافاً: «غيري بأكثر «هذا» الناس ينخدع...» وأن المجد هو القوة المطلقة «وتضريب أعناق الملوك»... وأنه هو السابق الهادي لما يقوله، وكأن جبران خليل جبران أخذ منه قوله في «السابق»: «أنت سابق نفسك يا صاح» فالمتنبي يقول:

«أنا السابق الهادي الى ما أقوله

إذا القول قبل القائلين مقول».


-سيف الرحبي [شاعر عماني]


يكمن سر المتنبي أولاً، في قوته الشعرية الاستثنائية، في طاقتها المدهشة وجموحها وتدفقها. هنا يكمن سر أسراره وفرادته التي كانت جوهرياً هي الأساس في صنع أسطورته وتعميمها على هذا النطاق الواسع الذي لم يحظ أحد من أقرانه الكبار بمثله، وإن تقاطعوا معه في الموهبة الفذة وعلو الهامة الشعرية.

من هذا المنطلق الشعري الذي غذته التفريعات والوقائع الحياتية والتاريخية الملتبسة التي زادت بالطبع في ذيـوع صيـته وشهـرته، دافـعـة إيـاه الى هذا الأفق الأسطوري الايقوني أكثر من غيره، إضافة الى كثرة اللغط واختلاف الآراء النقدية الكثيرة حوله.

حياته المليئة التي تختلط فيها الوقائع بالخرافات والأحلام التي لم تتحقق على مستوى طموحات المكانة والمجد من خارج الشعر ومجده وسلطته، على رغم وعيه انه الأبقى من الأباطرة والدول، لكن الشعر ظل كأثر يخترق الأزمنة والأجيال والأماكن المختلفة، نبع هذه الأسطورة وفحواها، حتى ولو كانت تلك الوقائع والخرافات التي أحاطت بشخصه وحياته وبصلاته بأصحاب الحكم والأمر، في مرحلة شهدت أفول الإمبراطورية العربية في شكل مأسوي مدوٍ.

ربما هال الشاعر هذا الأفول وهذا التشظي والانحطاط الذي آلت إليه أحوال الأمة، فدخل في استيهامات الطموح والسلطة والنفوذ. وربما رأى في سيف الدولة الحمداني بقايا كرامة وضوء فشكل له المثال الأرضي المفتقد، في أمة هذه حالها، فتوحد المادح بالممدوح على ذلك النحو الشعري الآسر والعميق.

قصيدته الملحمية على سبيل المثل في واقعة «الحدث الحمراء» التي خاضها سيف الدولة، هي ربما من القصائد الخالدة، في تاريخ الشعر البشري برمته، حتى ملاحم الإغريق الشهيرة ستحتاج الى إسنادات كي تستطيع أن تجاري هذا العلو والإعجاز النادرين.

تلك الملحمة التي توزعت فيها المعارك على جبهات شتى، جبهة اللغة بما تنتج من الدلالة والمعنى، الزمان والمكان، البطولات، كلها تنصهر في أتون تلك الملحمة التي تتوحد فيها اللغة الشعرية بالحدث والمعيش توحد الموت بالحياة في ذلك المشهد المتلاطم الرهيب.


-صلاح ستيتيه [شاعر لبناني بالفرنسية]
المتنبّي شاعرٌ كبير، وفي اللغة العربية هو الأكبر من دون شك. صحيحٌ أننا يمكنـنـا لومـه على أشيـاءٍ كثيرة، ولكن بالقياس إلى شعره وإلى ما استطاع إخراجه من ذاته ومن اللغة في أعلى لحظات وحيه، كل ما يؤخذ عليه يظل تافهاً. الشعراء هم أشخاصٌ مثل سائر البشر، وبالتالي يخضعون لأهواءٍ كحب السلطة والنفوذ والتبجّح والنرجسية والانعطافات السياسية الانتفاعية.

عند كثير من الشعراء، العرب وغير العرب، لاحظنا مثل هذه الانحرافات وأخطر من ذلك. في فرنسا مثلاً، ما علينا إلا تأمّل الإسراف والطيش في حياة الشاعر فرانسوا فييون، أو مدى تأثير المصائب المالية التي عرفها بودلير على حياته.

نعرف أيضاً أن راسين، الكاتب المسرحي الكبير ولكن أيضاً الشاعر الممتاز، كان جليساً (courtisan)، الأمر الذي لم يمنعه من الانسحاب من بلاط الملك لويس الرابع عشر، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، للاهتمام فقط بأبحاثه حول الدين. الأمر الذي شكّل خسارة كبيرة للمسرح وللشعر الفرنسيين.

يمكن منتقدي المتنبّي أن يقولوا ما يريدون عنه، لكن، مهما كانت هويتهم، سيظهرون دائماً كأقزامٍ أمام هذا العملاق.

وأعتقد بأن سر أسطورة المتنبي يكمن أولاً في ذلك الادعاء المدهش، في اختياره «المتنبّي» كاسم مستعار، أي ذلك الذي يتوق إلى التنبؤ. يا للغرور! يا للمغالاة النيتشوية! يا للثقة بالذات أيضاً وبقوة كلمته! وحده، المتنبّي يختصر الصحراء العربية برمّتها وكل الإرادة العربية في السيطرة على مكان التجرّد هذا، الذي وصفه المستشرق الكبير جاك برك بـ «العالم المحروم». الشاعر الكبير يحيا بحدةٍ كبيرة ويبقى كامل الوعي والحضور لوضعه كإنسان. الحياة هي نسيجٌ من التناقضات والتمزّقات. في الأتون الموحِّد للغته المبدعة. أحرق المتنبّي كل تناقضاته وحوّلها إلى مادة صافية لنشيده.

-سعد الحميدين [شاعر سعودي]


في مقـولة تحتـفـظ الذاكرة بـها منذ زمن تصور معنى الخلود والتــواصل مع الحيـاة إلى ما لا نهاية: «إذا أردت أن تحيــا بعد الموت، فاكتب شيئاً يستـحق القـراءة، أو أعمل شـيـئاً يـستـحق الكتابة».

والشاعر أبو الطيب المتنبي كتب ما يستحق القــراءة على مر الزمـــن، فبقــي في الذاكــرة الثقــافــية العربية ومن يتعامل معها لأنه شــاعر عرف أن يتفاعل مع الحياة بشعره، إذ جعله جزءاً منها يتحرك بتحــركاتها في الوقت الذي عاش كشاعر، ومعرفته التعامل مع الشعر والحياة بالتفاعل بينهما، إنه كان يدرك معنى الفن ومعنى الحياة وكيفية المزج بينهما إلى حد الانــدماج في شريحة واحـدة متكامــلة، منها يمكــن النظر إلى الحدث الآني واللاحق في فترته، فهو قد امتاز عن سواه بالذوق، وحدة الذكاء، وسعة الاطلاع على فنون الحياة وآدابها مما هو موضــوع وما هو معرب، خصوصاً التاريخ والفلسفــة، إذ اشتهر بأنه من كبار المثقفين في عصره، وحبه للقراءة يجسده قوله:

«أعز مكان في الدنا سرج سابح

وخير جليس في الأنام كتاب».

وقد رافقت ثقافته طموحاته المتعددة وتنقلاته بحثاً عن المجد وعن مساحات الحرية التي يقول فيها مادحاً من يرى انه كفوء لذلك على أن يكون مدحه لذاته متماهياً مع ممدوحه فهو حاضر في نصه الذي يتقنه كصانع، إضافة إلى موهبته الفذة في تفصيل الحدث بالمقاسات اللازمة التي لا تحتاج إلى أي «رتوش» على أن (أناه) لا تغيب لأنها من صنعت له مكانة:

«أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

واسمعت كلماتي من به صمم».

فثقافة الشاعر وحرصه على تحديد الزمكانية مع تفرده بخاصيته التي خلفها لنفسه بكده وجهده وقوة شخصيته مع فرضه إيقاعه الخاص على فترته، جعلته صورة ذات أبعاد مخترقة للآتي كمثال على الشاعر الذي يشعر بأنه شاعر فقولب نفسه في دائرته الشعرية حيث لم يبرح الشعر، ولم يذهب إلى فنون أخرى قد تؤثر على عطائه وتشغله عن شغله الشاغل (الشعر)، على رغم من قوله:

«الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم».

وسر بقائه يكمن في أنه نسيج وحده بحرصه على شعره ورفعه لنفسه، واعتزازه بها ويجيء ذلك بحكم ثقافته الواسعة، وتفرغه لشعره، واستفادته من الاطلاع على الثقافات الأخرى، وقدرته الخارقة على الهضم على تطعيم ذلك بسخرية لاذعة إذا اقتضى المقام:

«وما طربي لما رأيتك بدعة

لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب».

ويكفي أن فيلسوف عصره أبو العلاء المعري وصف شعره في كتابه الضخم (معجز أحمد)، الذي توجه إلى أن المتنبي بزّ من قبله وأحرج من بعده، إذ استطاع مخاطبة الخاصة والعامة بأسلوب راق واصل للجميع.

غربة ... غرابة وتغريب


-حاتم الصكََر [شاعر وناقد عراقي]


يكمن مشكل المتنبي - شخصه وشعره - في قراءته نمطياً ضمن شعرية سائدة تتبوب وتتنضد في أغراض وموضوعات تؤدي معاني ودلالات تقليدية، وضمن صلة متخيلة بين الشاعر وممدوحيه تلخصها التبعية والتصاغر، فيما يقترح المتنبي نفسه أن يُقرأ لا على مثال أو نموذج، كما أن صلته الندّية بممدوحيه تقترح صورة أخرى لشاعرٍ قلقٍ لا يستريح ولا يهدأ بما يرضى به الناس ويستريحون.

وفي القليل الذي يُنسب الى المتنبي من تفوهات وأقوال خارج متنه الشعري تتضح خصوصيته - المشكلة، فقد صرّح بضجره من الإقامة مستقراً في مكان، وقال: إنه ملقى من هؤلاء الملوك الذين يعطونه عرضاً زائلاً مقابل النفيس الذي يمنحهم إياه شعره، كما يقيدونه من الترحال والتنقل. ولما كانت له (ضجرات واختيارات) كما يسميها، فإنه يضطر إلى مفارقتهم على أكره الوجوه وأقبحها.

تلك الضجرات والاختيارات هي التي سقطت من برامج قراءة المتنبي المتعاقبة، فتسلط الضوء على أناه المتضخمة، أو تقلباته من مدح الشخص إلى هجائه بشدة، وحماسته في الحالين، والإلحاح في طلب الجاه والمال، أو الطموح المسرف - في أخف الأوصاف - وما يتبع ذلك من تفسير شعره وإدراجه نمطياً بتسطيح أبنيته ودلالاته.

تلك الفرادة ستدفع ثمنها النصوص التي فات قراءه ما فيها من مخبوء ومسكوت عنه، فهو شاعر حرب وفروسية كما تقدمه القراءات المدرسية، فيما نستطيع الاستدلال على أنه شاعر سلم بامتياز ليس فقط في لوحته الوصفية لشعب بوان وشكوى حصانه من مفارقة هذه الجنان إلى الطعان جرياً على معصية آدم ووراثةً له في مفارقته الجنة، بل في تصويره لبشاعة الحرب حتى في حالة النصر، فقلعة الحدث البيضاء المسقية بالغيم السخي تعود حمراء من دم القتلى بعد أن نزل بها سيف الدولة: «سقاها الغمام الغرّ قبل نزوله/ فلما دنا منها سقتها الجماجمُ».

وإذا كان الممدوحون يغترون بقوتهم، فإن الموت يقهرهم في قصائد المتنبي، لأنه يصول بلا سيف ويمشي بلا قدم كعدوٍ لا مرئي يفوق قدراتهم، بل هو ينوب عنهم في قهر أعدائهم ويسلبهم نشوة النصر عليهم: «فما لكَ تختار القسيَّ وإنما/ عن السعد يرمي دونكَ الثقلانِ».

وهكذا يتوقف عند الغزل مترفعاً يطلب الوصال من المرأة قبل أن يتحول حسنها بالموت ويلوم العشاق مراراً لأنهم لم يتفكروا في مصير من يحبون ومنتهى أمرهم بالموت.

المرأة والحرب والإقامة في وطن أو أسرة أو بلاط هي بعض مشكلات المتنبي التي لم تترسخ كمفاتيح لقراءةٍ توائمُ تناقضاته الظاهرية أو تفسر شعره بهدي ضجراته واختياراته التي كانت وراء غربته وغرابته وتغريبه.



-إبراهيم نصر الله [شاعر فلسطيني ـ أردني]


قبل عشرين سنة كتبت مقالا عنوانه «ما الذي يريده الشعراء؟» وكان مكرساً للمتنبي في شكل خاص، واليوم أجد نفسي أمام السؤال نفسه من جديد، لأن ظاهرة المتنبي تجاوزت حدود الماضي لتصبح ملمحاً أساساً في حياتنا الثقافية العربية المعاصرة في شكل واسع، ولذا، فبقدر ما يتعلق الأمر بالمتنبي وعلاقته بالسلطة، فإنه أحد أهم مظاهر الثقافة العربية اليوم، في حالة حيادها، إن لم نقل في حالة صمتها وركضها المحموم نحو الوصول لامتلاك السلطة، أي سلطة.

مما لا شك فيه، أن المتنبي كان المثال الأكبر الذي يجمع في داخله بين الشاعر الكبير والشخص الساعي لمنصب أقل من شعريته، وهو بذلك وجه من وجوه التراجيديا، حيث السلطة تتحول إلى عَقب، كما حدث مع آخيل ذات يوم. لكن المتنبي رغم ذلك لم يمت، بل عاش، لأنه في ظني أكثر تعقيداًً من الأمثولة الإغريقية، لا لشيء إلا لأنه مكوّن من طبقات كثيرة من النقائض الإنسان والمثقف مجتمعين، وهو بذلك صورة لنصه، الذي كلما وصلنا إلى طبقة جديدة من طبقاته، تبين لنا أننا لم نكتشف الطبقة التي سبقتها تماماً. إنه بعبارة أخرى شخصية روائية مثالية خارج التنميط المبسط، وهو بذلك ليس شاعراً فقط، بل سؤالا إنسانياً لم يزل يطرحه البشر على أنفسهم وهم يسعون بكل ما لديهم للوصول إلى السلطة، أي سلطة يعتقدون أن كينونتهم لا تتحقق وتكتمل إلا بوصولهم إليها.

هل كان المتنبي يريد حماية نصه وهو يسعى لامتلاك السلطة، أم كان نصه الذريعة التي لا بد أن يملكها وهو يرى أن السلطة من حقه هو أكثر من سواه؟

أما لماذا عاش كل هذا الزمن، فلعل ذلك يعود إلى سببين، الأول أننا لا نستطيع الاختلاف على شعره كثيراً، والثاني أن هناك ثقافة تَعبرُ فكرة الاختزال، لأن الاختزال يعني اكتفاءها بالواحد ويريحها من السعي للبحث عمن سواه، حتى وإن كان بمستواه أو ربما أفضل. هل تغير الزمن كثيراً؟ لا أظن ذلك.

 ظل شعر المتنبي مددا في كل عصر لكل شاعر وكاتب، وما يزال يحتفظ بمجده وشهرته إلى يومنا، لا يدانيه أحد من الشعراء .

 روائع أشعاره، أقواله، وأمثاله :

لا تعــذل المشــتاق فــي أشـواقه     حــتى يكـون حشـاك فـي أحشـائه

إن القتيـــل مضرجــا بدموعــه     مثــل القتيــل مضرجــا بدمائـه


يقول فيما عاناه من نوائب الزمان:

لـم يـترك الدهـر فـي قلبي ولا كبدي     شــيئا تتيمــه عيــن ولا جــيد

يــا سـاقيي أخـمر فـي كئوسـكما    أم فــي كئوســكما هــم وتسـهيد

أصخــرة أنــا مـا لـي لا تتيمنـي     هــذي المــدام ولا تلـك الأغـاريد

إذا أردت كــميت اللــون صافيــة     وجدتهــا وحــبيب النفس مفقــود


في العفة مع الحبيب :

وأشــنب معسـول الثنيـات واضـح    ســترت فمـي عنـه فقبـل مفـرقي

وأجيــاد غــزلان كجـيدك زرننـي     فلــم أتبيــن عـاطلا مـن مطـوق

ومـا كـل مـن يهـوى يعف إذا خلا     عفـافي ويـرضي الحب والخيل تلتقي


في وداع الأحبة :

ولــم أر كالألحــاظ يـوم رحـيلهم     بعثـن بكـل القتـل مـن كـل مشفق

أدرن عيونـــا حــائرات كأنهــا    مركبــة أحداقهــا فــوق زئــبق

عشــية يغدونـا عـن النظـر البكـا    وعـن لـذة التـوديع خـوف التفـرق

في آلام الحب والهوى :

أرق عـــلى أرق ومثــلي يــأرق     وجــوى يزيــد وعــبرة تـترقرق

جـهد الصبابـة أن تكـون كمـا أرى     عيــن مســهدة وقلــب يخــفق

مــا لاح بــرق أو تــرنم طـائر     إلا انثنيــت ولــي فــؤاد شــيق

جـربت مـن نـار الهـوى ما تنتطفي     نــار الغضـى وتكـل عمـا تحـرق

وعــذلت أهـل العشـق حـتى ذقتـه     فعجـبت كـيف يمـوت مـن لا يعشق

وعــذرتهم وعــرفت ذنبـي أننـي     عــيرتهم فلقيــت فيـه مـا لقـوا.


في مفارقة الأحباب :

لـولا مفارقـة الأحبـاب مـا وجـدت     لهــا المنايــا إلـى أرواحنـا سـبلا

في أهل العزم :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم     وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها    وتصغر في عين العظيم العظائم

في نوائب الأيام :

عــرفت نــوائب الحدثــان حـتى     لــو انتســبت لكــنت لهـا نقيبـا

في التبرم بالحياة وتمني الموت لندرة الصديق :

كـفى بـك داء أن تـرى الموت شافيا     وحســب المنايــا أن يكـن أمانيـا

تمنيتهـــا لمـــا تمنيــت أن أرى     صديقــا فأعيــا أو عـدوا مداجيـا

في الفخر بنفسه :

ومــا أنــا إلا ســمهري حملتــه     فــزين معروضــا وراع مســددا

ومـا الدهـر إلا مـن رواة قصـائدي     إذا قلـت شـعرا أصبـح الدهـر منشدا

فســار بـه مـن لا يسـير مشـمرا     وغنــى بـه مـن لا يغنـي مغـردا


وفي ذلك يقول:

لا بقـومي شـرفت بـل شـرفوا بـي     وبنفســـي فخــرت لا بجــدودي

وبهــم فخــر مـن نطـق الضـاد     وعــوذ الجــاني وغـوث الطريـد

إن أكــن معجبــا فعجـب عجـيب     لــم يجـد فـوق نفسـه مـن مزيـد


في علو الهمة وتمجيد الكرامة:

أعطـى الزمـان فمـا قبلـت عطـاءه  وأراد لـــي فــأردت أن أتخــيرا


في حال الدنيا :

وقــد فـارق النـاس الأحبـة قبلنـا     وأعيــا دواء المــوت كـل طبيـب

سـبقنا إلـى الدنيـا فلـو عـاش أهلها    منعنــا بهــا مـن جيئـة وذهـوب

تملكهــا الآتــي تملــك ســالب     وفارقهــا المــاضي فـراق سـليب

وقوله:

لحـا اللـه ذي الدنيـا مناخـا لـراكب     فكــل بعيــد الهــم فيهـا معـذب

وقوله:

أبــى خــلق الدنيـا حبيبـا تديمـه     فمــا طلبــي منهــا حبيبـا تـرده


و يندب حظه فيقول:

مــاذا لقيــت مـن الدنيـا وأعجبـه     أنــي بمـا أنـا بـاك منـه محسـود

أمســيت أروح مــثر خازنـا ويـدا     أنــا الغنــي وأمــوالي المواعيـد


في حظ الجهال في الحياة :

تحــلو الحيــاة لجــاهل أو غـافل     عمــا مضــى منهـا ومـا يتـوقع

ولمــن يغـالط فـي الحقـائق نفسـه     ويســومها طلــب المحـال فتطمـع


في فراق الصديق المتغير :

إذا صـــديق نكـــرت جانبـــه     لــم تعنــي فــي فراقـه الحـيل

فــي ســعة الخـافقين مضطـرب     وفــي بــلاد مــن أختهـا بـدل

في مدح شعره يقول:

ومـا قلـت مـن شـعر كـأن بيوتـه     إذا كـتبت يبيـض مـن نورهـا الحبر

كـأن المعـاني فـي فصاحـة لفظهـا     نجــوم الثريــا أو خـلائقك الزهـر

*وقد كثرت في شعر المتنبي الأمثال الحكمية منها ما يدل على عمق بصيرته ونفاذ تفكيره:

ومـــن جــهلت نفســه قــدره     رأى غــيره منــه مــا لا يـرى


ومــا كـل وجـه أبيـض بمبـارك     ولا كــل جــفن ضيــق بنجـيب


ومـن صحـب الدنيـا طـويلا تكشفت     عـلى عينـه حـتى يـرى صدقها كذبا


أرى كلنــا يبغــي الحيــاة لنفسـه     حريصـا عليهـا مسـتهاما بهـا صبا

فحــب الجبـان النفس أورثـه التقـى     وحـب الشـجاع النفس أورثـه الحربا


ويخــتلف الرزقـان والفعـل واحـد     إلـى أن يـرى إحسـان هـذا لـذا ذنبا


ومــن ركــب الثـور بعـد الجيـاد     أنكــــر أظلافـــه والغبـــب


كثــير حيــاة المـرء مثـل قليلهـا     يـزول ومـاضي عيشـه مثـل حاضر


فمــا الحداثــة مـن حـلم بمانعـة     قـد يوجـد الحـلم فـي الشبان والشيب


وكـل امـرئ يـولي الجـميل محـبب     وكــل مكــان ينبـت العـز طيـب


لــو فكــر العاشــق فـي منتهـى     حســن الــذي يسـبيه لـم يسـبيه


بـذا قضـت الأيـام مـا بيـن أهلهـا     مصــائب قــوم عنـد قـوم فوائـد


فــإن قليـل الحـب بـالعقل صـالح     وإن كثــير الحــب بـالجهل فاسـد


ومـن يجـعل الضرغـام بـازا لصيده     تصيــده الضرغــام فيمـا تصيـدا


ومــا مــاضي الشــباب بمسـترد     ولا يــــوم يمـــر بمســـتعاد


فــإن الجــرح ينفــر بعـد حـين     إذا كــان البنــاء عــلى فســاد


وأســرع مفعــول فعلــت تغـيرا     تكــلف شـيء فـي طبـاعك ضـده


فـلا مجـد فـي الدنيـا لمـن قل ماله     ولا مـال فـي الدنيـا لمـن قل مجده


وفـي النـاس من يرضى بميسور عيشه     ومركوبــه رجــلاه والثـوب جـلده


وإذا الحــلم لــم يكـن فـي طبـاع     لـــم يحـــلم تقــادم الميــلاد


وإذا كــان فــي الأنــابيب خـلف     وقــع الطيش فـي صـدور الصعـاد


فقـد يظـن شـجاعا مـن بـه خـرق     وقــد يظـن جبانـا مـن بـه زمـع

إن الســلاح جــميع النـاس تحملـه    وليس كــل ذوات المخــلب السـبع


ومـا الحسـن في وجه الفتى شرف له     إذا لــم يكـن فـي فعلـه والخـلائق


وجــائزة دعـوى المحبـة والهـوى     وإن كــان لا يخـفى كـلام المنـافق


ومـا يوجـع الحرمـان من كف حارم     كمـا يوجـع الحرمـان من كفر رازق


وإذا مــا خــلا الجبــان بـأرض     طلــب الطعــن وحــده والـنزالا


مــن أطـاق التمـاس شـيء غلابـا     واغتصابــا لــم يلتمســه نــوالا

كـــل غـــاد لحاجــة يتمنــى     أن يكـــون المظفـــر الرئبــالا

أبلــغ مــا يطلــب النجــاح بـه     الطبــع وعنــد التعمــق الــزلل

 

 



 

 

عالية كريم

رئيسة تحرير "معكم"

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved