منظرٌ مع سقوط إيكاروس

2014-08-26
 //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/4656ce36-5295-49ff-b8bf-317d41d52c24.jpeg
ليس من سببٍ وجيهٍ في علاقتي المبكرة بالرسّام الآتي من القرن السادس عشر : بْروغِل
Bruegel 1525-1569
الفلاّح ، كما يُعْرَف ، ويُعَرَّف ...
المصادفةُ المحضُ هي التي جعلت هذا الرجل ، دون سواه ، أو مع سواه ، يحتلّ مكانته 
في عقلي الباطن ، ويحتلّ مكانه  في أعلى جدار السُـلـَّمِ  بمنزلي، في الضاحية اللندنية.
( قبل أيام جاءني يوسف الناصر بعد أن أغلق غاليري آرك بطبعة مكبّرة من اللوحة موضع الحديث هذا )
*
عملانِ من أعماله ظلاّ يسكنانني :
1- منظر مع سقوط إيكاروس
2- شتاء
لكني ، اليوم ، أحاولُ أن أتحدث عن علاقتي مع العمل الأول .
قبل الحديث، عليّ أن أقدِّم معلومةً  ضروريةً تتّصلُ بالعمل الأول .
إيكاروس، هو ابنُ ديدالوس الصانع الأثينيّ الماهر، الذي استدعاه مينوس، ملك كْريت، كي يبني قرب قصر الملك في كنوسوس ( حيث اشتغل شييلمان الآثاري الألماني في حفرياته الشهيرة )، المتاهةَ، اللابرينث، كي يُحتجَز المينوتور ( نصف إنسان ونصف ثور ) وليدُ زوجة مينوس من سِفاد الثور الكريتيّ  ( أساطير الأوّلين ... )
ومثل جزاء سِنِمّار في الثقافة العربية، سجنَ الملكُ مينوس، ديدالوس، في اللابرينث نفسه ... إلخ .
أرادَ ديدالوس أن يساعدَ ابنَه، إيكاروس، في الفرار من مـحبِس كريت، فأعدَّ له جناحَين ثبّتَ قوادمَهما، وخوافيهما بالشمع  .
طار إيكاروس منتشياً  ...
وظلَّ يُصَعِّدُ في طيَرانه .
لم ينتبهْ إلى أن شمع الخوافي بدأ يذوب من حرارة الشمع .
وكما تقول العرب : الخوافي قوّةٌ للقوادمِ  ...
فجأةً وجد إيكاروس أنه يحرِّكُ ذراعَين بلا جناحَينِ .
هوى إيكاروس.
سقطَ في البقعة التي تحمل اسمه الآن : البحر الإيكاري
قربَ إيكاريا وهي جزيرة جنوب غربيّ ساموس  ،
ساموس التي ذكرَها اللورد بايرون في بيتيه الشهيرَين :
Dash down your cup
Of Samian wine
A land of slaves
Will never be mine.

وبترجمتي :
حَطِّمْ كأسَكَ
من خمرةِ ساموس
لا أرضى ببلادِ عبيدٍ
لي أرضا ...

أكاديمية الطيَران اليونانية، الآن، تحمل اسم إيكاروس !
*
لم أكن أدري أن لوحة  " منظر مع سقوط إيكاروس " كانت مادة قصيدةٍ لشاعر الثلاثينيّات العظيم ،
أودِن  ...
قصيدة أودِن عن اللوحة تتماهى مع رأي شهيرٍ له عن الوعي والجماهير، وهو غير بعيدٍ عن رأي تولياتي القائد الشيوعي الإيطالي العظيم .
لقد انتبه أودِن إلى أن الفلاّح قد أدارَ ظهره إلى البحر، مكتفياً بأن الشمس ساطعةٌ، وبأنه يواصل الحراثة مشدوداً كالحصان إلى المحراث  .
لم ينتبهْ هذا الفلاّحُ إلى أمرٍ كان سيُغَيِّرُ العالَم !
*
اللوحةُ أمامي الآن .
وكما تُقرأُ لوحاتُ المناظر الطبيعية، عادةً، تُقسَمُ اللوحة إلى أقسامها الثلاثة :
القسم الأول يحتلُّ فيه الفلاّحُ ومحراثه وحصانه، المساحةَ، مع ملامح من الساحل.
القسم الأوسط  : البحر .
القسم الأعلى : السماءُ التي تبدو بيضاء لشدّة الوهج .
*
أين إيكاروس ؟
*
 في أقصى يمين القسم الأوسط، تجدُ ذراعاً  تنْجُمُ عن الماء :
ذراع إيكاروس الذي يغرق !

*
أُفكِّرُ الآن :
كيف اجتمع بروغل وأودِن على رؤيا واحدةٍ ؟
وبين ضخامة الفلاّح ومحراثه وحصانه،  وخطفةِ ذراع إيكاروس  ...
ألا نقرأُ واقعَنا التافه ؟


لندن 17/10/2013



سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved