نحن في العام 1991، والبلاد تدخل نفقا مظلما آخر، تضيق معه الحياة لكن لهذه قانونها الخاص، فهي تمر حتى وان بدا الألم يغطي كل مشهد من مشاهدها الواسعة . في تلك الأيام، وكنوع من انغماس كاتب السطور الشخصي، بالبحث عن هوية عراقية ثقافية، فقد توقف مليا عند سلسلة من المقطوعات الموسيقية لمؤلف وعازف على العود يحمل إسم خالد محمد علي، وحرص "تلفزيون بغداد"، على عرض بعض منها بين فقراته .
المقطوعات كانت تلفت الإنتباه إليها بهدوء ممزوج بسحر ما فيها من نغم عذب، لا يبدو متحذلقا في إستعارة انفعالات زائدة، أكانت في طريقة العزف على العود، أو في شكل التأليف وقوالبه . انها موسيقى عربية الهوى وشرقية الروح، لكنها أيضا تنزع نحو تعبير مختلف . هنا الإمتياز الأكبر لموسيقى خالد محمد علي، وهنا عمقها في البناء وفتنتها أيضا في الإقتراب من الأسماع والأرواح .
والى جانب فضائل التأليف والعزف والتوزيع الذي بدا حيويا، على الرغم من التقنيات المحدودة، ثمة التصوير اللمّاح والآخراج المتقن، ففي مقطوعة "أوتار حائرة" التي كتبها العام 1986، وقام بتوزيعها محمد علي، قدم المخرج، خليل إبراهيم قراءة موحية للعمل، منذ أن وضع العازف والمؤلف وسط مرج أخضر، وبما عكس رؤية جديدة، خرجت بجرأة من إطار الاستديو التلفزيوني أو القاعة المغلقة إلى فضاء مفتوح .
"أوتار حائرة" كما الناس والبلاد ؟
والعنوان "أوتار حائرة" كان قد حمله شريط صدر في أوائل تسعينيات القرن الماضي، والذي يستحق بجدارة أن يكون واحداً من أفضل الأعمال الموسيقية العراقية خلال الربع قرن الماضي . صحيح أن التركيب النغمي يتصل في الأثر السمعي لأعمال الخارق جميل بشير، إلّا انها كمؤلفات وطريقة عزف، كانت تنزع إلى أن تكون ذاتها، وتنتمي إلى وقتها، لجهة التعبير عن الأزمات الإنسانية المعاصرة (وحال البلاد الخارجة تلك الأيام من مجزرة حقيقية)، فجاءت حداثتها عبر ذلك البناء، وعبر تعاونٍ راقٍ بين المؤلف وإثنين من أبرع الموسيقيين العراقيين الشبان حينها، العازف والمؤلف محمد عثمان صديق، والعازف والمؤلف والمغني رائد جورج . وساهم هذا التعاون بين العود كسياق نغمي رئيسي والآلات الغربية التي شكلت الأرضية التصويرية، لمعاني الحيرة التي عبرت من كونها شخصية متعلقة بالموسيقي (أوتار)، إلى بعدها الإنساني الواسع الذي تلقفته الأسماع، فهي حيرة المصير البشري بين عناءات تبدأ ولا تنتهي، وهي في بلاد محمد علي، حيرة مضاعفة، فالإنسان فيها كان تحت ضغوط جبارة تكاد تلخصها تلك النقرات على الأوتار التي تنتج أنغاماً ملتاعة وشجية .
بعد "أوتار حائرة" التي كانت سبقتها عدة مقطوعات غير مسجلة، وضع محمد علي مقطوعات مثل "ينابيع" عام 1998 و "التل والقمر" عام 1991، و "ألوان" عام 1990 ومن "وحي الآندلس" عام 1993. وجميع هذه المقطوعات جاءت على قالب "السماعي" الذي له أصوله وقواعده وهو الشكل الأكثر رسوخا في التأليف للموسيقى العربية .
في مقطوعة "ألوان" فيض من المشاعر، وبدا العنوان متصلا بالمضمون النغمي، فثمة انتقالات بالمشاعر بين فيض وآخر، ولون وآخر، لكن ضمن وحدة تعبير، حرص عليها التوزيع الموسيقي الفطن الذي تولاه المؤلف والعازف، عصام الحكيم .
وفي السياق التصويري جاءت مقطوعة "التل والقمر"، وفيها يتأكد معنى القول أن خالد محمد علي، مؤلف موسيقي من طراز رفيع، وعازف على العود بأوتار صريحة، لا لكنة غريبة وزائدة في أنغامها، حتى وأن قاربت بجرأة، صوت آلة الساكسيفون، في حوار رقيق ومكثف الدلالات، حد أنه بدا أول عمل موسيقي عراقي يقارب الآلات الغربية عبر تطويعها في إنتاج نغمي شرقي الروح والشكل .
وبالعودة إلى تلك الأيام التي تعرّف عبرها كاتب السطور إلى موسيقى محمد علي، ظلت هذه المقطوعة الفذة التركيب والعزف، وإن جاءت ضمن قالب موروث ورصين، علامة يقدمها لزائري بيته من الأصدقاء، على روح جديدة في الموسيقى العراقية، تتفهم تلك الإشارات القوية التي بدأها الرائد في هذا المجال، جميل بشير، وتؤسس عليها ومن ثم تكوّن شخصيتها المميزة، لتصبح أنغاما تتصل بزمنها وتعبر أزماته ومتاعبه، لتنفتح نحو تعبيرية إنسانية واسعة .
ومعنى تعبير المؤلف الموسيقي عن عصره، كما يمكن هذا تلمسه في أعمال محمد علي الآنفة الذكر، يتجسد بعمق أكبر في مقطوعة "انتظار" التي تولى توزيعها أيضا، بما سمح إظهار تجليات العنوان ودلالاته، فثمة الترقب، والتردد ان شئت، عبر آلة العود بمقابل الأصوات الحادة للكمانات والبيانو كانها الأقدار التي لا ترد . أظن أن صدق القول على أن عملا موسيقياً يظل قادراً على التأثير حد التجلي في كل مرة يمكن فيها الإستماع إليه، فانما يصدق بقوة على عمل نادر كهذا، يجمع الرقة النغمية إلى جانب المضمون المعبر عن الأزمة الإنسانية والروحية بصدق وجمال .
وكم كنت أتمنى أن تتوافر الأمكانيات المادية الخلاقة، لإعادة تسجيل هذه الأعمال الفاتنة في شريط "أوتار حائرة" وتقديمها بما يليق بها .