مقابلة

2013-06-10
مقابلة أجراها برهان شاوي لجريدة الاتحاد الإماراتية ذات عام من القرن الماضي.

- ما أثارني في قصصك، لا سيما تلك المنشورة في مجموعتك (شجرة المغفرة) ذلك التركيز على أسلوب الكتابة، على صفاء اللغة وبناء الجملة، وذلك التأكيد على الايحاء اللغوي، على منح الواقع دلالات جديدة من خلال التركيز على الأسطورة والخرافة، بحيث يمكن التعامل مع قصتك ليس كجنس أدبي فحسب وإنما كنص إبداعي، ولكن كما يقول باختين: "إن لكل كلمة بل لكل حرف في العمل الأدبي امتدادات خارج حدود النص"، امتدادات في التاريخ، في اللاوعي الفردي والجمعي وفي الميثولوجيا، فهل لك أن تضيئي لنا عتمة بعض هذه الامتدادات بالنسبة لك؟

- في سنوات الطفولة كان لدينا الوقت وكانت لدينا الحكايات. لم تكن ثمة لعب، أجهزة أو رحلات ننشغل بها. ماذا كان بوسع طفل أن يفعل؟ كان الكبار مشغولين عنا، كنا متروكين لأنفسنا، وكانت الحكاية تفتح لنا أبواب الحلم. ليست الحكاية الشعبية مادة للتسلية، وإنما هي التأريخ مكتوبا في صيغته الفنية، تأريخ لا يروي حياة الملوك والأمراء وأعمالهم الحربية والعمرانية، وإنما حياة الإنسان البسيط في مسعاه من أجل العيش، في أفراحه وهمومه.

ثم كان الكتاب المدرسي. كانت النصوص يومذاك نصوصا منتقاة من الأدب العربي والعالمي. نصوصا لم يفسدها هوى الحكام. إن نصوصا مثل "حلم معن بن زائدة" الأمير الذي لا تخرجه كلمات الشاعر عن هدوئه، وهذا الحوار الرائع:

"- أتذكر إذ رداؤك جلد شاة وإذ نعليك من جلد البعير

- أذكر ذلك ولا أنساه

.....

- فسبحان الذي أعطاك ملكا وعلمك الجلوس على السرير

- سبحانه وتعالى"

إذا كنت أتذكر النص بعد أكثر من أربعين سنة فذلك لأنه يمتلك قوة هائلة. ثمة نصوص أخرى كثيرة تركت أثرها في القلب. إن نصا مثل "الدرس الأخير" وهو نص قدمه الكتاب المدرسي كقصة تحدث في الأيام الأخيرة للعرب في الأندلس بعد سقوط دولتهم، حيث يعطي معلم العربية الدرس الأخير. بعد ذلك بسنوات طويلة وقعت على النص مترجما من اللغة الفرنسية وأدركت معنى العبارة المختصرة التي كانت تذيل عددا غير قليل من النصوص "منقول بتصرف". لقد حول هذا "التصرف" مكان الحدث وزمانه من فرنسا في مواجهة النازية إلى الأندلس في زمن سقوط الدولة العربية. وقد كان هذا التصرف موفقا حتى أنه لم يؤثر في قوة النص وتأثيره.

الأشعار التي كان أبي يحفظها عن ظهر قلب وآلاف الأبيات من الشعر العربي التي حفظتها بعد ذلك.

التربية الدينية التي طبعت الكثير منا: الجنة والنار، الملائكة والشياطين، الكائنات غير المنظورة التي ترانا وتحسب علينا خطواتنا، الحياة بعد الموت والنهوض من الموت، من هذه البئر أغترف، بئر عامرة مليئة بالأسرار، لا تكشف عما فيها مرة واحدة ولا تمنح كنوزها إلا لمن يعرف قدر هذه الكنوز.

- حينما يحاول القارئ رسم الصورة الجسدية لشخصيات قصصك فإنه يصطدم بالأشباح، فليس هناك شخصيات مجسدة حسيا وإنما ظل للشخصيات، فالأم، الأب، الرجل، الإبن، الفتاة، الإبنة، وحتى الشخصيات المعرفة: أحمد، زينة، إسماعيل، ليست إلا كائنات غير مجسدة، إنها تتحدث، تتحرك، تنفعل، تعاني، لكنها شخصيات غير واضحة الملامح، وهذا ما ذكرني بالكاتب الياباني (تاينزاكي) في كتابه الجميل "مديح الظل" حينما يتحدث عن ميل الشرقيين للبحث عن الجمال في الظلام، والتلذذ بالظل والجمال الشبحي، كيف تفسرين أنت ذلك؟

إنك إذ تقرأ "شجرة المغفرة" ستكتشف أن أحمد هو طفل عادي. كان يمكنني أن أقدم له وصفا، فشعره أسود حالك كالليل وعيناه السوداوان تشعان ببراءة الطفولة ورداؤه..." إنها الصورة النمطية لطفل عربي. إنني لن أقدم بذلك شيئا ذا بال، شيئا يضيف إلى القصة بعدا أو يرفع من قيمتها الفنية. على العكس فإن هذا الوصف لطفل يستطيع القارئ دون معونة مني أن يتخيل صورته، سيصرف الذهن عن قصد النص، العلاقة بين الطفل والأب وبينه وبين الأم. في القصة خلاف بين الأم والأب حول مسألة تربوية "ليست هذه قصة تحكى لطفل" لكن الطفل لا يعي هذا الخلاف. يستمر التوتر في القصة ولا ينتهي إلا بانتهاء الحكاية التي يرويها الأب. فما حاولت الأم منعه طول الوقت قد حدث.

أحمد ثانية في قصة "ذات مساء"، ليس هذا التكرار صدفة، فأحمد هو الطفل النموذجي، لا يهم أن تسميه عليا أو سعيدا. موضوع النص هو العلاقة، الأمر لا يختلف في قصة "الستائر المسدلة" فزينة هي إمرأة مثل كل آلاف النساء، لا يغير شيئا أن يكون شعرها أسود أو كستنائيا، أن تكون عيناها واسعتين أو ضيقتين، أن ترتدي فستانا ضيقا أو فضفاضا، فما تريده القصة هو رصد تطور العلاقة بين إمرأة ورجل في ظروف التضييق والقمع. الذين عاشوا تجربة السجون يعرفون أن الخلافات بين السجناء المحددين بالمكان كثيرا ما تنفجر لأسباب تافهة.

العلاقة إذن هي ما أريد تناوله، فلماذا أثقل النص بتفاصيل لا أهمية لها؟ إذا كان الوصف يساعد في رسم الشخصية فذلك شأن آخر. أما إذا كان البطل في القصة شخصا يشترك في صفاته وسلوكه مع آلاف الأشخاص فإنني أفضل أن أترك للقارئ اختراع التفاصيل. ما من عدو للنص الأدبي مثل استطرادات لا تقدم شيئا للقارئ. النص الأدبي الجيد بالنسبة لي هو نص أقرأ كل جملة فيه باستمتاع وهو في هذا يختلف عن النص العلمي أو التقرير الصحفي الذي تعنيني منه الخلاصة وحسب. فإذا شعرت بالسأم وأنا أقرأ نصا أدبيا وقفزت فوق سطور أو صفحات لأعرف كيف ينتهي الحدث فإنني أمام خلل في النص.

- يقول محمد خضير في كتابه "الكتابة الجديدة": "القصة القصيرة فن عابر كأوراق الشجر التي تجرفها الريح، إنها تشبه جدولا صغيرا هادئا إذا ما وازناها بالرواية التي تشبه بحرا، وبالتالي فإن عظمة هذا الفن الصغير أنه لا يمتلك مقومات العظمة والبقاء، فإلى أي حد تتفقين مع هذا الرأي القاسي، وما هي رؤيتك الشخصية للقصة القصيرة؟

- القصة القصيرة نمط أدبي قائم بذاته. إنها ليست تدريبات على كتابة الرواية ولا هي رواية ناقصة، وما يسميه محمد خضير "مقومات عظمة" أمر ليس وقفا على نمط أدبي بالذات. كم من رواية نتم قراءتها في المساء ولا نتذكر منها شيئا في الصباح التالي، لأنها رواية لا تمتلك "مقومات العظمة" التي تتحدث عنها.

تشبه القصة القصيرة اللقطة القريبة أو البورتريت في السينما وفي الرسم إذا ما قارناها باللقطة العامة أو البعيدة التي هي الرواية. لا تعوض إحداهما الأخرى. القصة القصيرة تمسك باللحظة التي لا تشبه أية لحظة أخرى في الزمن، بينما تمتد الرواية في الزمان والمكان. إنني أتذكر مثلا قصصا قرأتها قبل ثلاثين سنة مثل "الأرغن" لـ أو هنري و "الدرس الأخير" لدودييه التي ذكرتها قبل قليل، فمن يحق له أن ينفي عن هذه القصص مقومات البقاء أو يضعها موضع تساؤل؟

- في مقال للناقد والشاعر عبدالرحمن طهمازي يشير إلى أن القصة العراقية وغيرها ظلت إلى نهاية الخمسينات وبداية الستينات قصة منزلية أو أسرية، أو لها ديكورات اجتماعية ومكانية قريبة من ذلك، إلى أن حدثت الانطلاقة في الستينات وربما كان ذلك متصلا بما هو غير قصصي أو أدبي وعلى وجه الخصوص الدراما السياسية التي زلزلت المجتمع العراقي في تلك الفترة. لكننا نجد أن قصصك في مجموعتيك "زهرة الأنبياء" و "شجرة المغفرة" ظلت ضمن المشهد العائلي أو الديكور الاجتماعي الذي أشار إليه طهمازي، ولا نجد أثر العاصفة الستينية فيها، حيث وكأني بك تعودين إلى المنابع الأصلية الكبرى للقصة القصيرة، إلى تشيخوف وموباسان، وليس إلى ناتالي ساروت وفرجينيا فولف، فكيف تفهمين التجريب في الكتابة القصصية؟

- لم تتح لي الفرصة لأقرأ ما كتبه عبدالرحمن طهمازي، ولا أفهم بدقة ما المقصود بالمنزلية أو الأسرية. هل يقصد الموضوعات التي تتناولها القصة أم يقصد دائرة قرائها؟

القصة التي سبقت الستينات تناولت موضوعات اجتماعية، جعلت نقد الظواهر الاجتماعية مهمة لها، والتزمت بالشكل التقليدي للكتابة، فحرصت على توفر العناصر التي تتكون منها القصة وهي المقدمة والعقدة والحل. ربما كان هذا ما يعنيه طهمازي. ثم جاءت ريح الستينات فاكتسحت في طريقها الكثير مما بدا راسخا حتى ذلك الوقت واستبدلت اليقين بالشك. تابع مثقفونا ثورة الطلبة في باريس وأحداث تشيكوسلوفاكيا، وعاشوا حركات التحرر الوطني وهي تحقق أهم انتصاراتها. لكنهم عاشوا أيضا الخيبات الكبرى. ما كانوا قد بنوه في سنوات انهدم في هزيمة حزيران، والثورة الوطنية لم تقدم للشعوب الرخاء الذي كانت تنتظره، وإنما قدمت لهم القمع السياسي والسجون. ظهرت في الحياة وفي الكتابة النزعة الفردية، أصبح الموضوع المفضل هو الـ "أنا" المتفرد الذي يعاني من سوء الفهم، من الاغتراب والإغفال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى استعار الكُتّاب، متأثرين ليس فقط بقراءاتهم، الهموم الكونية وجعلوها موضوعات لكتاباتهم، إنهم تضامنوا أيضا مع الشعوب الأخرى في كفاحها من أجل حريتها، وهكذا انحسرت القصة "الاجتماعية" التي تبحث عن موضوعها "ضمن المشهد العائلي".

لا تنتمي "زهرة الأنبياء" إلى أي من النمطين، أريد أن أذكرك هنا أن النصوص الأولى من الكتاب كانت قد نشرت عام 1974، ثم منعت بقرار سياسي لأنها "ذاتية" فاكتسبت في تلك اللحظة صفة سياسية ليست لها.

ثم أنني لا أميل إلى توزيع الأعمال الأدبية في رفوف حسب موضوعاتها. أهمية العمل تأتي من قوة تأثيره، وليس الموضوع وحده هو الذي يمنح العمل هذه القوة، فقد يكتب المرء عملا جيدا عن أكثر الموضوعات عادية. قد ينطبق هذا على "زهرة الأنبياء". كتب عنها الكاتب التونسي علي مصباح "اللغة ليست أسلوب كتابة، إنها طريقة إقامة على الأرض... لغة الحداثة إذا هي تلك التي أشعر بالغبطة داخلها، تلك التي يداخلني نبضها، ولا تغربني. كذلك هي لغة هذا الكتاب، لغة الاحتفاء بالحياة."

لقد ذكرتَ ناتالي ساروت. أتذكر أن ناتالي ساروت أصبحت معروفة لدى المثقفين العرب بعد ترجمة كتابها "انفعالات". وقد جاءت هذه الترجمة بعد صدور الكتاب بأكثر من ثلاثين سنة. تلقف الكُتّاب الشباب الكتاب كما كان يحدث مع كل كتاب مترجم جديد، متأثرين به كتبوا قصصهم "القصيرة جدا" محاولين تكريس مصطلح جديد لما اعتبروه نمطا جديدا من القصة. الحقيقة أن الأمر لم يكن أكثر من محاولة لإعطاء اسم لشكل من الكتابة كان موجودا، وقد روجته الصحافة في أعمدة الصفحات الأخيرة. ولم يَدَّعِ كتابه أنه نمط أدبي جديد، إنما سمي بتواضع خاطرة أدبية أو حكاية.

مثل كل الآخرين في تلك الفترة كتبت أنا أيضا قصصا تنزع إلى التجريب والمغامرة. قصة "إسراء أرضي" مثلا (نُشرت في مجلة الغد ثم في مجموعة التحولات) صادفت حماسا لدى الزملاء الكتاب لأنهم شعروا أنها تخاطبهم. إلى هذه الفترة تنتمي قصص المجموعة بكاملها. ما الذي حدث بعد الستينات؟ إشتدت وطأة القمع وانسحب الفرد إلى صومعته. قارن صورة الشارع العربي عام 1967 حين خرج ملايين الناس لمنع عبدالناصر الذي خسر الحرب من الاستقالة وبينها عام 1982 عند اجتياح لبنان. قوبل الاجتياح بصمت كامل، وبدا وكأن العرب غير معنيين بالأمر. كان القمع قد بلغ حدا لا يسمح بمثل هذه المشاركة، واحتكرت السلطة ليس القرار السياسي فقط وإنما أيضا الرأي. إنعكس كل هذا ليس فقط في موضوع القصة وإنما في الأدب بوجه عام، وانعكس أيضا على تطور اللغة. أصبحنا نقرأ نصوصا لا نفهم منها شيئا، ليس لأن الكاتب رغب في التجريب واستخدم لغة جديدة، وإنما لأنه استخدم لغة شوهها القمع فما عادت قادرة على التوصيل. لم يبق أمامنا سوى أن نواجه الفوضى بالوضوح ونعيد إلى المفردة مدلولها. أنا أعتبر نصوص "زهرة الأنبياء" وقصص "شجرة المغفرة" كتابة جديدة. إنها لا تقدم أشكالا صادمة، لكنها تتخطى بوعي واضح الطرق المألوفة في السرد القصصي. أما الموضوع فإن أفضل ما يفعله الكاتب هو أن يكتب عن موضوعات يعرفها، وهذا ما فعلت.

- في مجموعتيك القصصيتين ثمة قصص مأخوذة من أجواء الطفولة، لكن شخصياتها تكاد تكون نفس الشخصيات، وتكاد تجري في نفس المكان وكأنها مشاهد من قصة طويلة، بل واسلوبيا أحيانا لها نفس البدايات وطريقة السرد، فهل هناك قصدية في طريقة الكتابة بهذا الشكل أم أن الأمر تم بعفوية؟

لا تصح هذه الملاحظة على "زهرة الأنبياء" فليس ثمة أبطال متشابهون وإنما بطلة واحدة هي الطفلة التي كنتُها.

لكن هذه الملاحظة تصح على القصص الست الأولى في "شجرة المغفرة" إنها تنتمي إلى نفس المناخ. أبطالها أطفال، أكبرهم في الثالثة عشرة (قصة العائد) وأسلوب كتابتها متشابه إلى حد بعيد. كان في نيتي أن أجعل منها مجموعة كاملة. ربما أضفت لها قصصا أخرى في المستقبل. إنها على أية حال قصص قريبة إلى نفسي.

- الحزن، الخيبة، الانكسار والخوف هي السمات المشتركة بين جميع شخصياتك، حتى الشخصيات الأوربية فهي قلقة، وحيدة، مثيرة للشفقة. لم هذا التركيز على مثل هذه الشخصيات؟

- أظن أنني رضعت الحزن مع ترنيمة أمي وهي تجلس إلى جانب المهد ومع حكاياتها في ليالي الشتاء الباردة، في قصائد مالك بن الريب يموت وحيدا ومن شعب يتوجس إذا ضحك ويشعر بالإثم "اللهم اجهله خيرا" فكيف تريدني أن أكتب؟

- من خلال دراستي وتخصصي في علوم السينما أستطيع القول بجرأة بأن بعض (وربما هذه تسمية غير دقيقة لكم هائل من النصوص الأدبية المكتوبة بالعربية) ليست إلا سيناريوهات أدبية، من حيث أن "السيناريو" أصبح ومنذ عقود شكلا جديدا من الكتابة الأدبية لا سيما في اوروبا، لكن لأمور عديدة في بلداننا منها: عدم دقة المصطلح النقدي والأدبي، وتلك النظرة المليئة بالخفة لفن السينما كانت وراء عدم الانتباه "للسيناريو" باعتباره شكلا جديدا من الأدب. إنني أعتقد أن "الستائر المسدلة" و "قصة حب شرقي" و "رحلة السندباد الثامنة" و "زهرة الموتى" وغيرها هي سيناريوهات أدبية لاعتمادها بشكل أساسي على جماليات فن السينما كالمونتاج والتداعي والتركيز على الفعل المضارع ورسم الحالة النفسية صوريا وغيرها. هل يفاجئك هذا الرأي؟

- هذا الرأي لا يفاجئني تماما. فحين تتشكل القصة في ذهني تتشكل أحيانا كمشاهد صورية. خذ رواية "النهوض" على سبيل المثال، يتوقف الباص، يصعد إثنان من الجنود، يقف أحدهما بالباب بينما يتقدم الآخر بين المقاعد...، ينظر سعدي النجار إلى وجهه في مرآة الحافلة. إنها تراكم من الصور من الجملة الأولى وحتى الأخيرة، حيث ينظر سعدي النجار من نافذة الحافلة عبر زجاج مضبب بأنفاس الراكبين ليكتشف أن الخضرة تستيقظ في العشب وأن الربيع يأتي مبكرا. وقصة "رحلة السندباد الثامنة" هي واحدة من 15 قصة تحمل عنوان "الليلة الثانية بعد الألف وما يتبعها" كتبتها بالألمانية وحصلت عنها على منحة أدبية في برلين، هي قصص يمكن تحويلها إلى أفلام.

في أحيان أخرى تولد القصة كصورة صوتية، فتكون قصة للقراءة بصوت مسموع. هنا يلعب ايقاع الجملة دورا مهما. ومهما يكن فإن مهمتي تنتهي بانتهاء كتابة النص، أما كيف يصنف هذا النص فتلك مسألة أخرى.

أنا لا أتفق معك على أية حال حول "النظرة المليئة بالخفة لفن السينما". لا أظن وجود مثل هذه النظرة وإنما أعتقد أن عدم سبب ظهور هذا النمط الأدبي هو عدم وجود صناعة سينما متطورة في الوطن العربي. فكتابة سيناريو تفترض إمكانية تحويل هذا السيناريو إلى فيلم. ولما كانت هذه الإمكانية غير قائمة فما من سبب يدعو لكتابة النص على شكل سيناريو.

- مجموعتك "زهرة الأنبياء"تحمل عنوانا آخر هو "يقظة الذاكرة"، وربما يبدو هذا أكثر انسجاما مع محاولة تلك النصوص لاحتواء المكان- الزمان الذي لم يبق، ربما، إلا في ذاكرتك. إلا أن هذه النصوص هي أشبه بحالات شعرية. إنها نصوص تقع على مشارف الشعر، فهي مشاهد يمكن اعتبارها (مادة أولية) لعمل روائي لم ير النور، ألا تعتقدين ذلك؟

- ليس سهلا أن تختار عنوانا لكتاب. حين قررت أن أجعل من مادة الطفولة كتابا استقر رايي على عنوان آخر هو "تأريخ الحجارة". كان ذلك عام 1977. وقد نشرت نصوصا مجتزأة من الكتاب تحت هذا العنوان. لكن لم يتيسر لي نشر الكتاب إلا عام 1994. وكان رأي الناشر (دار المدى) أن العنوان يثير شيئا من الالتباس ويوحي بمضمون لا علاقة للكتاب به. كان علينا أن نبحث عن عنوان آخر. فكرت في "يقظة الذاكرة" وهو عنوان إحدى فقراته، إلا أنني تراجعت عنه لأن نطق اليقظة بفتح القاف مضافة إلى الذاكرة على شيء من الصعوبة، وبدا "زهرة الأنبياء" عنوانا لا بأس به وكنت قد نشرت فقرات أخرى من الكتاب قبل ذلك تحت هذا العنوان. أما أن يكون النص مادة أولية لعمل روائي فهو ما لا أميل إليه لأن إقحامه في رداء الرواية سيفقده لغته الشعرية.

- شهد تأريخ القصة العراقية أسماء عديدة مثل حربية محمد، ديزي الأمير، بثينة الناصري، مي مظفر، لطفية الدليمي، عالية ممدوح، سميرة المانع وغيرهن، لكننا افتقدنا المرأة في كتابة الرواية باستثناء تجارب قليلة، كيف يمكن تعليل ذلك؟

- لم تكتب في العراق خلال عقود من الزمن سوى روايات قليلة، وهذا ما يمكن قوله عن كتاب القصة بشكل عام رجالا ونساء. كان الشعر هو النمط الأدبي المفضل لدى الكثيرين. أعتقد أن أحد الأسباب هي أن القصيدة تولد كومضة في الذهن ولا ترتبط بالعمل كالقصة. ولادة فكرة القصة وحدها لا تخلق قصة، وإنما العمل، الجلوس إلى منضدة الكتابة، وهو عمل يبقى في القصة القصيرة محدودا. أما الرواية فهي تحتاج إلى عمل منظم دؤوب. وفي الظروف التي عشناها ككتاب، لم تكن فرص هذا العمل متوفرة بشكل مناسب، لأن الكتابة لم تكن حرفة الكاتب في أي وقت من الأوقات. بقي الكاتب مضطرا للعمل في مجالات بعيدة عن الأدب، وكتب في ساعات فراغه. إن نصف الروايات العراقية صدر في السنوات العشر الأخيرة. وهو أمر يتساوى فيه الرجال والنساء. لقد صدرت لعالية ممدوح روايتان : "حبات النفتالين" و "الولع" وأصدرت سميرة المانع "حبل السرة" ونشرت روايتها الثانية على حلقات في مجلة الاغتراب الأدبي، وفي وقت سابق كانت سلام خياط قد أصدرت رواية وابتسام عبدالله أيضا، أما حربية محمد فكانت قد نشرت روايتين: "جريمة رجل" عام 1953 و "من الجاني" عام 1954 ولم تعد حاضرة في الساحة الأدبية بعد ذلك. أما بثينة الناصري فقد انقطعت عن الكتابة منذ مغادرتها العراق قبل حوالي 25 سنة، ولم تعد إليها إلا في السنوات الأخيرة، واتجهت مي مظفر إلى النقد الفني. وهكذا ترى أن الافتراض بأن الكاتبات أقل حظا في كتابة الرواية هو افتراض لا سند له. على العكس أكاد أميل إلى الاعتقاد أن النساء أكثر ميلا إلى القصة والرواية وربما أيضا أكثر قدرة. وحضورهن في هذا المجال أكبر من حضورهن في مجال الشعر.

- على المستوى العربي هناك أسماء لنساء كتبن القصة القصيرة والرواية، فما هو تقييمك لتجربة الكتابة النسوية العربية في هذا المجال؟

- ليس ثمة ما يميز قصص وروايات الكاتبات العربيات عن القصص والروايات التي يكتبها زملاؤهن من الرجال. ربما كانت الكاتبات أقل ضجيجا من الرجال.

- النص كائن قائم بذاته، إلا أن معرفة حياة المبدع الشخصية وصيرورته كفنان وخالق للنص يضيء النص أحيانا ويمنحه جماليات أخرى عند التلقي، فنحن نحس بلوعة شعر السياب حينما نتعرف على حياته أكثر، فهل لنا أن نتعرف على صيرورة الكاتبة سالمة صالح؟

- سأحيلك مرة أخرى إلى "زهرة الأنبياء"، فإنك تستطيع أن تعرفني من خلال هذا الكتاب. وعلى أية حال فليس في حياتي سوى المغامرات الصغيرة، مغامرة اكتشاف العالم، مغامرة اكتشاف الجديد والممتع في العادي من الأشياء ومغامرة العيش والكتابة.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved