كلما قلت متى ميعادنا ضحكت هند وقالت بعد غد
قالها شاعر الوجد والهيام والحب عمر بن أبى ربيعة
قال عمر بن أبى ربيعة ايضا :
(إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا).
عشقت الشاعر عمر بن أبى ربيعة مذ كنت في الثانوية في البصرة، فحفظت قصيدته (ليت هندا انجزتنا ما تعد وشفت انفسنا مما تجد) ثم (واستبدت مرة واحدة انما العاجز من لا يستبد) كنت اتغنى بها رائحا او آتيا، سألني مرة حميد المطبعي طيب الله ذكره في جملة من سأل من الكتاب والصحفيين في سلسلة (من أنا)، سأل كل واحدا منهم ان يكتب رواية حياته. فقلت له في سيرتي عشقت شاعر الحب والهيام عمر بن أبى ربيعة لانه لو عاش زماننا لاعتبرناه شاعرا باريسيا وليس من الحجاز ارض البوادي والفيافي والقفار. . والحقيقة لو عاش عمر بن أبى ربيعة عصرنا هذا، عصر النفط والدولارات لوجدناه يحمل التلفون النقال يغازل به هند وفاطمة زوجة الخليفة عمر بن عبد العزيز ولامتطى سيارات الكاديلاك الامريكية وللبس الدشاديش المستوردة من بارس ولاختار له خادمة جميلة من سريلانكا يقضي معها وطرا. والواقع كان عمر بن أبى ربيعة وليد زمانه شاعرا وغريد عصره، ولاعجب في ذلك ففي عصره كان الغنى ينهال على قريش اثر الفتوحات التي هبطت عليهم من الغنائم الجواري الروميات والفارسيات المسبيات والعاج والذهب والديباج وعطور فارس وحرير دمقس وحلب والشام وجرار العسل والنبيذ، اما النساء الحجازيات فبعد ان كن يلبسن اردية من وبر الجمال اخذن يلبسن اردية فارس والهند والشام والعراق والاساور المرصعة بالاحجار الكريمة ويتعطرن بمياه الورد والاقحوان، فظهر في المدينة ومكة الشعراء الغواة ابناء الطبقة المترفة التي اغتنت بالفتوحات، الذين لاعمل لهم غير الغزل والتشبيب بالحسان والغيد بثريا وسليمى وعزة وغيداء، ولم تسلم من مجون اؤلئك الشعراء الغواة بنات ونساء الطبقة الحاكمة والياسرة، ممن تعرض لهن وضاح اليمن الشاعر الماجن القائل(سموت اليها بعد ما نام بعلها) ويقصد الخليفة وجميل بثينة يقول (يقولون جاهد ياجميل بغزوة واي جهاد غيرهن اريد)، ذلك كان المجتمع الذي ولد فيه عمر بن أبى ربيعه واصبح واحدا من هؤلاء الشعراء المنفلتين بل فاقهم كلهم انفلاتا.
عايش عمر بن أبى ربيعة القرن السابع الميلادى، قيل انه ولد بالمدينة يوم مقتل عمر بن الخطاب وقال حساد ابن ابي ربيعة في ذلك باطلا (اي حق رفع واي باطل وضع). وفي الحقيقة أنه مدح نساءً كثيرات حتى يخيل للمرء أنه لم يدع فتاة أو إمرأة جميلة في الحجاز الا شبب بها وذكرها خاصة بنات الطبقة الحاكم الارستقراطية الجديدة، فقد شبب بزينت بنت موسى الجمحية وأبنة عمها نعم وبالثريا بنت علي بن عبد الله، ولم يقف عند هذا الحد، بل كثيراً ما تعرض للزوجات الحاجات في الطواف والقى بهن شعرا، ومنهن ليلى بنت الحارث البكرية ورملة بنت عبد الله الخزاعية وفاطمة بنت محمد بن الأشعث الكندية، ولم تسلم من غزله زوجة شيخ النحو ابي الأسود الدؤلي. هذا وكان بين مواكب الحاجات من يرغبن ان يتشبب بهن، فكن يتعرضن للشاعر عمر بن أبى ربيعة وكن يغضبن إذا لم يشبب بهن.
كان عمر بن أبى ربيعة يتعرض للنساء في الحج, فيشبب بالعقائل والأميرات, ويصفهن طائفات محرمات دون خشية, حتى قيل ان الرجال كانوا يخشون تعرض نساءهم لملاحقة عمر بن أبى ربيعة, فرفعوا شكواهم إلى عمر بن عبد العزيز المتشدد في اسلامه وكان آنذاك واليا على المدينة فنفاه إلى جزيرة (دهلك) إحدى جزر البحر الأحمر, بين اليمن والحبشة, وقيل انه تاب بعد أن جاوز الأربعين عاماً فقيل عنه (فتك عمر أربعين و نسك أربعين) وليس من الثابت أن عمر عاش أربعين سنه لكن القول أراد أن يوازن بين حياتي الشاعر، و روى عنه أنه بعدما تاب نذر أن يعتق عبداً كلما قال بيتاً من الشعر. اختلفت الروايات في سبب موت عمر اذ قيل ما قيل عنه بإن امرأة دعت عليه لأنه ذكرها في شعره فهبت عليه ريح فجرحه غصن شجره فمات وأغلب الظن أنه مات في 93 هـ .
كرس عمر بن أبى ربيعة شعره للغزل ولا شيء غير الغزل، سأله يوما الأمير سليمان بن عبد الملك (ما يمنعك من مدحنا؟ قال إنى لا أمدح الرجال إنما أمدح النساء). شعر عمر بن أبى ربيعة تصوير لمشاعر العشاق من عذاب الفراق وفرحة اللقاء وهموم المعذبين بالعشق والمتيمين به وراد امزجه الهائمين ومعاناتهم فى مشاهد درامية سيكولوجية مشبعة بالدفء والصدق والتلقائية، متمردا على المجتمع الإسلامى فى العصر الأموى، وبلغ فى غزله مستوى عال من الرفعة حتى قال نقاد عصره (كانت العرب تقر لقبيلة قريش بالتقدم فى كل شئ عليها إلا فى الشعر، تحدى ابن أبى ربيعة قيم المجتمع فى المدينة وشبب بكل الفتيات اللاتى دخلن قلبه ورآهن وهن فى فى مناسك الحج في الكعبة بمكة. حيث شبب فى زينب بنت موسى الجمحى منشدا
(يا من لقلب ميتم كلف يهذى بخود مليحة النظر) ثم (قالت لترب لها تحدثها لنفسدن الطواف فى عمر) ثم (قالت تصدى له ليعرفنا ثم اغمزيه يا أخت فى خفر).
شاهد عمر بن أبى ربيعة فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان ابنة خليفة وأخت الخلفاء الأمويين الوليد وسليمان وهشام أبناء عبدالملك. وزوجة الخليفة عمر بن عبد العزيز الخليفة المتزمت في اسلامه. كانت فاطمة بنت عبد الملك حسنة جميلة بارعة الجمال ربيبة القصور، وفيها قال عمر بن أبى ربيعة:
(بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجها).
وقال في فاطمة بنت عبدالملك بن مروان، زوجة الخليفة عمر بن عبد العزيز، روى عن أبي معاذ القرشي قال: لما قدمت فاطمة مكة جعل عمر بن أبي ربيعة يدور حولها ويقول فيها الشعر ولا يذكرها باسمها خوفا من عبدالملك بن مروان ومن الحجاج، لأنه كان كتب إليه يتوعدّه إن ذكرها أو عرض باسمها. فلما قضت حجها وارتحلت أنشأ يقول:
ذرفت عينها وفاضت دموعي وكلانا يلقي بلبّ أصـيل
لو خلت خلتي أصبت نوالا أو حديثا يشفي من التنويل لـظل الخـلخال فوق الحشايا مثل أثناء حية مقـتول
فلقـد قالت الحـبيبة لـولا كثرة النـاس جدت بالتقبيـل
على الرغم من تهديد الخليفة عمر بن عبد العزيز فان عمرا بن أبي ربيعة لم يخف فقال في فاطمة: وناهدة الثديين قلت لها اتّكي على الرمل من جبّانة لم توسـد فقالت على اسم الله أمرك طاعة وإن كنت قد كلّفت ما لم أُعـــــوّد فلماّ دنا الإصباح قالت فضحتني فُقم غير مطرود وإن شئت فازدَد وصف عمر بن أبي ربيعة فم فاطمة بانه سلافة خمر فانشد قائلا: &nbs p; مـمكورة ردع العبير بها جمّ العظام لطيفة الخضر
وكأن فاها عنــد رقدتهـا تجري عليه سلافة الخمر ولما مات عمر بن عبد العزيز تزوجت فاطمة داود بن سليمان بن مروان القبيح الوجه فراح ذاك القبيح وجها، يرشف من شفتيها وفمها عسلا وخمرا. انشد عمر بن أبى ربيعة شعرا رقيقا فى عائشة حبيبته المسافرة:
نظرت عينى إليها نظرة تركت قلبى لديها مرتهن
ليس حب فوق ما أحببتها غير أن أقتل نفسى أو أجن
كان والد عمر بن أبى ربيعة واحدا من اغنى اغنياء الحجاز لذا عاش عمر الوسيم الطلعة مترفا يركب النجائب من الجمال المكسية بالديباج، فكانت الفتيات يلاحقنه كما كان يستعرض القادمات للحج من شتى الأقطار ويراقبهن في طوافهن محرمات فيصفهن ويشهر ببعضهن كقوله:
قالت الكبرى أتعرفن الفتى دون قيد الميل يسعى بي الاغر بينما يذكرنني أبصرنني قالت الوسطى نعم هذا عمر قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر
اما قصيدته في هند بنت الحارث المرية فلها عطر وخمر وعسل وازهار خاصة عندما قال (وتعرت ذات يوم تبترد) والاشد كمدا على عمر في (كلما قلت متى ميعادنا ضحكت هند وقالت بعد غد). وهاهي قصيدته (ليت هندا أنجزتنا ما تعد) وهي طويلة:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجد
واسـتبدت مـرة واحـدة إنمـا العــاجز مـن لا يســتبد
ولقـــد قـالت لجــارات لهــا وتعـرت ذات يــوم تبــترد
أكمــا ينعتنـــي تبـصرنني عمـــركن اللـــه أم لا يقتصد
فتضـاحكن وقـد قلـن لهـا حسـن في كل عيـن من تود
حسد حملنه من حسـنها وقديما كان في الناس الحسـد
كلما قلت متى ميعادنا ضحكت هند وقالت بعد غد
نحن أهل الخيف من أهل منى مالمقتول قتلناه قود
قلت أهلا أنتم بغيتنا فتسمين فقالت أنا هند
إنما أهلك جيران لنا أنما نحن وهم شىء أحد
كلما قلت متى ميعادنا ضحكت هند وقالت بعد غد
و قال :
خبروها بأنني قد تزوجت فظلت تكاتم الغيظ ســـرا
ثم قالت لأختها ولأخرى جزعا ليته تزوج عشــرا
وأشارت الى نساء لديها لا ترى دونهن للسر ستـرا
ما لقلبي كأنه ليس مني وعظامي أخال فيهن فتــرا
من حديث نمى إلى فظيع خلت في القلب من تلظيه جمرا
ولعمر بن أبي ربيعة غزل بعضه صادق من صميم القلب، وغزل آخر رقيق ينظمه في كل حسناء من حسان المدينة ومكة، فمن غزله الحقيقي قوله في الثريا بنت علي بن عبد الله، وقد هام بها ولم يوفق إلى زواجها وفيما يلي شيئاً مما قاله فيها:
يا ثـريـا الفـؤادِ، ردي السلامـا صليـنـا ولا تبتـي الزمامـا واذكري ليلـةَ المطـارفِ والوبـلِ وإرسـالنـا إليـكِ الـغـلامـا بـحديـثٍ إنْ أنـتِ لَمْ تقبليـهِ لمْ أنازعكِ، ما حييـتُ، الكلامـا واذكري مجلساً، لدى جانـب القصرِ عشياً ومقسمي أقاسـما ِفـي ليـالٍ منهـنّ ليلـةَ باتـتْ ناقتـي والـهاً، تـجـرُّ الزمامـا من يكنْ ناسياً فلمْ أنسَ منها وهيَ تذري لذاكَ دمعـاً سجاما يـومَ قالـت ودمعهـا يغسـلُ الكحلَ: أردتَ الغداةَ منا انصرامـا قلـتُ لَمْ تصرمي ولَمْ نطـعِ الواشي وقد زدتِ ذا الفؤادَ غراما
عاش عمر بن أبى ربيعة عمرا لم يعشه شاعر قبله ولا بعده كما عاش عصرا لم يعشه شاعر قبله ولا بعده، الغنى والذهب والديباج ينهال على مكة والمدينة من ارجاء الدنيا، الفتيات المسبيات روميات وفارسيات وامازيغيات وهنديات وبنات وزوجات الخلفاء يركبن الهوادج الموشاة بالذهب ويتخضبن بالحناء ويتعطرن باللازورد، هكذا كان عصر عمر بن أبى ربيعة كان شاعرا لم تبلغة باريس في عصر من عصورها.