لانعلم الغيب..لكن في كل منا نسبة من الحدس، ومن لايملكها فأن حاسة من حواسه، ستلتقط فعلا أستباقيا لما سوف يقع : رفة العين اليمنى/ دقات المورس خلف الاذن اليسرى/ عضة اللسان/ أنقباض القلب/ انكفاء الماء/ اما القدم حين تكون قدم صدق فتقودني الى
(إذا خدرت رجلي وقيل شفاؤها
دعاء حبيب كنت انت دعائي)
لانعلم الغيب، لكن لكل منا خوفه من الروزنامة، ومهما حاولت التقنية السيطرة علينا وجعلت بيوتنا مفتوحة على الخارج الواسع حد الترهل، وصار الفيسبوك ومشتقاته، حبال غسيل.. فأن في كل منا عقل بري، يقرفص في النظام الفلسجي للدماغ... شخصيا.. وأنا في نزهتي المسائية اليومية، كلما لمحت الاكياس المتدلية، من الايدي وهي تغادر سوق المغايز او سوق الخضّارة او سوق البصرة القديمة.. تذكرتُ جدنا الاول.. وهو يؤوب من يوم كدحه الشاسع، حاملا على منكبه، فريسة وهرواته في اليد الثانية متوجها الى عائلته المنزوية، في كهف لم يفكر بعد في الكهرباء..الآن وأنا أتأمل أمساكية رمضان، أستعادتني تلك المرأة كان زوجها موظفا في شركة كريمكنزي، يجلب مع نهاية العام روزنامة عذراء، أوراقها مسرفة الطول والعرض..ناعمة الملمس وملونة بشكل آسر، كانت الاشكال فيها بارزة، في كل صفحة منظر طبيعي ساحر في أسفل الصفحة الجميلة، يستلقي مستطيل ،يمثل شهرا من الارقام..هي تتصفحها بتسلسلها الزمني وما ان تتأمل لوحة شهر كانون الثاني، حتى تتجاوز ورقة شباط ولاتتأمل اللوحة الجميلة، إلاّ بعد ان يتقدم الزمن نفسه نحو شهر آذار.. كانت تعتبر شباط ينافس شهر صفر العربي في النحس.. تدس الأم يدها في نفنوفها الفيسرنكي وتخرج علبة سيكاير غازي الذهبية اللون.. ترتشف شايا من استكانتها، تسحب نفسا طويلا من السيكارة...ثم تتكلم وكأنها تغطس في رمال متحركة: في شباط من سنة الوثبة اضرمت الحكومة النار، في صرائف (الطمامة) وهو حي يحتوي عشرات من صرائف متلاصقة تسكنها عوائل تحت خط الفقر، يومها صعدنا السطوح، رأيناغيمة سوداء تتسع وتتسع وكان فتيت اسود يدفعه الهواء صوب بيوتنا، فسارعنا الى رفع الملابس المبلولة من حبال الغسيل..،وكالعادة اتهمت الحكومة(الهدامين)؟!
وفي 15/ شباط/ 1949 صخّم الله وجه الحكومة.الملكية...وهكذا..كلما( يلفي ) شباط أضع يدي على قلبي، مرت سنوات نسينا،.. شباط ..ثم فرحنا بتموز وفرح تموز بنا..فجأة اتحد الحاسد والكايد وجاءنا شباط ليعوّض عن شباطاته الهادئة، جاءنا شباط المصّخم وخرجنا للشوارع باللافتات وخرجوا هم بغدارات بورسعيد واسترلنك..وبالدبابات وكان 8 شباط في 14 رمضان..وجرى ماجرى..صار الدم العراقي أرخص من كلاص عرقسوس بسوق الخضارة...
الآن..تلك الأم العراقية في عقدها التاسعة.. جلد على عظم لكن ذاكرتها ماشاء الله.. الآن ..كلما اهتزت البصرة، بسبب تفخيخ...تلفت يمينا وشمالا تفتح عينيها بسعة وجع عراقي وتسأل بصوت عال :
الله وأكبر...
هل صار
شهر شباط
روزنامة عراقية..؟!
*طريق الشعب/23/ تموز/2013