مسلمو أوروبا والخيار الثقافي

2021-05-30

تهزّ أوروبا أزمات دورية في علاقتها بمسلميها، متنقّلة من بلد إلى آخر ومتحوّلة من قضية إلى أخرى . وهي في الواقع أزمات نابعة من طغيان الخواء الثقافي، وتدنّي حضور المثقّفين العاملين وسط هذه الجموع المسلمة، أو لنقل إشراكهم في تقييم الأمور وطرح حلول عملية لها . إذ ينبغي أن نقرَّ أنّ العنصر الثقافي وسط ملايين المسلمين المقيمين والمستوطنين في دول القارة، البالغ عددهم زهاء الثلاثين مليونا، ضئيل وباهت، بفعل فتور التعويل على ذلك الجانب الرمزي أو الإستثمار فيه . فهناك دول قاحلة، بالمعنى الثقافي، في ما له صلة بالثقافة العربية، وهو ما انعكس ضبابية، وأحكاما مسبقة، وخوفاً، وريبة، ونفوراً، بين المكوَّنات الإجتماعية "الدخيلة" و"الأصيلة" .

والسؤال كيف السبيل للخروج من أسْرِ التوتر الدوريّ في علاقة المسلمين الأوروبيين مع واقعهم الغربي ؟ بادئ ذي بدء يبقى حلّ المشكلة بأيدي مسلمي أوروبا، أي هؤلاء المستوطنين والمقيمين في أحضان القارة، أكانوا ممن اندمجوا في سياق مجتمعاتها أو ممن هم في طور الإندماج . إذ ثمة مراجعات وتساؤلات حول هوية المسلمين الأوروبيين، ولا نقول المسلمين في أوروبا لأن الغلبة ستؤول للشقّ الأول، ينبغي تناولها بهدوء وواقعية . فالإسلام الديناميكي، وحده القادر على مراعاة الغيرية، وطمأنة الآخر، وبثّ الثقة لديه . وهو الرهان الفاعل والحاسم، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة في أوروبا عائمة . ولِيُحاصَر ذلك التنافر لصالح تآلف وتآنس حقيقيين . فليست أوروبا وحدها أمام هذا الإختبار الحضاري الإشكالي، في استيعاب "الدخيل" وهضمه، بل الجموع المسلمة أيضا هي طرفٌ رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.

فما من شك أنّ هناك هشاشة ثقافية طاغية في أوساط الوافدين من العالم الإسلامي نَحو أوروبا، جعلت التفاهم مع الغرب يوكَل أمره إلى الصمت والوجوم في معظم الأحيان، دون أخذ زمام المبادرة . وأخشى ما أخشاه على هؤلاء الوافدين من العالم الإسلامي أن يتحوّلوا إلى كتلٍ صمّاء صامتة، بدون أثر، وبدون صخب، في مجتمعات تعجّ بالحركة .

إذ هناك ملايين متروكة سائبة وعرضة للنهش، من هنا وهناك، ولذلك نحن في أوروبا، مسلمين وغير مسلمين، ندفع ضريبة هذا الفراغ الثقافي الهائل والصمت المطبق في مجال الثقافة ذات الصلة بالمسلمين . وما دام ليس هناك استثمار دائم في تلك الرساميل الرمزية والمعنوية، أو تعويل على أثرها، فسيستمرّ تناقض تلك الملايين مع واقعها الأوروبي، وستبقى عرضة للتوترات الدورية والمتكررة . فالشراكة الثقافية التي يُفتَرض أن تقوم عليها العلاقات بين دول العالم الإسلامي وأوروبا، عوّضتها خلافات سياسية، سرعان ما تُحوَّل إلى خلافات دينية تُستدرَج إليها الجاليات المسلمة تغريرًا، فيغدو كيان المسلم الأوروبي مسرحا لتصفيتها . إذ ثمة قابلية لدى مسلميّ أوروبا للتوظيف الخارجي، جرّاء فقدان الإستقلالية مع بلدان المأتى، على مستوى المخيال السياسي وعلى مستوى المرجعية الدينية . وفي ظرفنا الراهن نعيش فتوراً في الرهان على الإيلاف الثقافي والتآنس الحضاري بين المجتمعات الأوروبية وجملة من دول العالم الإسلامي. وما من استراتيجية لبناء إيلاف ثقافيّ يستوعب هذا التوتر الحاصل والمتفجر بشكل دوريّ .

فأحيانا قضايا محدودة تُهوَّل وتُحوَّل إلى قضايا رأي عام، بعيداً عن حقيقتها الفعلية . وما نعيشه هذه الأيام من قلاقل وتجاذب بين فرنسا والمسلمين على وقع الرسوم الكاريكاتورية والإغتيالات الإرهابية هو أحد أوجه تلك التوترات الدورية . فليس هناك ازدراء عموميّ للإسلام ولا مسّ من مقام المصطفى (عليه الصلاة والسلام) على مستوى رسميّ؛ ولكن الناس هنا يتصرفون على نحو مغاير لما دأب عليه المسلمون في البلدان العربية والإسلامية . فحتى المقدّس، في الغرب، قابل للنقد والدحض وحتى الطعن والنقض، وربما استغلاله ضمن الدراما والكوميديا، فالقوم لا يعرفون التنويه الدائم ولا الثناء الغامر . إنها صيرورة الحداثة الغربية التي لا تعرف الولاء اللامشروط، وهو ما لم يدرك كنهه كثير من المسلمين .

وتأكيدا للخواء الثقافي الذي صنّفناه عنصراً رئيساً في التوتر الحاصل نقول : أحيانا يجري الإستهلاك في البلاد العربية، وإلى درجة الإبتذال، لأسماء ثقافية وعلمية عربية تقِيم في الغرب، وتُنسَج الروايات والأساطير عن قصص نجاحها بعد احتضانها وحسن وفادتها، ولا يُعار اهتمام لملايين سائبة لا تُعرف وقائعها ولا مصائرها . تغيب بالفعل من الأبحاث السوسيولوجية والسياسية ومن دراسات الهجرة ومن أحاديث الساسة، وهو ما يدعو للتساؤل : أين الإستغراب العربي ؟ والحال أن ما يريده المسلمون في الغرب هو حديث صادق عن فشلهم وعن نجاحهم، عن حقوقهم وعن واجباتهم، بدون تهويل أو تبسيط، أو تقديس أو تدنيس . فمن يعرف أنّ ما يزيد عن ثلاثة ملايين مسلم يقيمون على التراب الإيطالي، ويفدون من مشارق الأرض ومغاربها، لا يصدر منهم ديوان شعر، ولا رواية، ولا كتاب، ولا قصيدة، ولا فيلم، ولا مسرحية إلا ما ندر؟ ولا يمتلكون صحيفة، ولا مجلة، ولا إذاعة، أو حتى موقع في الشبكة العنكبوتية، يلتفون حوله . مع أن هؤلاء يغدون ويروحون في بلد ديمقراطي مفتوح على الثقافة، ولا يعرف سلطة الرقيب، أو بيروقراطية التراخيص .

ولأنّنا نؤمن أن هناك أفُقا ثقافيا رحبا تلتقي فيه الثقافة الوافدة من البلدان الإسلامية والثقافة الأوروبية، يحاول الطهريون من الجانبين تضييقه وزرع ألغام التوتر والصراعات فيه، فنحن مع أوروبا من أجل تعزيز مناعتها وترسيخ خياراتها على جميع الأصعدة، لأنّ قدرنا في هذه القارة وليس خارجها . وليس باسم جذور واهية ينبغي أن نصنع تناقضا مع فضاء احتضننا، وبالتالي نحن أمام مشروع هائل في إعادة صنع هويتنا الإسلامية من جديد لتتلاءم مع واقع تعدديّ كوسموبوليتي . المشكلة أننا ما زلنا نستورد رموزنا ونماذجنا من وراء البحار، ونحاول استزراعها في تربة غير تربتها، وقد أضحت معايير أخرى تحكم واقعنا الغربي الذي بات يحتضننا .

 

د. عزالدين عناية

 هو كاتب ومترجم تونسي متخصص في علم الأديان، أستاذ جامعي في جامعتيْ روما لاسابيينسا والأورينتالي في نابولي. حصل على الأستاذية والدكتوراه من جامعة الزيتونة في تونس في اختصاص الأديان والمذاهب

مؤلفاته

  • الدين في الغرب، الدار العربية للعلوم، بيروت 2017.
  • تخيل بابل: مدينة الشرق القديمة وحصيلة مئتي عام من الأبحاث،(ترجمة من الإيطالية)، تأليف: ماريو ليفراني، كلمة، أبوظبي 2016.
  • المنمنمات الإسلامية، ترجمة من الإيطالية، دار التنوير، لبنان 2015.
  • رسالة إلى أخي المسيحي، دار نون، رأس الخيمة 2015.
  • الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن، دار توبقال، المغرب 2014
  • العقل الإسلامي عوائق التحرر وتحديات الانبعاث، دار الطليعة، بيروت 2011.
  • نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم، دار توبقال، المغرب 2010.
  • الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري، منشورات الجمل، لبنان 2006.

ترجماته

  • الفكر المسيحي المعاصر، (ترجمة من الإيطالية)،دار صفحات، سوريا 2014.
  • السوق الدينية في الغرب، (ترجمة من الإيطالية)، دار صفحات، سوريا 2012.
  • أوروك: أولى المدن على وجه البسيطة، (ترجمة من الإيطالية)، تأليف: ماريو ليفراني، كلمة، أبوظبي 2011.
  • مدخل إلى التاريخ الإغريقي، (ترجمة من الإيطالية)، تأليف: لوتشانو كنفرا، كلمة، أبوظبي 2011.
  • علم الاجتماع الديني، (ترجمة من الإيطالية)، تأليف: إنزو باتشي كلمة، كلمة، أبوظبي 2011.
  • الإسلام الإيطالي: رحلة في وقائع الديانة الثانية، (ترجمة من الإيطالية)، تأليف: ستيفانو أليافي، كلمة، أبوظبي 2010.
  • الإسلام في أوروبا: أنماط الاندماج، (ترجمة من الإيطالية)، تأليف: إنزو باتشي كلمة، أبوظبي 2010.
  • عظام الحبار، (ترجمة من الإيطالية)، تأليف:أوجينيو مونتالي، هيئة أبوظبي للثقافة و التراث، أبوظبي 2010
  • علم الأديان، (ترجمة من الفرنسية)، 2009.

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved