مساومة مقيتة وتأزم فلسفي مستديم بين علمين

2014-11-21
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/e06dedac-612d-41ba-8ba5-e4ec928cdd73.jpeg
  عندما ظهرت" نظرية الفوضى " التي أثارها علماء الرياضيات  في نهاية ستينات القرن الماضي،  .. تزعزعت الثقة التي كانت شبه راسخة عن كثير من القوانين الطبيعية في الفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم، بعد أن كانت تلك النظريات والقوانين تعتبر "ذهبية" ولا يمسها الشك بأي شكل من الأشكال ، والتي كان أصحابها قد إعتبروا النسب الضئيلة جدا المخالفة  والمتناقضة مع النتائج كبيرة النسب التي حصلوا عليها من خلال تجاربهم المتكررة ، إعتبروا تلك النسب الضئيلة و بأنها أشبه بالثغرات الإحصائية أو أشبه بالشذوذ عن القاعدة ، وبذلك لا يمكن الإرتكاز عليها .. وليأتوا بعد ذلك علماء الرياضيات ، ويتناولوا تلك النتائج المتناهية في الصغر ، ويحاولوا تضخيم تأثيراتها ، وليجدوا بأن تأثيراتها قد تصبح كارثية ، إذا ما تم إهمالها .. وسموا تلك الحركة آنذاك ب(نظرية جنح الفراشة) وقد صرحوا أصحابها على سبيل الذي يتيحه علم الرياضيات : " بأن حركة جناحي فراشة في الصين ، قد تؤدي الى حدوث زوابع و عواصف في أمريكا " .. كل تلك التوجهات  التحذيرية  أحدثت ضجة حولها في النصف الثاني من القرن الماضي ..
     واليوم ، وقد ودعنا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين  ,, لا زلنا نجد أن الجهود المتراكمة والأنجازات النوعية التي حققها العلم الحديث ، ومنذ ثلاثة قرون ، كانت ولا تزال تستند بمجملها الى مناهج بحثية مقننة و تقف خلفها نظرية صارمة تقود  سيرورة العلم .. وأن نجاح العلم الحديث كان ولا يزال نابع من الخصائص التي تميز بها عبر مسيرته الحديثة والتي أهمها التحديد والصرامة والموضوعية والقابلية للتجريب والتكرار، مما جعله يحقق قفزات مهمة وسريعة ..  ولكن هذا العلم الحديث لم يستطع الإحاطة بكافة الظواهر ، لوجود بعض الظواهر غير القابلة للتجريب و التكرار  والتحديد و التكميم .  وكان الموقف الخاطئ للعلم الحديث منها هو إنكارها تماما بدعوى أنها غير علمية أو أنها لا يمكن أن تحدث أبدا  .. وهكذا عمل العلم الحديث على إقصاء الكثير من المسائل ولم يدخلها في دائرة إشتغاله . ومن أوضح هذه المسائل ، التنجيم والسحر وطب الأعشاب والطب الشعبي، والتنبوء بالمستقبل . وإذا كان العلم محقا في رفضه لبعض الأفكار التي تتنافى مع العقل والمعقولية ، إلا أن هناك الكثير من الوقائع نفاها العلم بدعوى أن هذه الوقائع لا يمكن أن تحدث أبدا من وجهة النظر العلمية ( مع أنها كانت تحدث على الدوام)
وهذا بالطبع يكشف الأزمة الحقيقية التي يعيشها العلم التجريبي ( الحديث ) ، فهو كمن يدفن رأساه في الرمال حتى لا يرى الحقائق ، ويكمن سبب رفض العلم الحديث لظاهرة التلباثي * مثلا ، أنه لا وجود لديه لأي تفسير سببي لهذه الظاهرة ضمن النتائج التفسيرية التي يحويها هذا العلم . وهذا يقودنا الى الإفتراض أن هناك حقولا من المعرفة لا تدخل في نطاق أو دائرة إشتغال العلم الحديث يمكن طرح الأمر على هذه الشاكلة ، كخطوة أولى في مقاربة هذه الظاهرة العصية على التفسيرو الظواهر الأخرى المشابهة ، وبناء على ذلك نستطيع و تحت غطاء معرفي عقلاني إلحاق هذه الظواهر الشاذة تحت مسمى " العلم الموازي " ، كما حصل فيما يخص الأساليب و الممارسات الطبية غير المنهجية والتي دعيت أخيرا ب( الطب الموازي) بعد أن تبين خطأ ولا معقولية المصطلح السابق (( الطب البديل)) . فهذا المصطلح الجديد "العلم الموازي" يُرضي كلا الطرفين اللذين يبدوان وكأنهما على طرفي نقيض. أنصار المذهب العلمي التجريبي من جهة و المتحمسين للظواهر الشاذة من جهة أخرى, وبذلك سوف يستريح أنصار العلم التجريبي من هذا الصداع المؤرق الذي يواجههم. وذلك عن طريق إخراجه من دائرة إشتغالهم ، فهو حقل موازي لحقلهم لا يتقاطع معه ولا يلتقي به ، وهذا ما يعتبر حاليا حلٌ ممتاز و مناسب بالنسبة لهم . وهذا الحل ليس جديدا تماما, فلقد سبق للعلم الحديث أن تقاسم الساحة مع أتباع التيار الديني ، عندما إعترف بأن كل المقولات التي جاءت بها النصوص الدينية هي صحيحة تماما. ولكنها حدثت بوصفها معجزات لا يوجد تفسير سببي لها . وبالطبع هذه طريقة مهادنة ذكية أو خبيثة , لجأ إليها العلم الحديث لإخراج هذه المقولات خارج دائرة إشتغاله . وقد كان الحل ممتازا حيث خفًت حدة الصراع بين العلم والكنيسة و حًصل ما يشبه الهدنة ، مما وفر للعلم الحديث أجواءا صحية للتطور المتسارع بعيدا عن ملاحقة رجال الدين، كما حدث في بداية عصر النهضة ، ومن جهة ثانية فأن مصطلح العلم الموازي يبدو مناسبا لأنصار هذا العلم و ذلك لحصولهم على إعتراف صريح بعلمية وأهمية كل الجهود التي بذلوها في دراسة هذه الظواهر الشاذة .
    واليوم أعود و أجزم بأن مصطلح "العلم الموازي" يبدو ضرورياً لفك الإشتباك الحالي بين أنصار الحقلين ، فالهدنة التي تم التوصل إليها قبل ثلاثة قرون عادت لتتقوض وتتآكل من جديد ، لأن المتحمسين لهذه الظواهر الشاذة المستبعدة من العلم ،عادوا لكي يتناولوا هذه الظواهر وفق أدق المعايير العلمية من الصرامة والدقة والتحديد و التكرار و الموضوعية . وقد تم توثيق الكثير من الظواهر وفق هذه الأسس العلمية ، مما أثار حفيظة الكثير من علماء العلم الحديث و إحتدم الصراع بين الفريقين من جديد . والسبب في ذلك أن أنصار هذه الظواهر الشاذة أدخلوها ، ضمن دائرة إشتغال العلم التجريبي . ونستطيع أن نرى عنف هذا الصراع من خلال الهجوم الذي شنه أقطاب العلم الحديث على العالم الباراسايكولوجي ( جي بي راين) الذي إستطاع من خلال النظرية الإحصائية تقديم الإثبات العلمي الدامغ على صحة و أصالة ( ظاهرة الإدراك الحسي) ، ومن ضمنها ظاهرة التخاطر . وقد إنبرى الكثيرون لمهاجمة "راين" و تفنيد كل نتائجه ، وذهب البعض الى التشكيك في النظرية الإحصائية التي وظفها "راين" ، وإدعى فريقٌ أن هناك ثغرة ما في النظرية الإحصائية ، إستطاع "راين" النفاذ من خلالها للبرهنة على مقولاته المتهافتة . والحقيقة أن الكثير من النشاطات المشابهة لم تلق هجوما و إستنكارا ، فلقد كان هناك الكثير من النشاطات و التأليف في حقول مشابهة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وأهمها النشاط المكثف للجمعيتين " الروحية البريطانية" و " الروحية الأمريكية" و اللتان ضمتا إليهما بعض الأسماء العلمية الكبيرة . ولكن الطابع الروحاني لهذه النشاطات جعلت أنصار العلم الحديث يغضون الطرف عنها ، ولكن إدخالها في دائرة العلم الحديث كان  أمر لم يكن من السهل السكوت عنه .
ونحن على يقين أن مصطلح العلم الموازي سوف يكون له مفعول طيب على كلا العلمين بحيث يجنبهما التصادم و يوفر أجواء غير مشحونة لكلا العلمين في النمو و التطور . ولكن يجب علينا ألّا نغفل بأن هذه الهدنة ستكون مؤقتة يكل تأكيد ، لأن أصحاب العلم الموازي سيعاودون الكَرّة من جديد لإيجاد مكان لهم تحت قبة العلم الحديث و لينتزعوا الإعتراف لعلومهم و بأصالة و صحة الظواهر التي يتناولونها . ولكنهم سيعودون  هذه المرة بطرائق جديدة من البحث  والبرهنة و الإثبات ، بل أنهم سيعودوا بنماذج تفسيرية علمية تدعم كل إدعاءاتهم , ولربما عمدوا الى تقديم مقترحات جديدة لنظرية معرفة جديدة أكثر عمومية وشمولية من نظرية المعرفة الحداثية , وهناك تلوح في الأفق مؤشرات وتيارات كبيرة داخل فلسفة العلم تنبئ بتجاوز التجريبية الضيقة التي فرضها علينا العلم التجريبي . وهناك دعوات صادقة من قبل أقطاب مهمين في فلسفة العلم ، ولكن الإشكال الأساسي ، أن هذا التيار لم يستطع أن يضع هذه التصورات وفق نظام متسق ليحولها الى نظرية معرفة متماسكة تمتلك نفس الجاذبية التي تمتلكها نظرية المعرفة الحداثية .
     إذا هنك مهمتان تقعان على عاتق أنصار العلم الموازي . أولهما توثيق وإثبات هذا العلم وفق معايير علمية مقننة وثانيا إيجاد مساحة لهذه العلوم تحت قبة نظرية المعرفة الحديثة .
     وأنا شخصيا وبمرور الزمن أصبحت أعتقد وأجزم بأن المشتغلين بالعلم الموازي لا يقلون علمية  و شهرة وكفاءة عن المشتغلين بالعلم التجريبي ، بل يمكنني القول بشئ من الثقة أن العاملين بالحقل الجديد للعلم الموازي يتفوقون بقدراتهم العلمية ونظرتهم الشمولية الثاقبة للعلم ، وهم يمتازون عن بقية العلماء كونهم إستطاعوا الألمام بالكثير من العلوم خارج إختصاصهم العلمي الضيق ، ومن الواضح أن العلماء المنغمسين في مجالهم الضيق لا أمل في إجتذابهم الى هذا الحقل الجديد من الدراسات أو الطروحات الفلسفية المرافقة ، بل إن الأمل معقود على العلماء وفلاسفة العلم الذين خرجوا من إختصاصهم الضيق ، وألموا بالمناهج العلمية التفسيرية لمقاربة الظواهر المختلفة ، والحقيقة أن الكثير من محدودي النظر يرون في النظريات العلمية  و كأنها كشوف و فتوحات علمية لا يرقى لها الشك ، مع أنها لا تعدو كونها نماذج تفسيرية تم صنعها و صياغتها من قبل العقل البشري و تطبيقها على ظاهرة أو مجموعة من الظواهر . وهي ليست من الظاهرة الطبيعية في شئ و حتى ليست جزء منها أو أحد مكوناتها، بدليل أن هذه النظرية ( أو النموذج التفسيري ) يمكن أن ينزوي لصالح نموذج آخر أكثر تماسكا وله قوة المحاججة، ويستطيع مقاربة عدد أكبر من الظاهرات ومن الأشياء الصادمة و المؤلمة للجمهور عندما يدرك بأن العلم ليس إلا تصورات و نماذج لا وجود لها خارج العقل البشري  ز ونستطيع التأكيد للجمهور ، أن نظرية المعرفة الحداثية قد تم تصميمها وفق شروط ومعايير ليست بالضرورة كلها علمية وعقلية ، بل أن الكثير من هذه الأشتراطات كانت تاريخية ، أو سياسية ، و إقتصادية أيضا . ويكفي أن نعلم أن صراع  الحداثة مع الكنيسة  أدى بنظرية المعرفة الحداثية لكي تستبعد أي مصدر للمعرفة  عدا المعرفة التي تأتي عن طريق الحواس الخمس أو ما يعرف بالإدراك الحسي ، وذلك لقطع الطريق أمام المعارف الدينية و المقولات الكبرى التي يستند إليها الدين ، وقد لجأت الحداثة الى نوع من المهادنة مع الكنيسة عن طريق الإعتراف بكل المقولات الدينية ولكن تحت بند المعجزات  ، أي خارج دائرة العلم الطبيعي .,
    واليوم نجد أن لا أحد من علماء الحداثة يريد أن يخاطر بمستقبله العلمي ليقوم بدراسة هذه الظواهر ويوثقها ويثبتها علميا . وهكذا ستبقى المواجهة الحاسمة بين هذين العلمين مؤجلة   الى أجل غير معروف أو محدد .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved