مسيرة تشابلن... ابحار في رؤى المسحوقين

2009-09-30
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شعر تشابلن كجميع الفنانين الملتزمين بالخط اليساري الشيوعي، بتدني قيمة الإنسان وتحوله إلى سلعة شرائية، لذا اتسمت أعماله بسوداوية، مضافاً إليها ألم ما بعد الحرب، وبنفس الحرفية والإبداع قام بتحديث أدواته الإخراجية رغم عدم رضاه عن أساسيات هذا الواقع الهشة، فأظهرت أفلامه حالة تناقض بين البقاء والاستمرارية وبين اليأس والكآبة لوعيه بعدم قدرة الفرد على التأثير في هذا المجتمع الذي أحدثت الحرب ومآسيها شرخاً كبيراً في مفاهيمه، لكنها لم تخل من الخفة والدعابة كفيلم (السيد فيردو) في عام 1947، وفيلم (أضواء المسرح) في عام 1952.

يعد تشارلي تشابلن من أهم الشخصيات الفنية التي لعبت دورا مفصليا في صناعة السينما في العالم، ذلك من خلال تقديمه لمجموعة نماذج واقعية بطريقةٍ غير تقليدية لامست العمق الإنساني، وابتعدت عن الشكل النمطي للطرح الكوميدي لواقع معاش في ذلك الوقت. حيث أتقن العوم في شخصياته من خلال غوصها في الواقع الآثم الذي عاشه باحثاً عن جمالية تطابق المثال، فخرج بإبداعات نتلقاها كتأملات فلسفية مليئة بأسئلة ربما نجدها بسيطة، لكنها تحتاج للإجابة عنها وعي حقيقي للمضمون العميق الذي أراد تشابلن دائماً أن ندركه.

استطاعت أفلام تشابلن أن تعطي نظرة صادقة عن رؤية الطبقات العاملة لذا نالت أفلامه المرتبة الأولى في تفضيلاتها، وخاصة الجماعات اليسارية والشيوعية.
وفي عام 1939 قدم أول فيلم ناطق له (الديكتاتور الأعظم) حيث يُسمع فيه صوت تشابلن للمرة الأولى ويقول تشابلن عن أدائه لشخصية (أدولف هتلر): (مستعد أن أفعل أي شيء لأعرف ما رأي هتلر في ذلك).
وقد كان هذا الفيلم بمثابة تحدي للنازية مظهراً أن مقاومتها والكفاح ضدها مبدأ أخلاقي كون تشابلن قد التزم بخطه السياسي الاشتراكي الإنساني.

 حياته وإبداعاته

السير تشارلي سبنسر تشابلن sir charles spencer chaplin من مواليد 16 نيسان 1889 في العاصمة البريطانية لندن. حيث كان والده يعمل بالمسرح الموسيقي وبعد فترة وجيزة من ولادته انفصل والداه ليبقى هو في رعاية أمه التي تعمل بالمسرح والشهيرة باسم ليلي مارلي .
وقد ظهرت العبقرية عند تشابلن منذ الطفولة، فقد اعتلى خشبة المسرح لأول مرة في الخامسة من عمره وقد غذت هذه المخيلة أمه التي كانت تجلس بجانب النافذة لتؤدي لابنها الصغير أدوار تمثيلية تعبر عما يدور في الخارج بشكل هزلي ومؤلم بآن واحد.
إلا أن ظروف الأم قد ساءت وزاد اضطرابها النفسي ولم تستطع أن تجد عملاً بعد ذلك فأدخل تشارلي وأخوه غير الشقيق إلى ملجأ للفقراء لينتقلوا بعد ذلك إلى مدرسة "هانويل للأطفال المعدمين واليتامى".
في عام 1903 حصل تشابلن على أول وظيفة ثابتة لتجسيد (شخصية بيلي) الطفل الفقير بائع الصحف وبعدها انتقل ليعمل في استعراض (سيرك المحكمة). وفي عام 1906 أصبح تشارلي مهرجاً محترفاً في شركة مصنع المرح الكوميدية.


وصل تشابلن الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1912 ليعيّنه المنتج (ماك سنيث) للعمل في الاستديو الخاص به بعدما شاهد أدائه لشخصية الصعلوك التي عمل تشابلن على تطويرها من حيث الحركة والليونة والوعي الكامل لحياة فقير عاثر أخلاقي لا ينقصه ليصبح نبيلاً إلا المال، وقد استمر بالعمل على هذه الشخصية الصامتة المتعبة والمرحة باستناده الأساسي على فن التمثيل الإيمائي المدعوم بالفكاهة الحركية والحسية المرتكزة على واقعِ قاسٍ يتألف من طبقتين الأثرياء المنافقين والفقراء العاثرين وقد عبر عنها بمشاهد إيمائية صادقة لاذعة وحقيقية ولا تقتصر على أحد لأنه تناول جميع أنواع الشخصيات من القادة والملوك لرجال الطبقات العليا والأثرياء ثم وجهاء المجتمع ونبلائه لرجال الدين المنافقين والوصوليين ورجال البوليس والقضاة حتى مدراء العمل وصولاً للعمال على اختلاف أعمالهم.
كما تناول الحالات الإنسانية من إعاقات وصفات بدنية ظاهرة وكل ذلك تم بحبكة دقيقة معتمداً على معاناة عاشها هو وكثيرين غيره، وكان ذلك عبر أول ظهور له بشخصية الرجل الفقير عام 1911 وجسد الشخصية عبر تسكعه في الطرقات مرتدياً سروالاً ممزقاً وقبعة مهترئة وشارب صغير كفرشاة الأسنان حاملاً بيده عكازاً يتحسس به الأشياء كالنبلاء منتعلاً حذاءً ضخماً.
قدم تشابلن أول أفلامه القصيرة التي كانت مدته لا تتجاوز 10 دقائق بعنوان (تحت الأمطار).
ومن ثم افتتح فيلم (حياة كلب) فقدم شخصية العامل الفقير المتشرد والعاطل عن العمل الذي يعيش عيشة الحيوانات.
في عام 1916 قدم فيلم (المهاجر) المعبر عن مسيرته بصدق ويرسم فيه رحتله في السفينة المبحرة نحو العالم الجديد لمهاجر فقير محروم من كل شيء يبحث عن حياة أخرى لكنه أخطأ التصويب، إذ يعيد تشابلن بناء تجربته الخاصة في هذا الفيلم الذي تحكمه تناقضات المجتمع الطبقي بينما يتعامل معها تشابلن بسخرية وهزل عميق.
في عام 1921 دخل تشابلن ميدان الأفلام الروائية الطويلة حين أخرج عدداً من الأفلام التي انتقدت وبشدة أسلوب الحياة الأمريكية وفوضاها التي لا ترحم، حيث أخرج فيلم (الولد) الذي استوحى أحداثه من وقائع مرت بطفولته.
في عام 1923 قام بالمساهمة في تأسيس شركة الفنانين المتحدين ليقدم باكورة إنتاجها السينمائي في فيلم (الرأي العام) ثم (الهجمة على الذهب) عام 1925، وفيلم (السيرك) عام 1928، وفيلم امرأة من باريس الذي أخرجه دون أن يمثل فيه.
في عام 1931 وضع أشهر أفلامه (أضواء المدينة) وأعطاه نكهة ميلودرامية جسدت الخلل الواضح بين الفقير والغني وأولوياتهما ومنظورهما للحياة، كما كان للحب في هذا الفيلم الأثر الواضح في تدعيم الصورة الطفولية المتمسكة بالجمال الحقيقي المبهم الذي ليس من السهل التماسه إلا عند أصحاب المعاناة.
وقد اهتم تشابلن بطرح المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية بطريقة كوميدية غير تقليدية مثل مشكلة الصراع الطبقي والإدمان ومشاكل المجتمع الصناعي التي ظهرت واضحةً في تحفةٍ سينمائيةٍ جديدة كانت آخر فيلم صامت له وهو (العصور الحديثة) بعد دخول الصوت للسينما في 1936. حيث انتقد بشدة واقع الطبقة العاملة المسحوقة في المجتمع الصناعي الآثم بتحول الإنسان إلى آلة فقدت الإحساس والشعور كباقي الآلات الأخرى.
جسّد في هذا الفيلم شخصية عامل معدوم على أحد خطوط الإنتاج في أحد المصانع.
وبقي تشابلن محافظاً على الصمت معبراً عن نفوره من السينما الناطقة لكونها بنظره "قتلاً لفن السينما في حين أن الإمساك عن الكلام يشكل عنده رهاناً أخلاقياً".

ومع ازدياد الشرخ بين المفهومين الاشتراكي والرأسمالي، لاقى تشابلن اعتراضات الطبقات الرأسمالية في الولايات المتحدة وخاصة بعد صدور كتابه (قصة حياتي) الذي استعرض من خلاله موضوعات إنسانية شتى، ففُرض عليه عدم دخول أمريكا لمدة استمرت 20 عاماً بسبب انتمائه السياسي. فأخرج تشابلن في هذه الأثناء آخر أفلامه (كونتيسة من هونغ كونغ) في عام 1957.
في عام 1972 حصل تشابلن على جائزة الأوسكار في هوليوود كتقدير رمزي له على كل ما قدّمه من أعمال، إلا أن تشابلن يقول عن أمريكا: (لا يوجد لدي أي حاجة في أمريكا بعد الآن، لن أعود إليها ولو ظهر فيها يسوع المسيح).
بعد ذلك بخمس سنوات وفي 25 كانون الأول عام 1977 توفي تشابلن عن عمر 88 سنة، 63 سنة منها قضاها بالعمل الفني في مسيرة أشبعت بالألم والتعب والإبداع غذتها رؤيته الفريدة في محاولة لصناعة سينما حقيقية خالية من أية شوائب.

 

عالية كريم

رئيسة تحرير "معكم"

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved