في معهد الفنون الجميلة في البصرة تعمل واحدة من هؤلاء النسوة اللواتي لم يعرفن غير العطاء تدعى ام عباس .. عراقية اصابت سهام الحزن العراقي الابدي قلبها فحولت هذا الحزن الى محبة كبيرة غمرت بها طلبة واساتذة هذا المعهد فكانت اماً لهم وكانوا لها نعم الابناء .. نخلة بصرية زرعت في جنبات هذا الصرح التعليمي، مرّ من بين سعفاتها تلاميذ ثم صاروا اساتذة وفنانين كبار لكنهم لم يبرحوا افياءها حتى اولئلك الذين حملتهم رياح المنافي وزرعتهم في كل بقاع الارض لم ينسوا طيبتها وحنانها ولم ينقطعوا عن التواصل معها .
لم يدر في خلد ام عباس تلك العاملة البسيطة التي تكدح لتسد رمق عائلة كبيرة انها ستكون وجها من وجوه شاشة التلفزيون، هذه الشاشة التي لاشغل لها الا متابعة اخبار نجوم الفن والسياسة .. وبث اخبار المصائب والكوارث العربية والعالمية ولم تكن تحلم ان تحتل ملامحها وقسمات وجهها الذي انهكته المعاناة وسنوات التعب لوحة فنية، لقد زرعت المحبة فأثمرت بساتين حب ووفاء في قلوب ابناء بررة .
فائز ناصر الكنعاني معد ومخرج في قناة الفرات العراقية كان واحدا من اولئك التلاميذ الذين تلمسوا مواطن الجمال في روح هذه المرأة المعطاء، وظلت ذكرى طيبتها وامومتها حاضرة في وجدانه وعندما سنحت له الفرصة ليعبر من خلالها عن وفائه وامتنانه لكل ام عراقية خصص حلقة من برنامجه "اهل البصرة " ليقدمها للمشاهدين ضيفة تشتاق كل البيوت لاستضافتها .. وفي هذا البرنامج تحدث عنها اساتذة وطلبة المعهد بكثير من الحب، تابع الفنان فائز رحلة ام عباس الطويلة وهي مستمرة في العمل رغم تقدمها في السن كبيرق عراقي يأبى الانكسار ومن خلالها اطلق صرخة علها توقظ ضمائر ساستنا ليحفظوا كرامة امهاتنا واباءنا ويجعلوا من شيخوختهم واحة امان .
. وفي الوقت الذي كان الفنان فائز الكنعاني يعمل على فيلمه الذي يخلد ويوثق سيرتها كان الفنان التشكيلي حيدر الياسري يفكر ايضا في رد الجميل لهذه الام الحنون برسم بورتريت لها وقد استلهم مضمون اللوحة من هذا الفيلم ووضع عنوانا لها من اللقب الذي اطلقه عليها الاستاذ عبد الرحيم ثامر والذي وصفها بـ (موناليزا المعهد ) فرسم الموناليزا تحمل وجه ام عباس يلف رأسها الغطاء التقليدي (الشيلة) ويمتلئ وجهها بتلك الاخاديد التي يحفرها الزمن كما يحفر الماء مجراه في قلب الصخر لكنه ترك لنا يديها ناعمتين رقيقيتين في اشارة منه الى استمرارها بالعطاء والعمل حتى هذه اللحظة....من حديث ام عباس عن معاناتها ودموعها التي جاهدت حتى تمنع انهمارها اختار الياسري ملامح موناليزا العراق فرسمها بعينين دامعتين وشفتين ضُمَتا لتمنعا تلك الدموع من ان تنال من شموخ هذا البيرق الاصيل . اذا كانت موناليزا دافنشي التي ادهشت العالم بلغز ابتسامتها ونظرة عينيها واحة لتأمل مظاهر الترف التي كانت تعيشها فان موناليزا العراق بلغز شفتيها المضمومتين بقوة وعينيها الدامعتين ستصبح واحة لتأمل معاناة الامهات العراقيات اللواتي وصفهن الشاعر عيسى حسن الياسري برداء الحزن في قصيدته ام عيسى :
الأمهات رداء ُ الحزن ِ يلبسه ُ
نخل - العراق -
حقول القمح
والشجر ُ
لا أم ّ في أرضه إلا وقد جلست
ثكلى
على عتبات الليل ِ تنكسر
http://www.youtube.com/watch?v=uwvFX1SqsI0&feature=related