إذا كانت الجغرافيا السياسية للعراق بوصفه دولة معاصرة أعلن عن قيامها 1921، تبدو حديثة النشوء والتشكل، فالجغرافية الروحية ومنها الموسيقية تعود إلى ما قبل ذلك التاريخ المعاصر بآلاف السنوات، فهي تتصل بإرث عظيم لحضارة وادي الرافدين.
الغني التاريخي في بلاد جلجامش، لطالما كان متنوعا وغنيا، بتنوع تضاريس الأرض وغنى عناصرها، ومن تلك الوقائع الروحية التي تأثرت بالجغرافية الطبيعية والبشرية كانت الموسيقى، والتي لم تكن تنتظم، في تشكيل موحّد، انطلاقاً من عناصر تنوّع عدة، أوله:
*عنصر التنوّع البيئي :
فثمة الجبال والسهول، وثمة البوادي والصحراء، وثمة المسطّحات المائية الواسعة (الأهوار)، وثمة الأنهار، وإطلالة ما على البحر.
*عنصر التنوع البشري:
وضمن كل محيط بيئيّ، كانت تنتظم جماعة أثنية (قومياً ودينياً)، ولكل منها استجابات، تميّزها موسيقياً.
هذا التنوّع البيئي والاثني أثرى أشكال الموسيقى العراقية، فموسيقى الجبال وسكانها الكرد، كصياغات مقامية لحنية وطبيعة إنشاد صوتي وآلات موسيقية تتسارع في محاكاة لطبيعة تدفق المياه من أعلى الجبال إلى عمق الوديان، لكنها ليست شبيهة بتلك التي تنتشر في منطقة، لا تكاد تبتعد عنها غير عشرات الكيلومترات، وهي منطقة أعالي البادية الغربية للعراق،
حيث نمط الحياة البدوية وأنغامها الخاصة التي قد تبدو متشابهة مع باقي امتدادات البادية العراقية.
ولكن ما يوحي بالتماثل والامتداد اللامتناهي للأفق (الصحراء) هو ليس متماثلا تماماً، بالذات حين يخترق نهر الفرات جزءاً منها، لتغدو الأنغام، تركيبية، وتنسحب الرتابة النغمية المنفتحة على أفق ساكن متشابه، هو أفق الصحراء.
هنا كانت الاستجابة الأولى، فبداية كهذه تقود إلى الحديث عن التنوّع النغمي، بحسب البيئات الأخرى، فالأنهار في العراق لم تكن سبباً موضوعياً لقيام المدن حسب، بل ولتنشيط حياة زراعية، انتظمت في مجتمع الريف الذي أنتج صياغاته الروحية موسيقياً، وصولاً إلى منطقة مائية شديدة
الخصوصية، هي منطقة الأهوار، التي لها أطوارها الموسيقية (الغنائية)، على وجه الخصوص، والتي لا تبدو أنها منفصلة كثراً عن طبيعة المنطقة طوبوغرافياً واجتماعياً، وتتميّز بالصعوبة والضنك، ممّا أنتج غناءً في تفصيلاته النصية (الشعر) والأدائية، هو أقرب إلى النواح والندب منه إلى الغناء، بوصفه شدواً.
رياح هندية وأفريقية
ولو وصلنا مناطق أقصى جنوب العراق (البصرة وصولا إلى الخليج)، لأمكننا تحسّس بنى إيقاعية في أنغام تنفتح على أصول إفريقية تارة، وهندية تارة أخرى، شأنها في ذلك، شأن ألوان غنائية- موسيقية في انفتاحها على البحر وسالكيه، وهو ما كان سائداً في البلدان المطلّة على الخليج. وهذا يعطيك مؤشرا على غنى روحي وجمالي نغمي لا تتوافر عليه كثير من المجتمعات والحضارات، بل هو إن شئت درساً كبيرا في ثقافة الانفتاح والاتصال الإنسانية.
غنى المدينة وعمقها الروحي
وحين نصل إلى الحديث عن الحياة الموسيقية في المدن العراقية، ستكون موروثات الحياة البغدادية في مقدمتها، فقد ورثت الحياة البغدادية القديمة، تقاليد حملتها إليها السيطرة العثمانية، ومنها تلك الفسحة التي توفّرها الأنغام والموسيقى، فقد كانت الموسيقى التركية - لفترة طويلة - تمثّل نقطة أساسية ومحورية فيما عُرف عندنا اصطلاحاً بـ "الموسيقى الشرقية". ولعدم وجود نمط متعارف عليه لتقديم تلك الفعاليات الموسيقية- الغنائية، كانت بيوت وصالونات استقبال عوائل النخبة الاجتماعية، تشهد تلك الأمسيّات، وتجتذب إليها جمهرة واسعة من الناس، حتّى أصبح الإنشاد في تلك الأمسيّات ميزة، تنالها عيّنة خاصة من المنشدين المجيدين، وتتفاعل تلك الأمسياّت في مناسبات أكثر حفاوة، وبالذات فيما هو متعلقّ بالاجتماعي من حياة العائلات الموسورة، التي كانت تجد في الغناء والعزف على الآلات نمطاً من أنماط الرفعة الروحية، في الوقت الذي كان الغناء فيه مخدشاً للحياء عند عامة الناس والفقراء تحديداً، حين يكون "التدين" السطحي السائد، مناهضا للتفتح العقلي والروحي.
وما إن تطورت الحياة في بغداد مع اتضاح معالم الدولة العراقية الحديثة في أوائل عشرينات القرن الماضي، بدأت الصياغات اللحنية والموسيقية تنشط في أماكن أكثر انفتاحاً من صالونات البيوت ومناسباتها الشخصية، فثمة الأناشيد في المدارس والمحاولات الأولية في المرح الغنائي، ثم الملاهي لاحقاً، والتي صارت مع وجود فرقة موسيقية بسيطة هي المكان الأول للظهور الموسيقي والغنائي لأسماء بارزة عدة.
وازدهر الغناء البغدادي مع دخول عالم الأسطوانات وصناعتها إلى العراق، فأصبحت شركات الإنتاج الغنائي تتسابق على تسجيل أغنيّات كثرة، وهذا ما شجّع التطوير ومحاولات الاجتهاد في تقديم ألوان غنائية عدة: الريفية، إلى جانب المدينية وأبرزها "المقام العراقي".
الجغرافيا الثقافية للموسيقى العراقية
لقد كان للانفتاح السياسي والاجتماعي - الثقافي، والحداثة (شركات الإنتاج (، الإسهام الأبرز في خلق أجواء تطور الأشكال الفنية في الموسيقى، وهذا لا يلغي دوراً أساسياً للدولة، فقد كانت الانتقالة الأبرز في الحياة الموسيقية العراقية، هي التي تمثلت بوصول الشريف محيي الدين حيدر (حجازي الأصل تركي المقام والثقافة) وأشرافه، بطلب من الحكومة العراقية، على أول معهد موسيقي رسمي في بغداد عام والذي وضع - فعلياً - أسس نقل الموسيقى في العراق، من عمل شفاهي فطري إلى عمل معرفي مدروس، فحدد برصانة مهماّت للمعهد الذي صار ورشة الحداثة الثقافية في العراق، ومن تلك المهمات:
*طريقة قبول الطلاب، ودراستهم في المعهد للنظريات ولآلات الموسيقية.
*الموسيقى الوطنية، وكيفية تنشيطها.
*إحياء النشيد الموسيقى في المدارس الابتدائية (الأساسية)، كأول اتصال للنشء الجديد مع النغم الرفيع.
*رفع مستوى الموسيقى، ودورها في تهذيب النفوس جماعياً.
وليس من باب الصدفة أن يكون من تلامذة الشريف محيي الدين حيدر، أبرز موسيقيي العراق المعاصرين، تأليفاً، أو مهارات في العزف على الآلات الموسيقية، وفي مقدمتها العود، وهم: جميل بشير، سلمان شكر، منير بشير، غانم حداد، وغيرهم.
وكان الشريف محيي الدين حيدر، يؤكد ضرورة إظهار الملامح الخاصة في أعمال الموهوبين موسيقياً، فقد أتاح نهجه في جعل التقاسيم على آلة العود، قادراً على تخطّي الحدود التطريبية إلى آفاق التعبير الراقي، فقد انقسم الفنانون الأربعة إلى فريقين: واصل أحدها العزف منفرداً، بطريقته الخاصة مثل الفنان سلمان شكر الذي حافظ على أسلوبه، وطريقة تفكر أستاذه، أما الفريق الثاني، والمتمثّل بجميل بشير، على وجه الخصوص، فقد اتجه إلى دراسة ما لم توفّره لهم مدرسة أستاذهم، وتقرّبوا إلى محيطهم الموسيقي المتمثل بالمقامات العراقية، والألوان الريفية، و(البستات( العراقية - أي اللوازم الغنائية الشعبية، ودفعها إلى مصاف التعبير الراقي بعد إعادة تقديمها وتوزيعها.
وكان الانتقال من التناسق الجغرافي- الثقافي إلى الفوضى الاجتماعية الثقافية كما مثلها حدث 14 تموز/يوليو 1958 مؤشراً لانهيار التراتب الاجتماعي، وبالتالي التراتب القيمي والفكري للمجتمع العراقي. وبوصول الرموز "الشعبية" للسلطة، اختلطت الأشكال الروحية، ولتضيع ملامحها في فوضى الوضع الاجتماعي، فأصبح مع غياب التنافس بين شركات الإنتاج الخاص في الوسط الفني، وتحوّل الفنون والثقافة إلى سيطرة الدولة، واستخدام الموسيقى في الدعاية الوطنية، بإمكان المسؤول "الأمي" ذوقياً، أن يحدّد ما شكل الغناء والموسيقى الذي تسمعه "الجماهير"، اعتاداً على مسؤوليته الوظيفية المطلقة التي كرّستها لا الكفاءة، وإنما الولاء للسلطة. وإزاء سيطرة الدولة على مرافق الإنتاج الفكري والفني، ضاعت المبادرة الفردية المبدعة، وضاع غنى التعدد البيئي والثقافي للأنغام.
في مثل هذه الأجواء ضاع الشكل المديني لأداء، ضاعت الملامح بين موجات الهجرة إلى المدينة من الريف، وضاعت الأغنيّة البغدادية، في نهاية الستينيات، وأصبح ابن المدينة يسمع أغنيّات، لا تخفي لهجتها الريفية، أو البدوية، في الوقت ذاته، الذي بدأت الأصول الفلاحية والبدوية تتحكّم في نمط حياة المجتمع والبلد ككل، ليضيع بذلك ذلك الغنى الجغرافي – الثقافي لصالح "تصحر" النمط السائد، مع إن المشهد النغمي لا يتأسّس في مجال الغناء الشعبي وحسب، بل أن مجالات الموسيقى الرصينة ظلّت عصية بعض الشيء على "فوضى التحوّلات" الجغرافية الاجتماعية والذوقية، أولاً لقوة مراس فنّانيها، وثانياً لرسوخ الأصالة اللحنية لأشكال موسيقية، ليس من السهولة محو تأثيرها الروحي.