أمضَيتُ من حياتي، وقتَها الأطولَ، بين سطور الكتاب وصفحاتِه، بل تعدّى ما أصدرتُه من كتُبٍ، المائةَ، عدّاً ...
هكذا آتاني الكتابُ حكمةً ما .
ليس شرطاً أن ما أُوتِيتُهُ من حكمةٍ، سوف ينفعُني، أو ينفع الناسَ .
حكمتي هي حكمةُ الحمقى، لا حكمةُ ذوي الألباب .
ذوو الألباب، لا تعنيهم حكمتي، التي تدعو إلى الجهرِ بالقول، ومناهضة الظلم، وممالأة الإعتراض، إذ أن ذوي الألباب هؤلاء معْنيّون بالزائل والزائف من أموالٍ وأعمالٍ، عارفون بمآكلِ الكتِفِ معرفتَهم بأسمائهم .
قبل يومين، صُغْتُ، وأنا في سِنةٍ من النومِ، حكمةً، لكنْ باللغة الإنجليزية .
It is preferable not to milk a dead cow.
هذه الحكمةُ تجيء بالعربية كالآتي :
خيرٌ ألاّ يحتلبَ المرءُ بقرةً ميّتةً ...
*
أعني بالبقرة الميتة، ثقافةَ العرب الراهنة .
*
إذاً ... ها أنذا قد دبّجْتُ ديباجةً .
عجبي !
*
من مِهَنِ الاحتيالِ التي جاء بها الزمانُ الفاسدُ، مُقاولُ الصحافة والثقافةِ .
هذا المقاولُ هو أنموذجُ الجاهلِ ومثالُه، وهو الغبيُّ، لكنْ البارعُ في استعمال الهاتف الذكيّ، والبسمة الكاذبة، والبدلة الأنيقة . هو أيضاً العارفُ بالمقصف والملهى والنادي الليليّ ذي فتَياتِ المواعيدِ .
*
مقاولُ الصحافة والثقافة، لا يفقه أمراً من أمورِ الصحافة والثقافة، لكنه ينجح بسببٍ من " فهْلوَتِه " في الحصولِ على صفقةٍ يُصْدِرُ بموجبِها، مجلةً، أو صحيفةً، بالعربية أو سواها، كما ينجح بسببٍ من الفهلوةِ ذاتِها في تأسيس جمعية أو منبرٍ أو جماعةٍ .
إلاّ أن هذا المقاولَ الأوّلَ، الجاهلَ بالصحافة والثقافةِ، سوف يواجه عقَبةً أولى : كيف ينفِّذُ مقاولتَه أو مقاولاتِه ؟
آنَها يستعين بمقاولٍ ثانويّ، مثقّفٍ بلا ضميرٍ، ولا شرفٍ، ليتولّى المشروعَ .
*
أنا الآنَ أنظرُ من النافذة :
سماءُ لندن، في هذا الضحى العالي، مصفّحةٌ بالرصاص . الهواء مبتلٌّ . والعشبُ نضيرٌ .
*
في لندن، شأنها شأن حواضر المتروبول الأخرى، يتوالَدُ مقاولو الصحافة والثقافة، كالفِطْر .
أسرعُ وسيلةٍ للثراء، أن تحظى بمقاولةِ صحافةٍ أو سلاحٍ، في هذه الأمّةِ من التجّارِ والمحاربين :
A nation of traders and warriors.
*
في لندن، وسواها، عدد من الصحف، تحمل الواحدة منها ما ينسبها إلى العرب، وهي ليست من العروبة في شيء.
والمقاولون الثانويّون في هذه الصحف، هم الأكثر جهلاً، وبُخلاً، وفساداً .
إنهم ضد أمّتِهم، في السياسة والثقافةِ .
يتعالَونَ على ذوي العِلمِ والشرفِ والمبدأ، ويلعقون نِعالَ المقاولِ الأولِ، وسادتِه من ذوي البراميل .
*
أحياناً أتساءلُ :
هذه الصحف لن يقرأها أحدٌ، لا ورقيّةً، ولا شبكيّة .
كُلفةُ هذه الصحفِ غيرِ المقروءةِ، فادحةٌ، في مُرتبَعٍ مثل العاصمة البريطانية .
إذاً، ما السببُ في إصدارِها ؟
*
أزعمُ، بعد مُقامي المديد هنا، أن السبب، يتمثّلُ في أن الصحف المشارَ إليها، تساعدُ في إيجادِ مقرّاتٍ،
وإدامة كوادرَ، لدوائرِ معلوماتٍ عائدةٍ إلى البلدان التي هيّأت كلّ المستلزماتِ لإصدار الصحف .
أمّا المقاولُ الأول، والمقاول الثانويّ، فليسا سوى بيدقَينِ في لُعبةٍ متّفَقٍ عليها، بين المتروبول ودوائرِ المعلوماتِ تلك .
*
ألم تسمعوا بحكمة الأحمقِ الذي هو أنا :
It is preferable not to milk a dead cow ?
لندن 05.01.2016