أوجَينْ جييفِكْ Eugene Guillevic 1907-1997 شاعرٌ بريتوني ( أي من منطقة بريتون ) الساحلية .
اللغة الأصلية لأهل المنطقة هي البروتانيّة، لكن اللغة الرسمية للتعليم والإدارة هي اللغة الفرنسية .
في مُقامي الباريسي، انعقدت بيني وبين أوجين جييفِكْ، صداقةٌ مثمرةٌ، وكنت كثير التردّد على منزله، ألقاه هناك مع زوجته " لوسي " الـمُرَحِّبة، ذات الوجه المتهلِّل . كنت أتردّدُ في التكلُّم بالفرنسية أمامه، خشيةَ هِناتٍ في النحو أو تصريف الأفعال .
في أحد الأيام قال لي : Saadi ! Ouvre ta bouche !
يا سعدي ... افتحْ فمَكَ !
بعدَها صارت زياراتي أقلّ مشقّةً ...
وصارت أحاديثُنا سلسةً أو تكاد.
كان يحدّثُني عن طفولته، عن أبيه، عن علاقتهما بالبحر . سألتُه عن معنى جييفِك بالبروتانيّة، أجاب :
معناها الشيطان الصغير !
وعندما كان يحدِّثني عن تعليمه قال : أُرغِمْتُ على تعلُّمِ لغة المستعمِر والكتابة بها ...
أي أنه يعتبرُ اللغة الفرنسية لغةَ مستعمِرٍ .
زار جييفِك جمهورية اليمن الديمقراطية، عندما كنت هناك، ورافقت أوجين ولوسي حتى حضرموت وواديها القاحل، الذي كان نضراً في العصور الخوالي .
*
أردتُ بعد هذه " الديباجة " المسهَبة، أن أبلغَ نقطةً معيّنةً، هي الموقف من لغةِ المستعمِر .
نحن، في تراثنا، نطلب العِلمَ ولو في الصين ...
ونقلْنا إلى عربيّتنا الجليلة الجميلة، آثاراً جليلةً من لغاتٍ شتّى : اللاتينية واليونانية والسريانية والفارسية، وقد تشرّبتْ حضارتُنا ما نقلناه حتى غدا النقيلُ أصيلاً .
أيّامَها كنا أمّةً غالبةً، وقوّةً قاهرةً .
*
لكنّ يومَنا، اختلَفَ ...
بمعنى أننا لم نعُدْ أمّةً غالبةً . الآخرُ يستضعفُنا حتى القهر والـمَذلّة .
حتى لغتُنا لم تَعُدْ لغتَنا . أي أننا ضائعون بين هذه العامّيّةِ وتلك .
وصغارُنا، في بقاعٍ كثيرة من ديارنا، يتلقّون نطقَهم الأول من مربِّياتٍ غيرِ عربيّاتٍ، فإذا ترعرعوا أُدخِلوا مدارسَ أجنبيّةً، تجعل ألسنتَهم معوَجّةً حين يحاولون العربيةَ ... ( وهي لغةُ أهلِ الجنّةِ ) كما يقال !
*
هذا، كلّه، ليس فادحاً حدَّ اللعنة .
فالأممُ ِقد تعرفُ، مثلَنا، فتراتِ وهَنٍ، ممكنة التجاوز، حين يتعمّقُ الوعي .
لكننا لسنا من الوعي في بحبوحةٍ .
أقولُ هذا وأنا أجدُ التيّارَ الغالبَ في أعمال النقل والترجمةِ، مَعنِيّاً بأن ينقلَ من لغاتِ المستعمِر، نتاجَ ثقافةِ المستعمِر .
أي أنه غيرُ معنِيٍّ بأن ينقلَ، عبرَ لغةِ المستعمِر، ما تقدمه إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، من ثقافة وعِلمٍ .
كما أنه، بسببٍ من طبيعة التكوين الثقافي، غير قادرٍ على أن ينقلَ إلى عربيّتِنا، آثاراً مكتوبةً بلغات آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية .
*
يقال إن التثاقُفَ أخذٌ، وعطاءٌ .
لكننا نأخذ، ولا نعطي .
بمعنى أننا نأخذ من الآخر، ولا نعطي الآخَر شيئاً منّا .
نحن لا نحاولُ الترجمة المعاكسة، أي أن ننقل أعمالَنا إلى الآخر .
وفي كثير من الأحيان، يتولّى الآخر، لا نحن، نقل أعمالنا إلى لغة الآخر، كما هي الحال لدى نجيب محفوظ، ومحمد شكري ( المغربيّ )، على سبيل المثال .
*
رحلَ أوجين جييفِك ...
لكن كلماتِه ظلّت ترِنُّ رنينَها المدَوِّم ...
لغةُ المستعمِر !
لندن 22.12.2015