يحكى أن أرضا خصبة كانت تستريح تحت أشعة الشمس المشرقة، تعاشر الماء والريح وتنمو على وجهها الحقول اليانعة الخضراء؛ فلا تتوقف عن زيارتها السحب المثقلة بخير المطر . عاش فيها طائرا نعام وحجل، فاعتنيا بها وزرعاها بأصناف الحبوب والثمر، ولما كانت الأرض كريمة بالخيرات فقد جادت بشتى أنواع المحاصيل؛ وعاشا في بحبوحة من غلال تجود بها سماء كريمة وأرض خصبة معطاء . عاش الشريكان الواحد بجانب الآخر طوال ما كُتِبت لهما الحياة .
نعمت الأسرتان بالوئام سنوات طويلة حتى مات الأبوان . هكذا انتقل ميراث المزرعة إلى ولديهما حجل ونعامة؛ والنعامة سافرت يوما وغابت لسنوات طوال، تركت خلالها رعاية المزرعة على عاتق شريكها الحجل، وقد أخلص بالعمل والعناية بالمزرعة بأمانة وجهد لا يعرف الكلل . كان الحجل خبيرا يتقن الزراعة، ويعرف أسرار العناية بالأرض وكنوزها، فأخلص لها وعمل باجتهاد طيلة غياب النعامة، مستكملا مسيرة والده رحمه الله، عندما كان يراقبه كيف كان يقدِّس الأرض .
لكن السفر والترحال والحنين للوطن الأول، كان قد أضنى النعامة بعد سنوات من الغياب، وألحت الغربة عليها بالعودة للديار، لتجد المزرعة غنية بالمحصول أكثر من ذي قبل . وحينما ارتاحت واستقر بها المقام، تقدمت باقتراح للحجل يقضي باستخدام الأساليب الزراعية الحديثة، التي تعرفت إليها خلال زمن الغياب . هذه الآلات الجديدة المبتكرة ورشاشات المياه والأسمدة والمبيدات ستضاعف الغلال . لكن الحجل أصر على البقاء على أسلوبه المتوارث عن أبيه، فها هي الأرض تثمر كما كانت وأكثر، وهي لا تحتاج إلاّ لمن يزرعها، ويعتني بها ويروي أرضها .
بعد نقاش وجدل واختلاف اتخذا قررا بتقسيم المزرعة، فيتعامل كل واحد مع حصته كيفما يقتنع وبما يرغب أو يشاء . وهنا اعترض الحجل مرة ثانية على شريكته النعامة وطالب بالجزء الأكبر من الأرض، لأنه وحده من اعتنى بها خلال سنوات طويلة من الغياب . رفضت النعامة وقالت : أنا اكثر منك علما والأكبر حجما بين الطيور، وهكذا فمن حقي وحاجتي أن أنال الجزء الأكبر .
قال الحجل : أيتها المغفلة المغرورة، إن كنتِ حقا الأكبر حجما بين الطيور، فإنك الأقل دراية وحكمة وذكاء، فرأسك فارغ إلا من عقل صغير، لا يزيد حجمه عن النملة بمقدار . أنا صحيح لم أدرس فن الزراعة الحديث، إلّا أنني أكثر خبرة ودراية منك بما تحتاجه الأرض، فقد قضيت سنوات طويلة في التعامل معها، ومن يجرب ليس كمن يدعي المعرفة . ألم تسمعي عن ذكائنا وحنكتنا نحن طيور الحجل ؟ ناهيك عن أصواتنا العذبة الساحرة ورفرفة أجنحتنا تسلب الألباب ؟
غضبت النعامة وقالت : لكنك غير جدير بالنظر إلى بعيد لحراسة الممتلكات . أما ساقاي فطويلتان وسريعتان ومميزتان بمخلبين حادين للدفاع عن الأرض، ورقبتي طويلة جدا ولا تتواجد إلاّ فينا نحن معشر النعام . مما يسمح لي ويساعدني على تحريك رأسي في كل اتجاه لحراسة الأرض .
ضحك الحجل وقال : أيتها الغبية يا أمَّ الساقين الطويلتين والعقل الصغير! إن كنت سريعة بفضل ساقيك، فأنا مشهود لي بسرعتي وأنا أعدو على الأرض، وأطير محلقا في الفضاء وهو ما تعجزين عن القيام به، عدا عن براعتي في التمويه والتخفي بين الصخور على الآكام، فأنا يا صديقتي اكثر الطيور صداقة للبيئة وأعرف كيف أحميها جيدا، فكيف تتجرئين على الادعاء بحماية المزرعة !؟ وأنت الجبانة التي تهرب من الصعاب، و تدفن لغبائها رأسها في الرمال ؟
قالت النعامة دون أن تواري غضبها : هذا ادعاء فارغ وأسطورة كاذبة حاكها الناس . لست جبانة مثلك أموه نفسي بين الصخور، بل أخفض رأسي وأدسّه في الرمال وأضع أذني على الأرض لأسمع الخطر المقبل، وأنا شديدة البأس في مقارعة الأعداء، وفي رفستي قضاء على الخصم .
وهكذا احتدم النزاع بينهما أكثر وأكثر، وارتفعت معه أصوات الخلاف، عندما أخذ كل واحد يتباهى بصفاته الحميدة ويندد بعيوب الأخر؛ وهنا تدخل غراب عجوز كان يقف قريبا على شجرة، يراقب ويسمع ما يدور من الحوار بين الشريكين . فاقترح أن يتولى الحكم بينهما لأنه كما ادّعى، يعرف المزرعة منذ نعومة أظافرهما، وشاهد على ما جرى في ماضيها وحاضرها .
طلب الغراب من النعامة بصفته القاضي أن تزوره في النهار، أما الحجل فضرب له موعدا في المساء . وعندما وصلت النعامة في الموعد المحدد عند رابعة النهار، أقبل عليها الغراب يقول : إن منحتني جزءا من محصولكِ حكمت لك بالحصة الأكبر من المزرعة . وهكذا وافقت على الطلب؛ وعندما أقبل الحجل مساء قال له الغراب : إن منحتني جزءا وافرا من محصولك، لحكمت لك بحصة أوفر، فانطلت عليه الحيلة وقبل الحجل طلب الغراب، كما فعلت النعامة وقت النهار .
حملت النعامة كمية وافرة من المحصول وقدمته للغراب وقالت : هذا ما اتفقنا عليه فلا تتأخر وتصدر حكمك اليوم . قال الغراب : أحوالي مضطربة هذا النهار، فالألم يشتد على رأسي بفعل الصداع، غدا يكون موعد إعلان الحكم؛ ولو أعطيتني المزيد من المحصول لحكمت لك بجزء أكبر من حصة الأمس . قبلت النعامة وغادرته، ليزوره بعدها الحجل ويقول له ما قاله للنعامة .
وفي اليوم التالي زارته النعامة وأعطته الرشوة وقالت له : هذا ما بقي عندي فمتى تصدر حكمك، وتخصصني من المزرعة بالحصة الأكبر؟ قال الغراب : استيقظت صباحا عازما المجئ إليك، فوجدت باب منزلي مخلوعا، والمحصول قد اختفى ولا أدري من سرق منزلي؛ فلتأتني بالبديل الضائع . قبلت النعامة وغادرته بغضب، وما فعله الغراب مع النعامة فعله أيضا مع الحجل .
شاهد الحجل في اليوم التالي ما فعلته شريكته، وكانت تتأهب للخروج وهي تحمل جزءا آخر من المحصول، وتتوجه صوب بيت الغراب عندما ضبطها وهي ترشوه وتقدم له مزيدا من المحصول، كما شاهد الغراب ينقل المحصول من منزله، و يخبئه في مكان بعيد عن العيون .
عاد الحجل إلى منزله وأخبر النعامة بما رأى . هكذا انكشفت حيلة الغراب للشريكين وقررا تلقينه درسا لا ينبغي أن ينساه، حينما أخذت النعامة قطعة من الذهب، وتوجهت بها إلى بيت الغراب وكان ينتظرها على الباب، متوقعا أن تحمل له المزيد من الخيرات . قالت له : عجبا مما يحصل في هذه الأرض !؟ زرعت قطعة ذهب واحدة وجنيت منها قطعتين . طمع الغراب بالذهب وقال :
هذه قطعة من الذهب الخالص، كنت أدخرها للآتي من الأيام الصعبة، وأريدك أن تستغليها لي في الزراعة مقابل الحكم لصالحك . وهكذا أعطاها الغراب القطعة الذهبية التي بحوزته . وفي اليوم التالي عادت له بقطعتين؛ فعاد وأعطاها كل ما معه من الذهب طمعا بالمزيد من الأرباح ؟
لكنها في اليوم الثاني عادت إليه بحطب يابس وقدمته للغراب . قال الغراب: ما هذا !؟ قالت له : قطع الذهب التي أعطيتني لم تنتج إلاّ حطبا يابسا . غضب الغراب غضبا شديدا وقال لها : كيف خدعتِني أيتها المحتالة أن الأرض تنبت ذهبا ؟ فتبسمت النعامة وقالت له : ومتى كانت الأرض تنبت ذهبا لامعا يعشقه الغراب !؟ مواسم الأرض وغلالها؛ هي الذهب بعينه أيها العجوز الطماع .