الفنانة نعيمة الملكاوي درست التشكيل في الشارع
وقايضت الصباغة بخاتم من ذهب
كانت طفلة عندما رمت بالدمية لتعوضها بقلم الرصاص والأقلام الملونة، لم تكن تدري أنه من خلال خربشات أناملها البريئة ستصنع غدها الفني , لم تكترث بتقريع والدتها التي كانت تعتبر أن الرسم مضيعة للوقت، لكن عانت آنذاك كثير من الأسى كونها لم تنل التشجيع من أسرتها لتدرس الفن التشكيلي الأكاديمي، فكان الشارع مدرسة حقيقية لتدرجات اللون وحركيته ..
تستحضر الفنانة التشكيلية نعيمة الملكاوي لحظة البدء وتقول :
ككل الأطفال أغواني فضول الإكتشاف لهذا العالم الذي يحيط بي , لم يغريني امتطاء صهوة الشغب لافتضاض بكارة الأشياء، لكنني أهتديت لأداة تشبهني , لا تحدث الضجيج ولا تحتاج للصخب، كنت كائنا صامتا أهمس لبياض الورق وأخط أشكالاً، وجوهاً بورتريهات لشعراء كالمتنبي وأبو فراس الحمداني، كنت أنسخها من كتب أُختي الكبرى، لكن كانت أُمي لا تكف عن تقريعي، تطلب مني أن أنصرف لشيء ما يجدي لأن ما أقوم به مضيعة للوقت، لم أهتم بتعليقاتها، ولم تثن عزيمتي لأمارس متعتي في الرسم، كنت بالموازاة متابعة وفية لبرنامج للأطفال بالقناة التلفزية المغربية آنذاك وعمري لا يتعدى الثامنة ربيعا، وفي إحدى الحلقات عُرض إعلان عن مسابقة للرسم، فتقدمت للمباراة، وفزت، فطلب مني المنظّمون , أن أحمل نماذج من رسوماتي, و منحت لي البطاقة لألج مبنى التلفزة كتأشيرة عبور والمشاركة في البرنامج الذي كان يسهر عليه آنذاك الإعلامي عبد الله الفيلالي ,
مدرسة الشارع
تسترسل الفنانة الملكاوي في الحديث وتقول :
كان لابد لي أن أبحث عن ضفاف لهذه "الموهبة..المتعة" التي أحملها داخلي، لذا تحينت سن السابعة عشر كعمر يؤهلني لأخرج للشارع لأقيس مدى مصداقية ريشتي خارج جدران البيت، حملت أوراقا بسيطة وأقلاما وألوانا متواضعة، لأن ظروفي المادية كانت صعبة ولم أكن أتوفر على قماش وحامل للّوحات، ولايمكن أن اطلب النقود لشرائها لأن اهلي أصلاً غير راضين عن ما أقوم به، اتجهت لنزهة حسان بمدينة الرباط حيث أقطن، وبدأت أرسم واضع رسوماتي جانبا، كان المارة يتوقفون باهتمام بالغ، يطالعون هذه الشابة المنهمكة في الرسم، لقيت كثير من الإقبال، ومكوثي شبه اليومي أطلعني على الجوانب الحقيقية من الحياة فضاءآت، أناس بألوان وأطياف، وحكايات مختلفة، كنت أصغي إليها ليس دائما عبر الأذن، فالعين تجيد السمع أيضا، كما انطلقت للإطلاع على كتب الفن التي لم تكن لي طاقة اقتنائها فكنت أتجول في المكتبات أنتقي كتابا واقرأه، ومن تم أضع علامة على الصفحة التي توقفت فيها، لآتي اليوم التالي لإتمامه، وهكذا كونت بنك معلومات حول الفن التشكيلي مدارسه تقنياته، لكن توصلت لشيء مهم كلما تدرجت في عالم التشكيل، أنني كنت محظوظة جدا لأنني لم أدرس التشكيل أكاديميا، وأشكر عائلتي لانها دون قصد حرمتني من ذلك، وإلّا لازلت اقبع تحت قيود القواعد الجامدة، فيما الإبداع يحتاج لموهبة تصقل ميدانيا ولكثير من الحرية والتحرر .
مقايضة من ذهب
تستردف الملكاوي مشوارها الفني وتقول :
بدأت أتطلع لاثباث الذات من خلال تنظيم معرض فردي لكن بمواصفات احترافية، لذا كنت أحتاج للكثير من الإمكانيات المادية بالأساس . فقصدت محلا لبيع الصباغة، ولم يكن في جعبتي فلسا، خلعت خاتمي الذهبي من إصبعي الذي كان هدية من أختي الكبرى، قايضت به البائع، لم يقبل بهذه المقايضة، وقال لي: يمكنك أن تأخذي الكمية التي ترغبين من الصباغة، وحينما توفرين ثمنها يمكن أن تدفعي لي، فرحت وذهلت من ثقته، وفعلاً تم ما اتفقنا عليه، وبالموازاة بحثت عن سوق لعرض رسوماتي، بعتها بأثمنة زهيدة لسماسرة الرسم، كنت أدخر جزءاً من المال لتوفير إطارات لوحاتي المفترضة ولافتتاح يليق بانتصار فردي، فيما المبلغ المتبقي أشتري به القماش والصباغة الزيتية والفرشاة التي أرسم بها لوحاتي التي تغازل وجداني وتستفز مشاعري، وبقيت على ذلك الحال لأربع سنوات حتى كونت مجموعة كبيرة، وتقدمت لمديرية الفنون بالرباط التابعة لوزارة الثقافة بطلب تنظيم معرض شخصي والذي نال الكثير من الإستحسان، ومن ثم بدأت رحلتي الحقيقية مع الفن التشكيلي، وتوقفت كليا عن التعامل مع السماسرة، لم يعد لي هناك مشاكل مادية تدفعني للتنازل، أصبح لدي زبائن دائمين، وعرضيين أيضا من زوار الأروقة وقاعات العرض التي تحتضن أعمالي
عطش الترحال
,بعد أكثر من عقدين من العطاء الفني، وبعد تجربة التدريس للفن التشكيلي وتنشيط برامح تلفزية فنية بالمغرب، شدت نعيمة الملكاوي الرحال إلى فرنسا وعن سر هجرتها تقول :
أعتقد أن أكثر من عقدين من التجربة الفنية بالمغرب استوفت شروط النضج الفني، لكن نحتاج دائماً لضفاف أُخرى مختلفة حتى لا يخبو هذا النضج ويتراجع، ولنقيس مدى قدرة التجربة أن تستفيد من ثقافة الآخر دون الإنصهار فيها وفقد الهوية الفنية الاولى، لا أعتبرها هجرة بل هو ترحال حينما يجف نبع المكان فتبحث عن منابع أخرى لتروي العطش، فانا أنتمي لمدرسة الحياة، لا أحب القيود، أعشق الإنفتاح وأرفض الهويات الضيقة، وهذا يظهر جليا في أعمالي، فقد عبّرت بكثير من اللغات الفنية، من الواقعية مروراً بالطبيعة الميتة ثم التجريدية إلى السوريالية، وإن كنت أرتاح في هذه الأخيرة كثيرا، فأنا أكسر بعضا من قواعدها، حسب اللحظة، وقد شمل هذا إطار اللوحة أيضاً، حيث اعتمدت في كثير من الأحيان على أشكال مختلفة دائرية مستطيلة وغيرها، تجاوزاً لذلك الإطار التقليدي الذي يقيد اللوحة ويسجنها، ومن جهة اخرى أتاح لي الإستقرار بفرنسا دخول غمار تجربة جديدة ألا هي مجال الهندسة المعمارية، حيث استطعت أن أمنح المعمار الفرنسي بصمة ثقافتي المغربية، فبحكم أن زوجي مهندس اقترح علي أن أتلقى تكوينا هندسيا لأساعده بشركته الهندسية، أعجبتني الفكرة خاصة أنني لن أبتعد عن مجال الرسم، وانخرطت في دورات تكوينية ومن تم وأنا أزاوج بين التشكيل والهندسة المعمارية، وأضفت الكثير لترسيمة المعمار، حيث أوظف ثقافتي المعمارية وأمزجها بالغربية، مما يمنح جمالية إضافية للبنايات التي أشتغل عليها، سواء على مستوى الألوان والواجهات وأيضاً الديكور الداخلي مما يبعث الكثير من الدفء في المعمار الغربي .
نظرة الآخر
منذ استقرارها بفرنسا أقامت نعيمة الملكاوي الكثير من المعارض التي لاقت الكثير من الإهتمام وعن نظرة الأجنبي لعملها تقول :
انطلاقا من تجربتي والمعارض التي أقمتها بفرنسا، فالعمل هو الذي يوجه نظرة الآخر لنا، وقد رأيت لوحاتي في عيون هذا الآخر، الذي أبدى الكثير من الإهتمام ليعرف ماهية الحكايات التي ترغب الأعمال قصها، فكل قطعة فنية تروي قصة وحكاية، وتختلف من فرد لآخر من جنسية لأخرى ومن ثقافة لأخرى .
بيولوجية اللوحة
وعندما نسأل الملكاوي عن مدى قناعتها بالأبداع النسائي فتلخص رأيها بأنها تجد أن ليس هناك ما يسمى بالإبداع النسائي ولا تتفق مع هذا الطرح وتدافع عن وجهة نظرها قائلة :
نوع الجنس يختفي في الإبداع، فالروح هي التي تحضر في اللوحة، والروح لا تخص الرجل او المرأة، بل تشملهما وتجمعهما لكون كل منهما يمثل" الإنسان، فالعمل الفني هو روحاني بالأساس، ولا يتعاطى مع المادة التي تمثل الجسد وخصوصياته البيولوجية ...